نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}}

 نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}

Translate واقي ان

الأربعاء، 8 فبراير 2023

تفسير سورة النمل من الاية 14 الي الاية22.

تفسير سورة النمل من الاية 14 الي الاية22.
وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)
==========

 1.تقسير ابن كثير

2.تفسير القرطبي

3.تفسير الطبري 

4.تفسير أضواء البيان

==

1. تفسير ابن كثير
وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
{ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) }
(6/178)
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم (1) مذكرًا له ما كان من أمر موسى، كيف اصطفاه الله وكلمه، وناجاه وأعطاه من الآيات العظيمة الباهرة، والأدلة القاهرة، وابتعثه إلى فرعون وملئه، فجحدوا بها وكفروا واستكبروا عن اتباعه والانقياد له، فقال تعالى: { إِذْ قَالَ مُوسَى لأهْلِهِ } أي: اذكر حين سار موسى بأهله، فأضل الطريق، وذلك في ليل وظلام، فآنس من جانب الطور نارًا، أي: رأى نارًا تأجج (2) وتضطرم، فقال { لأهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ } أي: عن الطريق، { أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } أي: تتدفؤون به. وكان كما قال، فإنه رجع منها بخبر عظيم، واقتبس منها نورًا عظيمًا؛ ولهذا قال تعالى: { فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا } أي: فلما أتاها رأى (3) منظرًا هائلا عظيمًا، حيث انتهى إليها، والنار تضطرم في شجرة خضراء، لا تزداد النار إلا توقدًا، ولا تزداد الشجرة إلا خضرة ونضرة، ثم رفع رأسه فإذا نورها متصل بعنان السماء.
قال ابن عباس وغيره: لم تكن نارًا، إنما كانت نورًا (4) يَتَوَهَّج.
وفي رواية عن ابن عباس: نور رب العالمين. فوقف موسى متعجبًا مما رأى، فنودي أن بورك من في النار. قال ابن عباس: [أي] (5) قُدّس.
{ وَمَنْ حَوْلَهَا } أي: من الملائكة. قاله ابن عباس، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود -[و] (6) هو الطيالسي -حدثنا شعبة والمسعودي، عن عمرو بن مُرَّة، سمع أبا عُبَيْدة يحدث، عن أبي موسى، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل (7) . زاد المسعودي: "وحجابه النور -أو النار -لو كشفها لأحْرَقَتْ سُبُحات وجهه كل شيء أدركه بصره". ثم قرأ أبو عُبَيْدة: { أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا } (8)
__________
(1) في ف، أ: "صلوات الله وسلامه عليه".
(2) في ف، أ: "تتأجج".
(3) في ف: "ورأى".
(4) في ف: "وإنما نور".
(5) زيادة من ف، أ.
(6) زيادة من ف، أ.
(7) في ف: "عمل الليل بالنهار وعمل النهار بالليل".
(8) ورواه أحمد في مسنده (4/401) من طريق وكيع عن المسعودي بنحوه.
(6/179)
وأصل هذا الحديث مخرج في الصحيح لمسلم، من حديث عمرو بن مُرَّة، به (1) .
وقوله: { وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي: الذي يفعل ما يشاء ولا يشبه شيئا من مخلوقاته، ولا يحيط به شيء من مصنوعاته، وهو العلي العظيم، المباين لجميع المخلوقات، ولا يكتنفه الأرض والسموات، بل هو الأحد الصمد، المنزه عن مماثلة المحدثات.
وقوله: { يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } أعلمه (2) أن الذي يخاطبه ويناجيه هو ربه الله العزيز، الذي عز كل شيء وقهره وغلبه، الحكيم في أفعاله وأقواله.
ثم أمره أن يلقي عصاه من يده؛ ليظهر له دليلا واضحا على أنه الفاعل المختار، القادر على كل شيء. فلما ألقى موسى تلك العصا (3) من يده انقلبت في الحال حَيَّةً عظيمة هائلة في غاية الكبر، وسرعة الحركة مع ذلك؛ ولهذا قال: { فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ } والجان: ضرب من الحيات، أسرعه حركة، وأكثره اضطرابا -وفي الحديث نَهْيٌ عن قتل جِنَّان (4) البيوت (5) -فلما عاين موسى ذلك { وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ } أي: لم يلتفت من شدة فرقه { يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ } أي: لا تخف مما ترى، فإني أريد أن أصطَفيك رسولا وأجعلك نبيًا وجيهًا.
وقوله: { إِلا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ } هذا استثناء منقطع، وفيه بشارة عظيمة للبشر، وذلك أن من كان على [عمل] (6) شيء ثم أقلع عنه، ورجع وأناب، فإن الله يتوب عليه، كما قال تعالى: { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى } [طه: 82]، وقال تعالى: