تفسير سورة الاسراء الايات من 105 الي111.
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
============
الإسراء - تفسير ابن كثير
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آَمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)
{ وَبِالْحَقِّ أَنزلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نزلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنزلْنَاهُ تَنزيلا (106) }.
يقول تعالى مخبرًا عن كتابه العزيز، وهو القرآن المجيد، أنه بالحق نزل، أي: متضمنًا للحق، كما قال تعالى: { لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزلَ إِلَيْكَ أَنزلَهُ بِعِلْمِهِ } [ النساء: 166 ] أي: متضمنا علم الله الذي أراد أن يُطْلِعكم عليه، من أحكامه وأمره ونهيه.
وقوله: { وَبِالْحَقِّ نزلَ } أي: ووصل إليك -يا محمد -محفوظًا محروسًا، لم يُشَب بغيره، ولا زِيدَ فيه ولا نُقص منه، بل وصل إليك بالحق، فإنه نزل به شديد القُوى، [القَوِيّ] (1) الأمين المكين المطاع في الملأ الأعلى.
وقوله: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ } أي: يا محمد { إِلا مُبَشِّرًا } لمن أطاعك من المؤمنين { وَنَذِيرًا } لمن عصاك من الكافرين.
وقوله: { وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ } أما قراءة من قرأ بالتخفيف، فمعناه: فصلناه من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا، ثم نزل مُفرقًا منجما على الوقائع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاث وعشرين سنة. قاله عكرمة عن ابن عباس.
وعن ابن عباس أيضًا أنه قال { فَرَقْنَاهُ } بالتشديد، أي: أنزلناه آية آية، مبينًا مفسرًا؛ ولهذا قال: { لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ } أي: لتبلغه الناس وتتلوه عليهم { عَلَى مُكْثٍ } أي: مَهَل { وَنزلْنَاهُ تَنزيلا } أي: شيئًا بعد شيء.
{ قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا (108) وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) }.
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: { قُلْ } يا محمد لهؤلاء الكافرين بما جئتهم به من هذا القرآن العظيم: { آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا } أي: سواء آمنتم به أم لا فهو حق في نفسه، أنزله الله ونوه بذكره في سالف الأزمان (2) في كتبه المنزلة على رسله؛ ولهذا قال: { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ } أي: من صالح أهل الكتاب الذين يُمَسَّكون بكتابهم ويقيمونه، ولم يبدلوه ولا حرفوه { إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ } هذا
__________
(1) زيادة من ت، ف، أ.
(2) في أ: "الزمان".
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
القرآن، { يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ } جمع ذَقْن، وهو أسفل الوجه { سُجَّدًا } أي: لله عز وجل، شكرًا على ما أنعم به عليهم، من جعله إياهم أهلا إن أدركوا هذا الرسول الذي أنزل عليه [هذا] (1) الكتاب؛ ولهذا يقولون: { سُبْحَانَ رَبِّنَا } أي: تعظيمًا وتوقيرًا على قدرته التامة، وأنه لا يخلف الميعاد الذي وعدهم على ألسنة الأنبياء [المتقدمين عن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قالوا: { سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا } ] (2) .
وقوله: { وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ } أي: خضوعًا لله عز وجل وإيمانًا وتصديقًا بكتابه ورسوله، ويزيدهم الله خشوعًا، أي: إيمانًا وتسليمًا كما قال: { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } [ محمد: 17 ].
وقوله: { وَيَخِرُّونَ } عطف صفة على صفة لا عطف سجود على سجود، كما قال الشاعر:
إلَى المَلك القَرْم وابن الهُمام ... وَلَيْث الكَتِيبَة في المُزْدَحَمْ ...
{ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111) }.
يقول تعالى: قل يا محمد، لهؤلاء المشركين المنكرين صفة الرحمة لله، عز وجل، المانعين من تسميته بالرحمن: { ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى } أي: لا فرق بين دعائكم له باسم "الله" أو باسم (3) " الرحمن "، فإنه ذو الأسماء الحسنى، كما قال تعالى: { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } إلى أن قال: { لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ الحشر: 22 -24 ].
وقد روى مكحول (4) أن رجلا من المشركين سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول في سجوده: "يا رحمن يا رحيم"، فقال: إنه يزعم أنه يدعو واحدًا، وهو يدعو اثنين. فأنزل الله هذه الآية. وكذا روي عن ابن عباس، رواهما ابن جرير.
وقوله: { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ } الآية، قال الإمام أحمد:
حدثنا هُشَيْم، حدثنا أبو بشر، عن (5) سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: نزلت (6) هذه الآية وهو متوار بمكة { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا [وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا] } (7) قال: كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فلما سمع ذلك المشركون سبوا القرآن، وسبوا من أنزله، ومن جاء به. قال: فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ } أي: بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من ت، ف.
(3) في ت: "واسم".
(4) تفسير الطبري (15/121) وكأن الحافظ اختصره هنا.
(5) في ف: "حدثنا".
(6) في ت: "قرأت".
(7) زيادة من أ.
{ وَلا تُخَافِتْ بِهَا } عن أصحابك فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك { وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا } .
أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي بشر جعفر بن إياس، به (1) وكذا روى (2) الضحاك عن ابن عباس، وزاد: "فلما هاجر إلى المدينة، سقط ذلك، يفعل أيّ ذلك شاء" (3) .
وقال محمد بن إسحاق: حدثني داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جهر بالقرآن وهو يصلي، تفرقوا عنه وأبوا أن يسمعوا منه، فكان الرجل إذا أراد أن يستمع (4) من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض ما يتلو وهو يصلي، استرق السمع دونهم فرقًا منهم، فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع (5) ، ذهب خشية أذاهم فلم يستمع (6) ، فإن خفض صوته صلى الله عليه وسلم (7) لم يستمع الذين (8) يستمعون من قراءته شيئًا، فأنزل الله { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ } فيتفرقوا عنك { وَلا تُخَافِتْ بِهَا } فلا تُسمع من أراد أن يسمعها ممن يسترق ذلك دونهم، لعله يرعوي إلى بعض ما يسمع، فينتفع به { وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا }
وهكذا قال عكرمة، والحسن البصري، وقتادة: نزلت هذه الآية في القراءة في الصلاة.
وقال شعبة عن أشعث بن أبي سليم (9) عن الأسود بن هلال، عن ابن مسعود: لم يُخافتْ بها مَنْ أسمع أذنيه.
قال ابن جرير: حدثنا يعقوب، حدثنا ابن عُلَيَّة، عن سلمة بن علقمة، عن محمد بن سيرين قال: نبئت أن أبا بكر كان إذا صلى فقرأ خفض صوته، وأن عمر كان يرفع صوته، فقيل لأبي بكر: لم تصنع هذا؟ قال: أناجي ربي، عز وجل، وقد علم حاجتي. فقيل: أحسنت. وقيل لعمر: لم تصنع هذا؟ قال: أطرد الشيطان، وأوقظ الوَسْنَان. قيل أحسنت. فلما نزلت: { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا } قيل لأبي بكر: ارفع شيئًا، وقيل لعمر: اخفض شيئًا (10) .
وقال أشعث بن سَوَّار، عن عكرمة، عن ابن عباس: نزلت في الدعاء. وهكذا روى الثوري، ومالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: نزلت في الدعاء. وكذا قال مجاهد، وسعيد بن جبير، وأبو عِياض، ومكحول، وعروة بن الزبير.
وقال الثوري عن [ابن] (11) عياش العامري، عن عبد الله بن شداد قال: كان أعراب من بني تميم إذا سلم النبي (12) صلى الله عليه وسلم قالوا: اللهم ارزقنا إبلا وولدًا. قال: فنزلت هذه الآية: { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا }
__________
(1) المسند (1/23) وصحيح البخاري برقم (2722) وصحيح مسلم برقم (446).
(2) في ف: "رواه".
(3) رواه الطبري في تفسيره (15/123).
(4) في ت، ف: "يسمع".
(5) في ت، ف: "يسمع".
(6) في ت: "يسمع".
(7) في ف: "وإن خفض رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته" .
(8) في ت: "ولم يسمع الذي".
(9) في هـ، ت: "عن أبي سليم". والمثبت من الطبري
(10) تفسير الطبري (15/124).
(11) زيادة من ف.
(12) في ف، أ: "رسول الله".
قول آخر: قال ابن جرير: حدثنا أبو السائب، حدثنا حفص بن غياث، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، رضي الله عنها، نزلت (1) هذه الآية في التشهد: { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا }
وبه قال حفص، عن أشعث بن سوار، عن محمد بن سيرين، مثله.
قول آخر: قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا } قال: لا تصل مراءاة الناس، ولا تدعها مخافة الناس. وقال الثوري، عن منصور، عن الحسن البصري: { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا } قال: لا تحسن علانيتها وتسيء سريرتها. وكذا رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن الحسن، به. وهُشَيْم، عن عوف، عنه به. وسعيد، عن قتادة، عنه كذلك.
قول آخر: قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: { وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا } قال: أهل الكتاب يخافتون، ثم يجهر أحدهم بالحرف فيصيح به، ويصيحون هم به وراءه، فنهاه أن يصيح كما يصيح هؤلاء، وأن يخافت كما يخافت القوم، ثم كان السبيل الذي بين ذلك، الذي سن له جبريل من الصلاة.
وقوله: { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا } لما أثبت تعالى لنفسه الكريمة الأسماء الحسنى، نزه نفسه عن النقائص فقال: { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ } بل هو الله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد.
{ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ } أي: ليس بذليل فيحتاج (2) أن يكون له ولي أو وزير أو مشير، بل هو تعالى [شأنه] (3) خالق الأشياء وحده لا شريك له، ومقدرها ومدبرها (4) بمشيئته وحده لا شريك له.
قال مجاهد في قوله: { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ } لم يحالف أحدًا ولا يبتغي (5) نصر أحد.
{ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا } أي: عظِّمه وأَجِلَّه عما يقول الظالمون المعتدون علوًا كبيرًا.
قال ابن جرير: حدثني يونس، أنبأنا ابن وهب، أخبرني أبو صخر، عن القرظي أنه كان يقول في هذه الآية: { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا } الآية، قال: إن اليهود والنصارى قالوا: اتخذ الله ولدًا، وقال (6) العرب: [لبيك] (7) لبيك، لا شريك لك؛ إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك. وقال الصابئون والمجوس: لولا أولياء الله لذل. فأنزل الله هذه الآية: { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا }
وقال أيضا: حدثنا بشر، [حدثنا يزيد] (8) حدثنا سعيد، عن قتادة: ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
__________
(1) في ت: "أنزلت".
(2) في أ: "فلا يحتاج".
(3) زيادة من أ.
(4) في ت، ف: "ومدبرها ومقدرها".
(5) في ف: "ولم يبتغ".
(6) في ت، ف، أ: "وقالت".
(7) زيادة من ف.
(8) زيادة من ت، ف، أ.
(5/130)
يعلم أهله هذه الآية { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا } الصغير من أهله (1) والكبير.
قلت: وقد جاء في حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماها آية العز (2) وفي بعض الآثار: أنها ما قرئت في بيت في ليلة فيصيبه سرق أو آفة. والله أعلم.
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا بشر بن سيحان البصري، حدثنا حرب بن ميمون، حدثنا موسى ابن عبيدة الرَّبَذي، عن محمد بن كعب القُرَظي، عن أبي هريرة قال: خرجت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم ويدي في يده، فأتى على رجل رث الهيئة، فقال: "أي فلان، (3) ما بلغ بك ما أرى؟". قال: السقم والضرّ يا رسول الله. قال: "ألا أعلمك كلمات تذهب عنك السقم والضر؟". قال: لا قال: ما يسرني بها (4) أن شهدت معك بدرًا أو أحدًا. قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "وهل يدرك أهل بدر وأهل أحد ما يدرك الفقير القانع؟". قال: فقال (5) أبو هريرة: يا رسول الله، إياي فعلمني قال: فقل يا أبا هريرة: "توكلت على (6) الحي الذي لا يموت، الحمد لله الذي لم يتخذ ولدًا، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل، وكبره تكبيرًا". قال: فأتى عليّ رسول الله وقد حَسُنَت حالي، قال: فقال لي: "مَهْيم". قال: قلت: يا رسول الله، لم أزل (7) أقول الكلمات التي علمتني (8) .
إسناده ضعيف وفي متنه نكارة. [والله أعلم] (9) .
__________
(1) في ف "منهم".
(2) رواه أحمد في مسنده (3/440) من حديث معاذ بن أنس مرفوعا: "آية العز: (الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا) . الآية كلها".
(3) في ت: "أني تلك".
(4) في ت: "لا يرى بها".
(5) في ت: "فقال قال".
(6) في ت: "صلى".
(7) في ت: "لم أنزل".
(8) مسند أبى يعلى (12/23) وقال الهيثمي في المجمع (7/52): "وفيه موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف".
(9) زيادة من ف، أ.
ووقع في ت: "آخر تفسير سورة الإسراء، ولله الحمد والمنة، وبه التوفيق والعصمة، غفر الله لكاتبه ولمن قرأ فيه ولوالديه ولمشايخه ولجميع المسلمين أجمعين آمين".
(5/131)
[بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين] (1)
تفسير سورة الكهف
وهي مكية.
ذكر ما ورد في فضلها، والعشر الآيات من أولها وآخرها، وأنها عصمة من الدجال:
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء يقول: قرأ رجل الكهف، وفي الدار دابة، فجعلت تنفر، فنظر فإذا ضبابة -أو: سحابة-قد غشيته، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: " اقرأ فلان، فإنها السكينة تنزلت عند القرآن، أو تنزلت للقرآن " .
أخرجاه في الصحيحين، من حديث شعبة، به (2) . وهذا الرجل الذي كان يتلوها هو: أسَيْدُ بن الحُضَيْر، كما تقدم في تفسير البقرة (3) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، أخبرنا هَمّام بن يحيى، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن مَعْدان بن أبي طلحة، عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من حَفظ عَشْرَ آيات من أول سورة الكهف، عُصِم من الدجال " .
رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي، والترمذي (4) من حديث قتادة به (5) . ولفظ الترمذي: " من حفظ الثلاث الآيات من أول الكهف " وقال: حسن صحيح.
طريق أخرى: قال ]الإمام[ (6) أحمد: حدثنا حجاج، حدثنا شعبة، عن قتادة سمعت سالم بن أبي الجعد يحدّث عن معدان، عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عُصِم من فتنة الدجال " .
ورواه مسلم أيضا والنسائي، من حديث قتادة، به (7) . وفي لفظ النسائي: " من قرأ عشر آيات من الكهف " ، فذكره.
حديث آخر: وقد رواه النسائي في " اليوم والليلة " عن محمد بن عبد الأعلى، عن خالد، عن شعبة، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن ثَوْبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف، فإنه عصمة له من الدجال " (8) .
فيحتمل أن سالما سمعه من ثوبان ومن
__________
(1) زيادة من ت
(2) المسند (4/281) وصحيح البخاري برقم (3614) وصحيح مسلم برقم (795).
(3) في أول تفسير سورة البقرة، في فضلها.
(4) في ف: "الترمذي والنسائي".
(5) المسند (5/196) وصحيح مسلم برقم (809) وسنن أبي داود برقم (4323) وسنن النسائي الكبري برقم (8025) وسنن الترمذي برقم (2886).
(6) زيادة من ف.
(7) المسند (6/446) وصحيح مسلم برقم (809) وسنن النسائي الكبري برقم (10786).
(8) سنن النسائي الكبرى برقم (10784).
(5/133)
أبي الدرداء.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثنا زبَّان بن فايد (1) عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من قرأ أول سورة الكهف وآخرها، كانت له نورًا من قدمه إلى رأسه، ومن قرأها كلها كانت له نورًا ما بين الأرض إلى السماء " (2) انفرد به أحمد ولم يخرجوه (3) (4)
وروى الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويْه [في تفسيره] (5) بإسناد له غريب، عن خالد بن سعيد بن أبي مريم، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة، سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء، يضيء له يوم القيامة، وغُفر له ما بين الجمعتين " (6) .
وهذا الحديث في رفعه نظر، وأحسن أحواله الوقف.
وهكذا روى (7) الإمام: " سعيد بن منصور " في سننه، عن هُشَيْم بن بشيرٍ (8) ، عن أبي هاشم (9) ، عن أبي مِجْلَز، عن قيس بن عباد (10) عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، أنه قال: من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة، أضاء له مِنَ النور ما بينه وبين البيت العتيق.
هكذا وقع موقوفا، وكذا (11) رواه الثوري، عن أبي هاشم (12) ، به (13) . من حديث أبي سعيد الخدري.
وقد أخرجه الحاكم في مستدركه عن أبي بكر محمد بن المؤمل، حدثنا الفضيل (14) بن محمد الشَّعراني، حدثنا نُعَيم بن حمَّاد، حدثنا هُشَيْم، حدثنا أبو هاشم، عن أبي (15) مِجْلَز، عن قيس بن عُبَاد، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة، أضاء له من النور ما بينه وبين الجمعتين " ، ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
وهكذا رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في سننه، عن الحاكم (16) ، ثم قال البيهقي: ورواه يحيى بن كثير، عن شعبة، عن أبي هاشم بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من قرأ سورة الكهف كما أنزلت كانت
__________
(1) في ت: "زياد بن واقد"، وفي ف: "ثوبان بن فايد".
(2) في ف: "السماء والأرض".
(3) في ت: "يخرجه".
(4) المسند (4/439).
(5) زيادة من ف.
(6) ذكره المنذرى في الترغيب (1/513) وقال: "رواه ابن مرديه بإسناد لا بأس به".
(7) في ت: "رواه".
(8) في ت: "بشر".
(9) في ت، أ: "هشام".
(10) في ف: "عبادة".
(11) في ت: "وهكذا".
(12) في ت: "هشام".
(13) وروراه أبو عبيد في فضائل القرآن (ص131) قال: حدثنا هشيم به موقوفا. وسيأتي الاختلاف على هشيم. أما رواية الثوري: فرواها النسائي في السنن الكبرى برقم (10790) من طريق عبد الرحمن عن سفيان الثوري به موقوفا.. وقد حقق الفاضل محمد طرهوني في كتابه "موسوعة فضائل القرآن" (1/337) روايتي الرفع والوقف فأجاد وأفاد، جزاه الله خيرا، ثم رجح أنه موقوف في حكم المرفوع.
(14) في ت: "الفضل".
(15) في ت: "أبو".
(16) المستدرك (2/368) والسنن الكبرى للبيهقي (3/249).
(5/134)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4)
له نورًا يوم القيامة ". (1) [والله أعلم] (2) .
وفي " المختارة " للحافظ الضياء المقدسي من حديث عبد الله بن (3) مصعب بن منظور بن زيد بن خالد الجهني، عن علي بن الحسين، عن أبيه، عن علي مرفوعًا: " من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة، فهو معصوم إلى ثمانية أيام من كل فتنة، وإن خرج الدجال عصم منه " (4) بسم الله الرحمن الرحيم
[رب وفقني] (5)
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) }
__________
(1) رواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (428) "مجمع البحرين" واختلف فيه على شعبة، فرواه غندر عن شعبة موقوفا.
(2) زيادة من أ.
(3) في أ: "عن".
(4) المختارة برقم (430) وقال: "عبد الله بن مصعب لم يذكره البخاري، ولا ابن أبي حاتم في كتابيهما".
(5) زيادة من ت.
====================
الإسراء - تفسير القرطبي
الآية: 105 {وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا}
قوله تعالى: "وبالحق أنزلناه وبالحق نزل" هذا متصل بما سبق من ذكر المعجزات والقرآن. والكناية ترجع إلى القرآن. ووجه التكرير في قوله "وبالحق نزل" يجوز أن يكون معنى الأول: أوجبنا إنزاله بالحق. ومعنى الثاني: ونزل وفيه الحق؛ كقوله خرج بثيابه، أي وعليه ثيابه. وقيل الباء في "وبالحق" الأول بمعنى مع، أي مع الحق؛ كقولك ركب الأمير بسيفه أي مع سيفه. "وبالحق نزل" أي بمحمد صلى الله عليه وسلم، أي نزل عليه، كما تقول نزلت بزيد. وقيل: يجوز أن يكون المعنى وبالحق قدرنا أن ينزل، وكذلك نزل.
الآية: 106 {وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا}
قوله تعالى: "وقرآنا فرقناه" مذهب سيبويه أن "قرآنا" منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر. وقرأ جمهور الناس "فرقناه" بتخفيف الراء، ومعناه بيناه وأوضحناه، وفرقنا فيه بين الحق والباطل؛ قاله الحسن. وقال ابن عباس: فصلناه. وقرأ ابن عباس وعلي وابن مسعود وأبي بن كعب وقتادة وأبو رجاء والشعبي "فرقناه" بالتشديد، أي أنزلناه شيئا بعد شيء لا جملة واحدة؛ إلا أن في قراءة ابن مسعود وأبي "فرقناه عليك".
واختلف في كم نزل القرآن من المدة؛ فقيل: في خمس وعشرين سنة. ابن عباس: في ثلاث وعشرين. أنس: في عشرين. وهذا بحسب الخلاف في سن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا خلاف أنه نزل إلى السماء الدنيا جملة واحدة. وقد مضى هذا في "البقرة". "على مكث" أي تطاول في المدة شيئا بعد شيء. ويتناسق هذا القرآن على قراءة ابن مسعود، أي أنزلناه آية آية وسورة سورة. وأما على القول الأول فيكون "على مكث" أي على ترسل في التلاوة وترتيل؛ قاله مجاهد وابن عباس وابن جريج. فيعطي القارئ القراءة حقها من ترتيلها وتحسينها وتطييبها بالصوت الحسن ما أمكن من غير تلحين ولا تطريب مؤد إلى تغيير لفظ القرآن بزيادة أو نقصان فإن ذلك حرام على ما تقدم أول الكتاب. وأجمع القراء على ضم الميم من "مكث" إلا ابن محيصن فإنه قرأ "مكث" بفتح الميم. ويقال: مكث ومكت ومكث؛ ثلاث لغات. قال مالك: "على مكث" على تثبت وترسل. "ونزلناه تنزيلا" مبالغة وتأكيد بالمصدر للمعنى المتقدم، أي أنزلناه نجما بعد نجم؛ ولو أخذوا بجميع الفرائض في وقت واحد لنفروا.
الآية: 107 {قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا}
قوله تعالى: "قل آمنوا به أو لا تؤمنوا" يعني القرآن. وهذا من الله عز وجل على وجه التبكيت لهم والتهديد لا على وجه التخيير. "إن الذين أوتوا العلم من قبله" أي من قبل نزول القرآن وخروج النبي صلى الله عليه وسلم، وهم مؤمنو أهل الكتاب؛ في قول ابن جريج وغيره. قال ابن جريج: معنى "إذا يتلى عليهم" كتابهم. وقيل القرآن. "يخرون للأذقان سجدا" وقيل: هم قوم من ولد إسماعيل تمسكوا بدينهم إلى أن بعث الله تعالى النبي عليه السلام، منهم زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل. وعلى هذا ليس يريد أوتوا الكتاب بل يريد أوتوا علم الدين. وقال الحسن: الذين أوتوا العلم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقال مجاهد: إنهم ناس من اليهود؛ وهو أظهر لقوله "من قبله". "إذا يتلى عليهم" يعني القرآن في قول مجاهد. كانوا إذا سمعوا ما أنزل الله تعالى من القرآن سجدوا وقالوا: "سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا". وقيل: كانوا إذا تلوا كتابهم وما أنزل عليه من القرآن خشعوا وسجدوا وسبحوا، وقالوا: هذا هو المذكور في التوراة، وهذه صفته، ووعد الله به واقع لا محالة، وجنحوا إلى الإسلام؛ فنزلت الآية فيهم. وقالت فرقة: المراد بالذين أوتوا العلم من قبله محمد صلى الله عليه وسلم، والضمير في "قبله" عائد على القرآن حسب الضمير في قوله "قل آمنوا به". وقيل: الضميران لمحمد صلى الله عليه وسلم، واستأنف ذكر القرآن في قوله: "إذا يتلى عليهم".
الآية: 108 {ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا}
دليل على جواز التسبيح في السجود. وفي صحيح مسلم وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في سجوده وركوعه (سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي).
الآية: 109 {ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا}
قوله تعالى: "ويخرون للأذقان يبكون" هذه مبالغة في صفتهم ومدح لهم. وحق لكل من توسم بالعلم وحصل منه شيئا أن يجري إلى هذه المرتبة، فيخشع عند استماع القرآن ويتواضع ويذل. وفي مسند الدارمي أبي محمد عن التيمي قال: من أوتي من العلم ما لم يبكه لخليق ألا يكون أوتي علما؛ لأن الله تعالى نعت العلماء، ثم تلا هذه الآية. ذكره الطبري أيضا. والأذقان جمع ذقن، وهو مجتمع اللحيين. وقال الحسن: الأذقان عبارة عن اللحى؛ أي يضعونها على الأرض في حال السجود، وهو غاية التواضع. واللام بمعنى على؛ تقول سقط لفيه أي على فيه. وقال ابن عباس: "ويخرون للأذقان سجدا" أي للوجوه، وإنما خص الأذقان بالذكر لأن الذقن أقرب شيء من وجه الإنسان. قال ابن خويز منداد: ولا يجوز السجود على الذقن؛ لأن الذقن ها هنا عبارة عن الوجه، وقد يعبر بالشيء عما جاوره وببعضه عن جميعه؛ فيقال: خر لوجهه ساجدا وإن كان لم يسجد على خده ولا عينه. ألا ترى إلى قوله:
فخر صريعا لليدين وللفم
فإنما أراد: خر صريعا على وجهه ويديه.
قوله تعالى: "يبكون" فيه دليل على جواز البكاء في الصلاة من خوف الله تعالي، أو على معصيته في دين الله، وأن ذلك لا يقطعها ولا يضرها. ذكر ابن المبارك عن حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن مطرف بن عبدالله بن الشخير عن أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء. وفي كتاب أبي داود: وفي صدره أزيز كأزيز الرحى من البكاء.
واختلف الفقهاء في الأنين؛ فقال مالك: الأنين لا يقطع الصلاة للمريض، وأكرهه للصحيح؛ وبه قال الثوري. وروى ابن الحكم عن مالك: التنحنح والأنين والنفخ لا يقطع الصلاة. وقال ابن القاسم: يقطع. وقال الشافعي: إن كان له حروف تسمع وتفهم يقطع الصلاة. وقال أبو حنيفة: إن كان من خوف الله لم يقطع، وإن كان من وجع قطع. وروي عن أبي يوسف أن صلاته في ذلك كله تامة؛ لأنه لا يخلو مريض ولا ضعيف من أنين. "ويزيدهم خشوعا" تقدم.
الآية: 110 {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا}
قوله تعالى: "قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى" سبب نزول هذه الآية أن المشركين سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوا (يا الله يا رحمن) فقالوا: كان محمد يأمرنا بدعاء إله واحد وهو يدعو إلهين؛ قاله ابن عباس. وقال مكحول: تهجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقال في دعائه: (يا رحمن يا رحيم) فسمعه رجل من المشركين، وكان باليمامة رجل يسمى الرحمن، فقال ذلك السامع: ما بال محمد يدعو رحمان اليمامة. فنزلت الآية مبينة أنهما اسمان لمسمى واحد؛ فإن دعوتموه بالله فهو ذاك، وإن دعوتموه بالرحمن فهو ذاك. وقيل: كانوا يكتبون في صدر الكتب: باسمك اللهم؛ فنزلت "إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم" [النمل: 30] فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم "بسم الله الرحمن الرحيم" فقال المشركون: هذا الرحيم نعرفه فما الرحمن؛ فنزلت الآية. وقيل: إن اليهود قالت: ما لنا لا نسمع في القرآن اسما هو في التوراة كثير؛ يعنون الرحمن؛ فنزلت الآية. وقرأ طلحة بن مصرف "أيا ما تدعو فله الأسماء الحسنى" أي التي تقتضي أفضل الأوصاف وأشرف المعاني. وحسن الأسماء إنما يتوجه بتحسين الشرع؛ لإطلاقها والنص عليها. وانضاف إلى ذلك أنها تقتضي معاني حسانا شريفة، وهي بتوقيف لا يصح وضع اسم لله ينظر إلا بتوقيف من القرآن أو الحديث أو الإجماع. حسبما بيناه في (الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى).
قوله تعالى: "ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا" اختلفوا في سبب نزولها على خمسة أقوال: الأول: ما روى ابن عباس في قوله تعالى: "ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها" قال: نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم متوار بمكة، وكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمع ذلك المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به؛ فقال الله تعالى "ولا تجهر بصلاتك" فيسمع المشركون قراءتك. "ولا تخافت بها" عن أصحابك. أسمعهم القرآن ولا تجهر ذلك الجهر. "وابتغ بين ذلك سبيلا" قال: يقول بين الجهر والمخافتة؛ أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم. واللفظ لمسلم. والمخافتة: خفض الصوت والسكون؛ يقال للميت إذا برد: خفت. قال الشاعر:
لم يبق إلا نفس خافت ومقلة إنسانها باهت
رثى لها الشامت مما بها يا ويح من يرثى له الشامت
الثاني: ما رواه مسلم أيضا عن عائشة في قوله عز وجل: "ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها" قالت: أنزل هذا في الدعاء. الثالث: قال ابن سيرين: كان الأعراب يجهرون بتشهدهم فنزلت الآية في ذلك.
قلت: وعلى هذا فتكون الآية متضمنة لإخفاء التشهد، وقد قال ابن مسعود: من السنة أن تخفي التشهد؛ ذكره ابن المنذر. الرابع: ما روي عن ابن سيرين أيضا أن أبا بكر رضي الله عنه كان يِسُر قراءته، وكان عمر يجهر بها، فقيل لهما في ذلك؛ فقال أبو بكر: إنما أناجي ربي، وهو يعلم حاجتي. إليه. وقال عمر: أنا أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان؛ فلما نزلت هذه الآية قيل لأبي بكر: ارفع قليلا، وقيل لعمر اخفض أنت قليلا؛ ذكره الطبري وغيره. [الخامس] ما روي عن ابن عباس أيضا أن معناها ولا تجهر بصلاة النهار، ولا تخافت بصلاة الليل؛ ذكره يحيى بن سلام والزهراوي. فتضمنت أحكام الجهر والإسرار بالقراءة في النوافل والفرائض، فأما النوافل فالمصلي مخير في الجهر والسر في الليل والنهار، وكذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يفعل الأمرين جميعا. وأما الفرائض فحكمها في القراءة معلوم ليلا ونهارا. [وقول سادس] قال الحسن: يقول الله لا ترائي بصلاتك تحسنها في العلانية ولا تسيئها في السر. وقال ابن عباس: لا تصل مرائيا للناس ولا تدعها مخافة الناس.
عبر تعالى بالصلاة هنا عن القراءة كما عبر بالقراءة عن الصلاة في قوله: "وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا" [الإسراء: 78] لأن كل واحد منهما مرتبط بالآخر؛ لأن الصلاة تشتمل على قراءة وركوع وسجود فهي من جملة أجزائها؛ فعبر بالجزء عن الجملة وبالجملة عن الجزء على عادة العرب في المجاز وهو كثير؛ ومنه الحديث الصحيح: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي) أي قراءة الفاتحة على ما تقدم.
الآية: 111 {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا}
قوله تعالى: "وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا" هذه الآية رادة على اليهود والنصارى والعرب في قولهم أفذاذا: عزيز وعيسى والملائكة ذرية الله سبحانه؛ تعالى الله عن أقوالهم. "ولم يكن له شريك في الملك" لأنه واحد لا شريك له في ملكه ولا في عبادته. "ولم يكن له ولي من الذل" قال مجاهد: المعنى لم يحالف أحدا ولا ابتغى نصر أحد؛ أي لم يكن له ناصر يجيره من الذل فيكون مدافعا. وقال الكلبي: لم يكن له ولي من اليهود والنصارى؛ لأنهم أذل الناس، ردا لقولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه. وقال الحسن بن الفضل: "ولم يكن له ولي من الذل" يعني لم يذل فيحتاج إلى ولي ولا ناصر لعزته وكبريائه. "وكبره تكبيرا" أي عظمه عظمة تامة. ويقال: أبلغ لفظة للعرب في معنى التعظيم والإجلال: الله أكبر؛ أي صفة بأنه أكبر من كل شيء. قال الشاعر:
رأيت الله أكبر كل شيء محاولة وأكثرهم جنودا
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل في الصلاة قال: (الله أكبر) وقد تقدم أول الكتاب. وقال عمر بن الخطاب. قولُ العبدِ "الله أكبر" خير من الدنيا وما فيها. وهذا الآية هي خاتمة التوراة. روى مطرف عن عبدالله بن كعب قال: افتتحت التوراة بفاتحة سورة الأنعام وختمت بخاتمة هذه السورة. وفي الخبر أنها آية العز؛ رواه معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم. وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أفصح الغلام من بني عبدالمطلب علمه "وقل الحمد لله الذي" الآية. وقال عبدالحميد. بن واصل: سمعت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قرأ وقل الحمد لله الآية كتب الله له من الأجر مثل الأرض والجبل لأن الله تعالى يقول فيمن زعم أن له ولدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا). وجاء في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجل شكا إليه الدين بأن يقرأ "قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن" [الإسراء: 110] - إلى آخر السورة ثم يقول: توكلت على الحي الذي لا يموت؛ ثلاث مرات.
تمت سورة الإسراء، والحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الكهف
سورة الكهف وهي مكية في قول جميع المفسرين. روي عن فرقة أن أول السورة نزل بالمدينة إلى قوله "جرزا} [الكهف: 8]، والأول أصح. وروي في فضلها من حديث أنس أنه قال: من قرأ بها أعطي نورا بين السماء والأرض ووقي بها فتنة القبر. وقال إسحاق بن عبدالله بن أبي فروة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أدلكم على سورة شيعها سبعون ألف ملك ملأ عظمها ما بين السماء والأرض لتاليها مثل ذلك". قالوا: بلى يا رسول الله؟ قال: "سورة أصحاب الكهف من قرأها يوم الجمعة غفر له الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام وأعطي نورا يبلغ السماء ووقي فتنة الدجال" ذكره الثعلبي، والمهدوي أيضا بمعناه. وفي مسند الدارمي عن أبي سعيد الخدري قال: من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء له من النور فيما بينه وبين البيت العتيق. وفي صحيح مسلم عن أبي الدرداء أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: " من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال" . وفي رواية "من آخر الكهف" . وفي مسلم أيضا من حديث النواس بن سمعان "فمن أدركه - يعني الدجال - فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف". وذكره الثعلبي. قال: سمرة بن جندب قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من قرأ عشر آيات من سورة الكهف حفظا لم تضره فتنة الدجال" . ومن قرأ السورة كلها دخل الجنة.
الآية: 1 {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا}
الآية: 2 {قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً}
الآية: 3 {مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً}
ذكر ابن إسحاق أن قريشا بعثوا النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود وقالوا لهما:
(10/346)
سلاهم عن محمد وصفا لهم صفته وأخبراهم بقوله؛ فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علم ليس عندنا من علم أنبياء؛ فخرجا حتى قدما المدينة، فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصفا لهم أمره، وأخبراهم ببعض قوله، وقالا لهم: إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا. فقالت لهما أحبار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقول، فروا فيه رأيكم؛ سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، ما كان أمرهم؛ فإنه قد كان لهم حديث عجب. سلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه. وسلوه عن الروح، ما هي؛ فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه فإنه نبي، وإن لم يفعل فهو رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم. فأقبل النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط قدما مكة على قريش فقالا: يا معشر قريش، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد - صلى الله عليه وسلم - قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أشياء أمرونا بها، فإن أخبركم عنها فهو نبي، وإن لم يفعل فالرجل متقول، فروا فيه رأيكم. فجاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، أخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، قد كانت لهم قصة عجب، وعن رجل كان طوافا قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وأخبرنا عن الروح ما هي؟ قال فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أخبركم بما سألتم عنه غدا" ولم يستثن. فانصرفوا عنه، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يزعمون خمس عشرة ليلة، لا يحدث الله إليه في ذلك وحيا ولا يأتيه جبريل، حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غدا، واليوم خمس عشرة ليلة، وقد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه؛ وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث الوحي عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبريل عليه السلام من عند الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية، والرجل الطواف والروح. قال ابن إسحاق: فذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: " لقد احتبست عني
(10/347)
يا جبريل حتى سؤت ظنا" فقال له جبريل: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} [مريم: 64].
فافتتح السورة تبارك وتعالى بحمده، وذكر نبوة رسوله صلى الله عليه وسلم لما أنكروا عليه من ذلك فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} يعني محمدا، إنك رسول مني، أي تحقيق لما سألوا عنه من نبوتك. {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّماً} أي معتدلا لا اختلاف فيه. {لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ} أي عاجل عقوبته في الدنيا، وعذابا أليما في الآخرة، أي من عند ربك الذي بعثك رسولا. {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ، أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً} أي دار الخلد لا يموتون فيها، الذين صدقوك بما جئت به مما كذبك به غيرهم، وعملوا بما أمرتهم به من الأعمال. {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} [الكهف: 4] بعني قريشا في قولهم: إنا نعبد الملائكة وهي بنات الله. {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ} [الكهف: 5] الذين أعظموا فراقهم وعيب دينهم. {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف: 5] أي لقولهم إن الملائكة بنات الله. {إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً. فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف: 6] لحزنه عليهم حين فاته ما كان يرجوه منهم، أي لا تفعل. فال ابن هشام: {بَاخِعٌ نَفْسَكَ} مهلك نفسك؛ فيما حدثني أبو عبيدة. قال ذو الرمة:
ألا أي هذا الباخع الوجد نفسه ... بشيء نحته عن يديه المقادر
وجمعها باخعون وبخعه. وهذا البيت في قصيدة له. وقول العرب: قد بخعت له نصحي ونفسي، أي جهدت له. {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الكهف: 7] قال ابن إسحاق: أي أيهم اتبع لأمري وأعمل بطاعتي: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} [الكهف: 8] أي الأرض، وإن ما عليها لفان وزائل، وإن المرجع إلي فأجزي كلا بعمله؛ فلا تأس ولا يحزنك ما ترى وتسمع فيها. قال ابن هشام: الصعيد وجه الأرض، وجمعه صعد. قال ذو الرمة يصف ظبيا صغيرا:
(10/348)
كأنه بالضحى ترمي الصعيد به ... دبابة في عظام الرأس خرطوم
وهذا البيت في قصيدة له. والصعيد أيضا: الطريق، وقد جاء في الحديث: "إياكم والقعود على الصعدات" يريد الطرق. والجرز: الأرض التي لا تنبت شيئا، وجمعها أجراز. ويقال: سنة جرز وسنون أجراز؛ وهي التي لا يكون فيها مطر. وتكون فيها جدوبة ويبس وشدة. قال ذو الرمة يصف إبلا:
طوى النحز والأجراز ما في بطونها ... فما بقيت إلا الضلوع الجراشع
قال ابن إسحاق: ثم استقبل قصة الخبر فيما سألوه عنه من شأن الفتية فقال: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً} [الكهف: 9] أي قد كان من آياتي فيه وضعت على العباد من حجتي ما هو أعجب من ذلك. قال ابن هشام: والرقيم الكتاب الذي رقم بخبرهم، وجمعه رقم. قال العجاج:
ومستقر المصحف المرقم
وهذا البيت في أرجوزة له. قال ابن إسحاق: ثم قال: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً. فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً. ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً} [الكهف: 12]. ثم قال: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} [الكهف: 13] أي بصدق الخبر {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً. وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} [الكهف: 14] أي لم يشركوا بي كما أشركتم بي ما ليس لكم به علم. قال ابن هشام: والشطط الغلو ومجاوزة الحق. قال أعشى بن قيس بن ثعلبة:
أتنتهون ولا ينهى ذوي شطط ...
كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
(10/349)
وهذا البيت في قصيدة له. قال ابن إسحاق: {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} [الكهف: 15]. قال ابن إسحاق: أي بحجة بالغة. {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً. وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً. وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ} [الكهف: 17]. قال ابن هشام: تزاور تميل؛ وهو من الزور. وقال أبو الزحف الكليبي يصف بلدا:
جدب المندي عن هوانا أزور ... ينضي المطايا خمسه العشنزر
وهذان البيتان في أرجوزة له. و"تقرضهم ذات الشمال" تجاوزهم وتتركهم عن شمالها. قال ذو الرمة:
إلى ظعن يقرضن أقواز مشرف ... شمالا وعن أيمانهن الفوارس
وهذا البيت في قصيدة له. والفجوة: السعة، وجمعها الفجاء. قال الشاعر:
ألبست قومك مخزاة ومنقصة ... حتى أبيحوا وحلوا فجوة الدار
{ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} أي في الحجة على من عرف ذلك من أمورهم من أهل الكتاب ممن أمر هؤلاء بمسألتك عنهم في صدق نبوتك بتحقيق الخبر عنهم. {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ
(10/350)
الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف: ] قال ابن هشام: الوصيد الباب. قال العبسي واسمه عبد بن وهب:
بأرض فلاة لا يسد وصيلاها ... علي ومعروفي بها غير منكر
وهذا البيت في أبيات له. والوصيد أيضا الفناء، وجمعه وصائد ووصد وصدان. {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً} - إلى قوله –{الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ} [الكهف: ] أهل السلطان والملك منهم. {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً. سَيَقُولُونَ} [الكهف:21] يعني أحبار اليهود الذين أمروهم بالمسألة عنهم. {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ} [أي لا تكابرهم. {إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً} [الكهف:22] فإنهم لا علم لهم بهم {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً. إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً} [الكهف:24] أي لا تقولن لشيء سألوك عنه كما قلت في هذا إني مخبركم غدا، واستثن مشيئة الله، واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهديني ربي لخبر ما سألتموني عنه رشدا، فإنك لا تدري ما أنا صانع في ذلك. {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً} [الكهف: ] أي سيقولون ذلك. {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف:26] أي لم يخف عليه شيء ما سألوك عنه.
قلت: هذا ما وقع في السيرة من خبر أصحاب الكهف ذكرناه على نسقه. ويأتي خبر ذي القرنين، ثم نعود إلى أول السورة فنقول:
قد تقدم معنى الحمد لله. وزعم الأخفش والكسائي والفراء وأبو عبيد وجمهور المتأولين أن في أول هذه السورة تقديما وتأخيرا، وأن المعنى: الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا. و {قَيِّماً} نصب على الحال. وقال قتادة: الكلام على سياقه من غير تقديم ولا تأخير، ومعناه: ولم يجعل له عوجا ولكن جعلناه قيما. وقول الضحاك فيه حسن، وأن
(10/351)
المعنى: مستقيم، أي مستقيم الحكمة لا خطأ فيه ولا فساد ولا تناقض. وقيل: "قيما" على الكتب السابقة يصدقها. وقيل: "قيما" بالحجج أبدا. "عوجا" مفعول به؛ والعوج "بكسر العين" في الدين والرأي والأمر والطريق. وبفتحها في الأجسام كالخشب والجدار؛ وقد تقدم. وليس في القرآن عوج، أي عيب، أي ليس متناقضا مختلقا؛ كما قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] وقيل: أي لم يجعله مخلوقا؛ كما روي عن ابن عباس في قوله تعالى {قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر:28] قال: غير مخلوق. وقال مقاتل: {عِوَجَا} اختلافا. قال الشاعر:
أدوم بودي للصديق تكرما ... ولا خير فيمن كان في الود أعوجا
{لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً} أي لينذر محمد أو القرآن. وفيه إضمار، أي لينذر الكافرين عقاب الله. وهذا العذاب الشديد قد يكون في الدنيا وقد يكون في الآخرة. {مِنْ لَدُنْهُ} أي من عنده وقرأ أبو بكر عن عاصم {مِنْ لَدُنْهُ} بإسكان الدال وإشمامها الضم وكسر النون، والهاء موصولة بياء. والباقون {لَدُنْهُ} بضم الدال وإسكان النون وضم الهاء. قال الجوهري: وفي "لدن" ثلاث لغات: لدن، ولدي، ولد. وقال:
من لد لحييه إلى منحوره
المنحور لغة المنحر.
قوله تعالى: {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ} أي بأن لهم {أَجْراً حَسَناً} وهي الجنة. {مَاكِثِينَ} دائمين. {فِيهِ أَبَداً} لا إلى غاية. وإن حملت التبشير على البيان لم يحتج إلى الباء في "بأن". والأجر الحسن: الثواب العظيم الذي يؤدي إلى الجنة.
(10/352)
الآية: 4 {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً}
======================
الإسراء - تفسير الطبري
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَبِالْحَقِّ أَنزلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نزلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنزلْنَاهُ تَنزيلا (106) }
يقول تعالى ذكره: وبالحق أنزلنا هذا القرآن: يقول: أنزلناه نأمر فيه بالعدل والإنصاف والأخلاق الجميلة، والأمور المستحسنة الحميدة، وننهى فيه عن الظلم والأمور القبيحة، والأخلاق الردية، والأفعال الذّميمة( وَبِالْحَقِّ نزلَ ) يقول: وبذلك نزل من عند الله على نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ) يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم: وما أرسلناك يا محمد إلى من أرسلناك إليه من عبادنا، إلا مبشرا بالجنَّة من أطاعنا، فانتهى إلى أمرنا وَنهْينا، ومنذرا لمن عصانا وخالف أمرنا ونهينَا( وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامّة قرّاء الأمصار(فَرَقْناهُ) بتخفيف الراء من فرقناه، بمعنى: أحكمناه وفصلناه وبيناه ، وذكر عن ابن عباس، أنه كان يقرؤه بتشديد الراء "فَرَّقْناهُ" بمعنى: نزلناه شيئا بعد شيء، آية بعد آية، وقصة بعد قصة.
(17/573)
وأولى القراءتين بالصواب عندنا، القراءة الأولى، لأنها القراءة التي عليها الحجة مجمعة، ولا يجوز خلافها فيما كانت عليه مجمعة من أمر الدين والقرآن ، فإذا كان ذلك أولى القراءتين بالصواب، فتأويل الكلام: وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا، وفصلناه قرآنا، وبيَّناه وأحكمناه، لتقرأه على الناس على مكث.
وبنحو الذي قلنا في ذلك من التأويل، قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله( وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ ) يقول: فصلناه.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي جعفر، عن أبي الربيع عن أبي العالية، عن أبيّ بن كعب أنه قرأ( وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ ) مخففا: يعني بيناه.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس( وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ ) قال: فصلناه.
حدثنا ابن المثنى، قال : ثنا بدل بن المحبر، قال: ثنا عباد، يعني ابن راشد، عن داود، عن الحسن أنه قرأ( وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ ) خفَّفها: فرق الله بين الحقّ والباطل.
وأما الذين قرءوا القراءة الأخرى، فإنهم تأوّلوا ما قد ذكرت من التأويل.
ذكر من قال ما حكيت من التأويل عن قارئ ذلك كذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، قال: كان ابن عباس يقرؤها: "وَقُرآنا فَرَّقْناهُ" مثقلة، يقول: أنزل آية آية.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر، ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة، قال( وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ) ، "وَقُرآنا فَرَّقْناهُ لِتَقْرأَهُ عَلى النَّاسِ على مُكْثٍ ، وَنزلْناهُ تَنزيلا".
(17/574)
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: "وَقُرآنا فَرَّقْناهُ لِتَقْرأَهُ عَلى النَّاسِ" لم ينزل جميعا، وكان بين أوّله وآخره نحو من عشرين سنة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله :( وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ ) قال: فرّقه: لم ينزله جميعه. وقرأ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نزلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ) ... حتى بلغ( وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ) يَنْقُض عليهم ما يأتون به.
وكان بعض أهل العربية من أهل الكوفة يقول: نصب قوله( وَقُرآنا ) بمعنى: ورحمة، ويتأوّل ذلك( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ) ورحمة، ويقول: جاز ذلك، لأن القرآن رحمة، ونصبه على الوجه الذي قلناه أولى، وذلك كما قال جلّ ثناؤه( وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ ) وقوله( لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ ) يقول: لتقرأه على الناس على تُؤَدة، فترتله وتبينه، ولا تعجل في تلاوته، فلا يفهم عنك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال : ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن عبيد المكُتِب (1) قال: قلت لمجاهد: رجل قرأ البقرة وآل عمران، وآخر قرأ البقرة، وركوعهما وسجودهما واحد، أيهما أفضل؟ قال: الذي قرأ البقرة، وقرأ( وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ ) .
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله( لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ ) يقول: على تأييد.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن ، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله( عَلَى مُكْثٍ ) قال: على ترتيل.
__________
(1) المكتب: اسم فاعل من أكتب أو من كتب بالتشديد وهو المعلم، يعلم الصبيان كتابة القرآن في ألواحهم.
(17/575)
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله( لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ ) قال: في ترتيل.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله( لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ ) قال: التفسير الذي قال الله( وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا ): تفسيره.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال : أخبرنا الثوري، عن عبيد، عن مجاهد، قوله( لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ ) على تؤدة ، وفي المُكث للعرب لغات: مُكث، ومَكث، ومِكث ومِكِّيثَى مقصور، ومُكْثانا، والقراءة بضمّ الميم.
وقوله( وَنزلْنَاهُ تَنزيلا ) يقول تعالى ذكره: فرقنا تنزيله، وأنزلناه شيئا بعد شيء.
كما حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: حدثنا، عن أبي رجاء ؛ قال: تلا الحسن: "وَقُرآنا فَرَّقْناهُ لِتَقْرأَهُ عَلى النَّاسِ على مُكْثٍ وَنزلْنَاهُ تَنزيلا" قال: كان الله تبارك وتعالى ينزل هذا القرآن بعضه قبل بعض لما علم أنه سيكون ويحدث في الناس، لقد ذكر لنا أنه كان بين أوّله وآخره ثماني عشرة سنة، قال: فسألته يوما على سخطة، فقلت: يا أبا سعيد "وقرآنا فرقناه" فثقلها أبو رجاء، فقال الحسن: ليس فرّقناه، ولكن فَرقناه، فقرأ الحسن مخففة ، قلت: من يُحدثك هذا يا أبا سعيد أصحاب محمد ، قال: فمن يحدّثنيه ، قال: أنزل عليه بمكة قبل أن يهاجر إلى المدينة ثماني سنين، وبالمدينة عشر سنين.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال : ثنا سعيد، عن قتادة، قوله( وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنزلْنَاهُ تَنزيلا ) لم ينزل في ليلة ولا ليلتين، ولا شهر ولا شهرين، ولا سنة ولا سنتين، ولكن كان بين أوّله وآخره عشرون سنة، وما شاء الله من ذلك.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن،
(17/576)
قُلْ آَمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108)
قال: كان يقول: أنزل على نبيّ الله القرآن ثماني سنين، وعشرا بعد ما هاجر. وكان قتادة يقول: عشرا بمكة، وعشرا بالمدينة.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا (108) }
يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء القائلين لك( لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا ) : آمنوا بهذا القرآن الذي لو اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثله، لم يأتوا به ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، أوَ لا تؤمنوا به، فإن إيمانكم به لن يزيد في خزائن رحمة الله ولا ترككم الإيمان به يُنقص ذلك ، وإن تكفروا به، فإن الذين أوتوا العلم بالله وآياته من قبل نزوله من مؤمني أهل الكتابين، إذا يتلى عليهم هذا القرآن يخرّون تعظيما له وتكريما ، وعلما منهم بأنه من عند الله، لأذقانهم سجدا بالأرض.
واختلف أهل التأويل في الذي عُني بقوله( يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ ) فقال بعضهم: عُنِي به: الوجوه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله( يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا ) يقول: للوجوه.
حدثنا بشر، قال : ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا ) قال للوجوه.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله.
وقال آخرون: بل عُنِيَ بذلك اللِّحَى.
(17/577)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: قال الحسن في قوله( يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ ) قال: اللِّحَى.
وقوله( سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا ) يقول جلّ ثناؤه: ويقول هؤلاء الذين أوتوا العلم من قبل نزول هذا القرآن ، إذ خروا للأذقان سجودا عند سماعهم القرآن يُتْلَى عليهم ، تنزيها لربنا وتبرئة له مما يضيف إليه المشركون به، ما كان وعد ربنا من ثواب وعقاب، إلا مفعولا حقا يقينا، إيمان بالقرآن وتصديق به ، والأذقان في كلام العرب: جمع ذَقَن وهو مجمع اللَّحيين، وإذ كان ذلك كذلك، فالذي قال الحسن في ذلك أشبه بظاهر التنزيل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل على اختلاف منهم في الذين عنوا بقوله( أُوتُوا الْعِلْمَ ) وفي( يُتْلَى عَلَيْهِمْ ) .
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال مجاهد( الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ ).... إلى قوله( خُشُوعًا ) قال: هم ناس من أهل الكتاب حين سمعوا ما أنزل الله على محمد قالوا( سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا ) .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله( قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ ) من قبل النبيّ صلى الله عليه وسلم( إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ ) ما أنزل إليهم من عند الله( يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا ) .
وقال آخرون: عُنِي بقوله( الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ ) القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، في قوله( إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ ) كتابهم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله( إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ ) ما أنزل الله إليهم من عند الله.
وإنما قلنا: عُنِي بقوله( إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ ) القرآن ، لأنه في سياق ذكر القرآن لم يجر لغيره من الكتب ذكر، فيصرف الكلام إليه، ولذلك جعلت الهاء
(17/578)
وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)
التي في قوله( مِنْ قَبْلِهِ ) من ذكر القرآن، لأن الكلام بذكره جرى قبله، وذلك قوله( وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ ) وما بعده في سياق الخبر عنه، فذلك وجبت صحة ما قلنا إذا لم يأت بخلاف ما قلنا فيه حجة يجب التسليم لها.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) }
يقول تعالى ذكره: ويخرّ هؤلاء الذين أوتوا العلم من مؤمني أهل الكتابين من قبل نزول الفرقان، إذا يُتْلَى عليهم القرآن لأذقانهم يبكون، ويزيدهم ما في القرآن من المواعظ والعبر خشوعا، يعني خضوعا لأمر الله وطاعته، واستكانة له.
حدثنا أحمد بن منيع، قال: ثنا عبد الله بن المبارك ، قال: أخبرنا مِسْعر، عن عبد الأعلى التيميّ، أن من أوتي من العلم يبكه لخليق أن لا يكون أوتي علما ينفعه، لأن الله نعت العلماء فقال( إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ ).... الآيتين.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: ثنا عبد الله بن المبارك، عن مسعر بن كدام، عن عبد الأعلى التيمي بنحوه، إلا أنه قال( إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ ) ثم قال( وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ ).... الآية.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد( وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ) قال: هذا جواب وتفسير للآية التي في كهيعص( إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ).
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا
(17/579)
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110)
وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا (110) }
يقول تعالى ذكره لنبيّه: قل يا محمد لمشركي قومك المنكرين دعاء الرحمن( ادْعُوا اللَّهَ ) أيها القوم( أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى ) بأيّ أسمائه جلّ جلاله تدعون ربكم، فإنما تدعون واحدا، وله الأسماء الحُسنى ، وإنما قيل ذلك له صلى الله عليه وسلم، لأن المشركين فيما ذكر سمعوا النبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو ربه: يا ربنا الله، ويا ربنا الرحمن، فظنوا أنه يدعو إلهين، فأنزل الله على نبيّه عليه الصلاة والسلام هذه الآية احتجاجا لنبيّه عليهم.
ذكر الرواية بما ذكرنا: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني محمد بن كثير، عن عبد الله بن واقد، عن أبي الجوزاء عن ابن عباس . قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم ساجدا يدعو: يا رَحْمَنُ يا رَحيمُ ، فقال المشركون: هذا يزعم أنه يدعو واحدا، وهو يدعو مثنى مثنى، فأنزل الله تعالى( قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى ).... الآية.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني عيسى ؛ عن الأوزاعي، عن مكحول، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم "كان يتهجَّد بمكة ذات ليلة، يقول في سجوده: يا رَحْمَنُ يا رَحيمُ ، فسمعه رجل من المشركين، فلما أصبح قال لأصحابه: انظروا ما قال ابن أبي كبشة، يدعو الليلة الرحمن الذي باليمامة، وكان باليمامة رجل يقال له الرحمن: فنزلت( قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى )."
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله( قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى ). (1)
__________
(1) كذا في الأصول، ولم يذكر المتن اتكالا على ما تقدم، وقد تكرر ذلك منه.
(17/580)
حدثني محمد بن عمرو، قال : ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن ، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله( أَيًّا مَا تَدْعُوا ) بشيء من أسمائه.
حدثني موسى بن سهل، قال: ثنا محمد بن بكار البصري، قال: ثني حماد بن عيسى ؛ عن عبيد بن الطفيل الجهني، قال: ثنا ابن جريج، عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، عن مكحول، عن عَرَّاك بن مالك، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ للهِ تسْعَةً وَتسْعينَ اسْما كُلُّهُنَّ في القُرآنِ، مَنْ أحْصَاهنّ دَخَل الجَنَّة".
قال أبو جعفر: ولدخول "ما" في قوله( أَيًّا مَا تَدْعُوا ) وجهان: أحدهما أن تكون صلة، كما قيل:( عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ ) والآخر أن تكون في معنى إن: كررت لما اختلف لفظاهما، كما قيل: ما إن رأيت كالليلة ليلة.
وقوله( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا ) اختلف أهل التأويل في الصلاة، فقال بعضهم: عنى بذلك: ولا تجهر بدعائك، ولا تخافت به، ولكن بين ذلك ، وقالوا: عنى بالصلاة في هذا الموضع: الدعاء.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يحيى بن عيسى الدامغاني، قال: ثنا ابن المبارك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، في قوله( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) قالت: في الدعاء.
حدثنا بشار، قال: ثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: نزلت في الدعاء.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة مثله.
حدثنا الحسن بن عرفة، قال: ثنا عباد بن العوّام، عن أشعث بن سوار، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قول الله تعالى( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) قال: كانوا يجهرون بالدعاء، فلما نزلت هذه الآية أُمروا أن لا يجهروا، ولا يخافتوا.
(17/581)
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا حماد، عن عمرو بن مالك البكري، عن أبي الجوزاء عن عائشة، قالت: نزلت في الدعاء.
حدثني مطر بن محمد الضبي، قال: ثنا عبد الله بن داود، قال: ثنا شريك، عن زياد بن فياض، عن أبي عياض، في قوله( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) قال: الدعاء.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن إبراهيم الهَجري، عن أبي عياض( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) قال: نزلت في الدعاء.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا شريك، عن زياد بن فياض، عن أبي عياض مثله.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان عمن ذكره عن عطاء( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) قال : نزلت في الدعاء.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد في الآية( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) قال: في الدعاء.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، قال: نزلت في الدعاء.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) في الدعاء والمسألة.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد، قال: نزلت في الدعاء والمسألة.
(17/582)
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، قال: ثني سفيان، قال: ثني قيس بن مسلم ، عن سعيد بن جبير في قوله( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) قال : في الدعاء.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا سفيان، عن ابن عياش العامري، عن عبد الله بن شداد قال: كان أعراب إذا سلم النبيّ صلى الله عليه وسلم قالوا: اللهم ارزقنا إبلا وولدا، قال: فنزلت هذه الآية( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) .
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، في قوله( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) قال: في الدعاء.
حدثني ابن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس،( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ ).... الآية، قال: في الدعاء والمسألة.
حدثنا القاسم، قال : ثنا الحسين، قال: ثني عيسى ؛ عن الأوزاعي، عن مكحول( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) قال: ذلك في الدعاء.
وقال آخرون: عَنَى بذلك الصلاة.
واختلف قائلو هذه المقالة في المعنى الذي عَنَى بالنهي عن الجهر به، فقال بعضهم: الذي نهى عن الجهر به منها القراءة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: نزلت هذه الآية ورسول الله صلى الله عليه وسلم متوار( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) قال: كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمع ذلك المشركون سبُّوا القرآن ومن أنزله، ومن جاء به، قال: فقال الله لنبيّه صلى الله عليه وسلم( وَلا تَجْهَرْ
(17/583)
بِصَلاتِكَ ) فيسمع المشركون( وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) عن أصحابك، فلا تُسْمِعهم القرآن حتى يأخذوا عنك.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، قال: ثنا بشر بن عمارة، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس، في قوله( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا جهر بالصلاة بالمسلمين بالقرآن، شقّ ذلك على المشركين إذا سمعوه، فيُؤْذون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشتم والعيب به، وذلك بمكة ، فأنزل الله: يا محمد( لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ ) يقول: لا تُعْلِن بالقراءة بالقرآن إعلانا شديدا يسمعه المشركون فيؤذونك، ولا تخافت بالقراءة بالقرآن: يقول: لا تخفض صوتَك حتى لا تُسْمِع أذنيك( وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا ) يقول: اطلب بين الإعلان والجهر وبين التخافت والخفض طريقا، لا جهرا شديدا، ولا خفضا لا تُسْمِع أذنيك، فذلك القدر، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة سقط هذا كله، يفعل الآن أيّ ذلك شاء.
حُدثت عن الحسين، قال : سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ).... الآية، هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة كان إذا صلى بأصحابه، فرفع صوته بالقراءة أسمع المشركين، فآذوه، فأمره الله أن لا يرفع صوته، فيسمع عدوّه ، ولا يخافت فلا يُسْمِع من خلفه من المسلمين، فأمره الله أن يبتغي بين ذلك سبيلا.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن الأعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يرفع صوته بالقرآن، فكان المشركون إذا سمعوا صوته سبُّوا القرآن، ومن جاء به، فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يخفي القرآن فما يسمعه أصحابه، فأنزل الله( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا ) .
حدثنا محمد بن عليّ بن الحسن بن شقيق، قال: سمعت أبي، يقول: أخبرنا أبو حمزة عن الأعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) قال: كان رسول الله صلى
(17/584)
الله عليه وسلم إذا رفع صوته وَسمع المشركون، سبُّوا القرآن، ومن جاء به، وإذا خفض لم يسمع أصحابه، قال الله( وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا ).
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس: ثنا محمد بن إسحاق، قال: ثني داود بن الحُصَين، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جهر بالقرآن وهو يصلي تفرّقوا، وأبَوا أن يستمعوا منه، فكان الرجل إذا أراد أن يستمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض ما يتلو، وهو يصلي، استرق السمع دونهم فرقا منهم، فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع، ذهب خشية أذاهم، فلم يستمع، فإن خفض رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته، لم يستمع الذين يستمعون من قراءته شيئا، فأنزل الله عليه( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ ) فيتفرقوا عنك( وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) فلا تُسْمِع من أراد أن يسمعها، ممن يسترق ذلك دونهم، لعله يرعوي إلى بعض ما يسمع، فينتفع به،( وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا ).
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يجهر بقراءة القرآن في المسجد الحرام، فقالت قريش: لا تجهر بالقراءة فتؤذي آلهتنا، فنهجو ربك، فأنزل الله( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ).... الآية.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عبَّاس، في قوله( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) قال: نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مختف بمكة، فكان إذا صلى بأصحابه رفع الصوت بالقرآن، فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن ومن أنزله، ومن جاء به، فقال الله لنبيّه( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ ) : أي بقراءتك، فيسمع المشركون، فيسبُّوا القرآن( وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) عن أصحابك، فلا تسمعهم( وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا ) .
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، في قوله( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) قال: في القراءة.
(17/585)
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا سعيد، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، في هذه الآية( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا رفع صوته أعجب ذلك أصحابه، وإذا سمع ذلك المشركون سبُّوه، فنزلت هذه الآية.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن سلمة، عن علقمة، عن محمد بن سيرين، قال: نبئت أن أبا بكر كان إذا صلى فقرأ خفض صوته، وأن عمر كان يرفع صوته، قال: فقيل لأبي بكر: لم تصنع هذا؟ فقال: أناجي ربي، وقد علم حاجتي، قيل : أحسنت، وقيل لعمر: لم تصنع هذا؟ قال: أطرد الشيطان، وأوقظ الوسنان، قيل: أحسنت، فلما نزلت( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا ) قيل لأبي بكر: ارفع شيئا، وقيل لعمر: اخفض شيئا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا حسان بن إبراهيم، عن إبراهيم الصائغ، عن عطاء، في قوله( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) قال: يقول ناس إنها في الصلاة، ويقول آخرون إنها في الدعاء.
حدثنا بشر، قال : ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا ) وكان نبيّ الله وهو بمكة، إذا سمع المشركون صوته رموه بكلّ خبث، فأمره الله أن يغضّ من صوته، وأن يجعل صلاته بينه وبين ربه، وكان يقال: ما سمعته أذنك فليس بمخافتة.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) قال: "كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يرفع صوته بالصلاة ، فيُرمي بالخبث، فقال: لا ترْفعْ صَوْتكَ فتُؤْذَى وَلا تُخافِتْ بِها، وَابْتَغِ بين ذلك سَبِيلا.
وقال آخرون: إنما عُنِي بذلك: ولا تجهر بالتشهد في صلاتك، ولا تخافت بها.
(17/586)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني أبو السائب، قال: ثنا حفص بن غياث، عن هشام بن عُرْوة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: نزلت هذه الآية في التشهد( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ).
حدثني أبو السائب، قال: ثنا حفص، عن أشعث، عن ابن سيرين مثله. وزاد فيه: وكان الأعرابيّ يجهر فيقول : التحيات لله، والصلوات لله، يرفع فيها صوته، فنزلت( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ ).
وقال آخرون: بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بمكة جِهارا، فأمر بإخفائها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرمة والحسن البصري قالا قال في بني إسرائيل( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا ) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى يجهر بصلاته، فآذى ذلك المشركين بمكة، حتى أخفى صلاته هو وأصحابه، فلذلك قال( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا ) وقال في الأعراف( وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ).
وقال آخرون: معنى ذلك: ولا تجهر بصلاتك تحسنها من إتيانها في العلانية، ولا تخافت بها: تسيئها في السريرة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن أنه كان يقول( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) : أي لا تراء بها عَلانيَة، ولا تخفها سرًّا( وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا ).
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: كان الحسن يقول في قوله( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) قال: لا تحسن علانيتها، وتسيء سريرتها.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، عن عوف، عن الحسن، في قوله( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) قال: لا تراء بها في العلانية، ولا تخفها في السريرة.
(17/587)
حدثني عليّ بن الحسن الأزرقي، قال: ثنا الأشجعي، عن سفيان، عن منصور، عن الحسن( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) قال: تحسن علانيتها، وتسيء سريرتها.
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) قال: لا تصلّ مراءاة الناس ولا تدعها مخافة.
وقال آخرون في ذلك ما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا ) قال: السبيل بين ذلك الذي سنّ له جبرائيل من الصلاة التي عليها المسلمون. قال: وكان أهل الكتاب يُخافتون، ثم يجهر أحدهم بالحرف، فيصيح به، ويصيحون هم به وراءه، فنهى أن يصيح كما يصيح هؤلاء، وأن يُخافت كما يُخافت القوم، ثم كان السبيل الذي بين ذلك، الذي سنّ له جبرائيل من الصلاة.
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة، ما ذكرنا عن ابن عباس في الخبر الذي رواه أبو جعفر، عن سعيد، عن ابن عباس، لأن ذلك أصحّ الأسانيد التي رُوِي عن صحابيّ فيه قولٌ مخرَّجا، وأشبه الأقوال بما دلّ عليه ظاهر التنزيل، وذلك أن قوله( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) عقيب قوله( قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى ) وعقيب تقريع الكفار بكفرهم بالقرآن، وذلك بعدهم منه ومن الإيمان. فإذا كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى وأشبه بقوله( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) أن يكون من سبب ما هو في سياقه من الكلام، ما لم يأت بمعنى يوجب صرفه عنه، أو يكون على انصرافه عنه دليل يعلم به الانصراف عما هو في سياقه.
فإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام: قل ادعوا الله، أو ادعوا الرحمن، أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى، ولا تجهر يا محمد بقراءتك في صلاتك ودعائك فيها ربك ومسألتك إياه، وذكرك فيها، فيؤذيك بجهرك بذلك المشركون، ولا تخافت بها فلا يسمعها أصحابك( وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا )
(17/588)
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
ولكن التمس بين الجهر والمخافتة طريقا إلى أن تسمع أصحابك، ولا يسمعه المشركون فيؤذوك. ولولا أن أقوال أهل التأويل مضت بما ذكرت عنهم من التأويل، وأنا لا نستجير خلافهم فيما جاء عنهم، لكان وجها يحتمله التأويل أن يقال: ولا تجهر بصلاتك التي أمرناك بالمخافتة بها، وهي صلاة النهار لأنها عجماء، لا يجهر بها، ولا تخافت بصلاتك التي أمرناك بالجهر بها، وهي صلاة الليل، فإنها يجهر بها( وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا ) بأن تجهر بالتي أمرناك بالجهر بها، وتخافت بالتي أمرناك بالمخافتة بها، لا تجهر بجميعها، ولا تخافت بكلها، فكان ذلك وجها غير بعيد من الصحة، ولكنا لا نرى ذلك صحيحا لإجماع الحجة من أهل التأويل على خلافه. فإن قال قائل: فأية قراءة هذه التي بين الجهر والمخافتة؟
قيل: حدثني مطر بن محمد، قال: ثنا قتيبة، ووهب بن جرير، قالا ثنا شعبة، عن الأشعث بن سليم، عن الأسود بن هلال، قال: قال عبد الله: لم يخافت من أسمع أذنيه.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا شعبة، عن الأشعث، عن الأسود بن هلال، عن عبد الله، مثله.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111) }
يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم( وَقُلْ) يا محمد( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا ) فيكون مربوبا لا ربا، لأن ربّ الأرباب لا ينبغي أن يكون له ولد( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ) فيكون عاجزا ذا حاجة إلى معونة غيره ضعيفا، ولا يكون إلها من يكون محتاجا إلى معين على ما حاول، ولم يكن منفردا بالمُلك والسلطان( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ ) يقول: ولم يكن له حليف حالفه من الذّل الذي به، لأن من كان ذا حاجة إلى نصرة غيره، فذليل مهين، ولا يكون من كان ذليلا مهينا يحتاج إلى ناصر إلها يطاع( وَكَبِّرْهُ
(17/589)
تَكْبِيرًا ) يقول: وعظم ربك يا محمد بما أمرناك أن تعظمه به من قول وفعل، وأطعه فيما أمرك ونهاك.
وبنحو الذي قلنا في قوله( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ ) قال: لم يحالف أحدا، ولا يبتغي نصر أحد.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: "ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يعلِّم أهله هذه الآية( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ) الصغير من أهله والكبير.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، قال: ثنا أبو الجنيد، عن جعفر، عن سعيد، عن ابن عباس، قال: إن التوراة كلها في خمس عشرة آية من بني إسرائيل، ثم تلا( لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ).
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني أبو صخر ، عن القُرَظي، أنه كان يقول في هذه الآية( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا ).... الآية. قال: إن اليهود والنصارى قالوا: اتخذ الله ولدا ، وقالت العرب: لبيك، لبيك، لا شريك لك، إلا شريكا هو لك ، وقال الصابئون والمجوس: لولا أولياء الله لذلّ الله، فأنزل الله( وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ ) أنت يا محمد على ما يقولون( تَكْبِيرًا ).
آخر تفسير سورة بني إسرائيل، والحمد لله ربّ العالمين.
(17/590)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1)
* * *
* * *
* *
بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة الكهف
القول في تأويل قوله عز ذكره : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا (1) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الحمد لله الذي خص برسالته محمدا وانتخبه لبلاغها عنه، فابتعثه إلى خلقه نبيا مرسلا وأنزل عليه كتابه قيما، ولم يجعل له عوجا.
وعنى بقوله عز ذكره:( قِيَمًا ) معتدلا مستقيما، وقيل: عنى به: أنه قيم على سائر الكتب يصدقها ويحفظها.
* ذكر من قال عنى به معتدلا مستقيما: حدثني علي بن داود، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، في قوله:( وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا ) يقول: أنزل الكتاب عدلا قيما، ولم يجعل له عوجا، فأخبر ابن عباس بقوله هذا مع بيانه معنى القيم أن القيم مؤخر بعد قوله، ولم يجعل له عوجا، ومعناه التقديم بمعنى: أنزل الكتاب على عبده قيما.
حدثت عن محمد بن زيد، عن جويبر، عن الضحاك، في قوله( قيمًا ) قال: مستقيما.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق( وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا ) : أي معتدلا لا اختلاف فيه.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله:( وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا ) قال: أنزل الله الكتاب قيما، ولم يجعل له عوجا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا ).
قال: وفي بعض القراءات: " ولكن جعله قيما" .
والصواب من القول في ذلك عندنا : ما قاله ابن عباس، ومن قال بقوله في ذلك، لدلالة قوله:( وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا ) فأخبر جل ثناؤه أنه أنزل الكتاب
(17/591)
الذي أنزله إلى محمد صلى الله عليه وسلم( قيمًا ) مستقيما لا اختلاف فيه ولا تفاوت، بل بعضه يصدق بعضا، وبعضه يشهد لبعض، لا عوج فيه، ولا ميل عن الحق، وكسرت العين من قوله( عِوَجًا ) لأن العرب كذلك تقول في كل اعوجاج كان في دين، أو فيما لا يرى شخصه قائما، فيُدْرَك عِيانا منتصبا كالعاج في الدين، ولذلك كُسِرت العين في هذا الموضع، وكذلك العِوَج في الطريق، لأنه ليس بالشخص المنتصب ، فأما ما كان من عِوَج في الأشخاص المنتصبة قياما، فإن عينها تفتح كالعَوج في القناة، والخشبة، ونحوها، وكان ابن عباس يقول في معنى قوله( وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا ) : ولم يجعل له ملتبسا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ ، عن ابن عباس( وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا ) ولم يجعل له ملتبسا.
ولا خلاف أيضا بين أهل العربية في أن معنى قوله( قيمًا ) وإن كان مؤخرا، التقديم إلى جنب الكتاب، وقيلإنما افتتح جلّ ثناؤه هذه السورة بذكر نفسه بما هو له أهل، وبالخبر عن إنزال كتابه على رسوله إخبارا منه للمشركين من أهل مكة، بأن محمدا رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن المشركين كانوا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء علمهموها اليهود من قريظة والنضير، وأمروهم بمسآلتهموه عنها، وقالوا: إن أخبركم بها فهو نبيٌّ ، وإن لم يخبركم بها فهو متقوّل، فوعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للجواب عنها موعدا، فأبطأ الوحي عنه بعض الإبطاء، وتأخّر مجيء جبرائيل عليه السلام عنه عن ميعاده القوم، فتحدث المشركون بأنه أخلفهم موعده، وأنه متقوّل، فأنزل الله هذه السورة جوابا عن مسائلهم، وافتتح أوّلها بذكره ، وتكذيب المشركين في أحدوثتهم التي تحدثوها بينهم.
*ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، قال: ثني شيخ من أهل مصر، قدم منذ بضع وأربعين سنة، عن عكرمة، عن ابن عباس ، فيما يروي أبو جعفر الطبري (1) قال: بعثت قريش النضر بن الحارث، وعُقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة،
__________
(1) الظاهر: أن قوله " فيما يروي أبو جعفر الطبري " : عن عبارة المؤلف عن نفسه ، وليس يعني شخصا آخر ، ولا هو من تعبير بعض تلاميذه عنه.
(17/592)
قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3)
فقالوا لهم: سلوهم عن محمد، وصِفُوا لهم صفته، وأخبروهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى قدما المدينة، فسألوا أحبار يهودَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصفوا لهم أمره وبعض قوله، وقالا إنكم أهل التوراة ، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، قال: فقالت لهم أحبار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهنّ، فإن أخبركم بهنّ فهو نبيّ مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقوّل، فَرَأوا فيه رأيكم: سلوه عن فِتية ذهبوا في الدهر الأوَّل، ما كان من أمرهم فإنه قد كان لهم حديث عجيب. وسلوه عن رجل طوّاف، بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح ما هو؟ فإن أخبركم بذلك، فإنه نبيّ فاتَّبعوه، وإن هو لم يخبركم، فهو رجل متقوّل، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم. فأقبل النضْر وعقبة حتى قَدِما مكة على قريش، فقالا يا معشر قريش: قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد ، قد أمرنا أحبار يهودَ أن نسأله، عن أمور، فأخبروهم بها، فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد أخبرنا، فسألوه عما أمروهم به، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أُخْبِرُكُمْ غَدًا بِمَا سألْتُمْ عَنْهُ ، ولم يستثن فانصرفوا عنه، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة، لا يُحدِث الله إليه في ذلك وحيا، ولا يأتيه جبرائيل عليه السلام، حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وَعَدَنا محمد غدا، واليوم خمس عشرة قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه ، وحتى أحزنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مُكْثُ الوحي عنه، وشقّ عليه ما يتكلم به أهل مكة ، ثم جاءه جبرائيل عليه السلام ، من الله عزّ وجلّ، بسورة أصحاب الكهف، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم وخبر ما سألوه عنه من أمر الفِتية والرجل الطوّاف، وقول الله عزّ وجلّ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا ) [قال ابن إسحاق: فبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح السورة فقال( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ) يعني محمدا إنك رسولي في تحقيق ما سألوا عنه من نبوّته( وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا ) : أي معتدلا لا اختلاف فيه.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) }
يقول تعالى ذكره: أنزل على عبده القرآن معتدلا مستقيما لا عوج فيه لينذركم أيها الناس بأسا من الله شديدا ، وعنى بالبأس العذاب العاجل، والنكال الحاضر والسطوة ، وقوله:(مِنْ لَدُنْهُ) يعني: من عند الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق( لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا) عاجل عقوبة في الدنيا، وعذابا في الآخرة.(مِنْ لَدُنْه) : أي من عند ربك الذي بعثك رسولا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، بنحوه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:(مِنْ لَدُنْهُ) : أي من عنده.
فإن قال قائل: فأين مفعول قوله(لِيُنْذِرَ) فإن مفعوله محذوف اكتفى بدلالة ما ظهر من الكلام عليه من ذكره، وهو مضمر متصل بينذر قبل البأس، كأنه قيل: لينذركم بأسا، كما قيل:(يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) [آل عمران: 175] إنما هو: يخوّفكم أولياءه.
وقوله:( وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ ) يقول: ويبشر المصدقين الله ورسوله( الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ ) وهو العمل بما أمر الله بالعمل به، والانتهاء عما نهى الله عنه( أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ) يقول: ثوابا جزيلا لهم من الله على إيمانهم بالله ورسوله، وعملهم في الدنيا الصالحات من الأعمال، وذلك الثواب: هو الجنة
(17/593)
وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4)
التي وعدها المتقون. وقوله:( مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا ) خالدين، لا ينتقلون عنه، ولا ينقلون، ونصب ماكثين على الحال من قوله:( أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ) في هذه الحال في حال مكثهم في ذلك الأجر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سَلَمة، عن ابن إسحاق( وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا) : أي في دار خلد لا يموتون فيها، الذين صدقوك بما جئت به عن الله، وعملوا بما أمرتهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) }
==============
ثم بعدها سورة الكهف
الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا
(1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ
الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا
(2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ
وَلَدًا (4) ===
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق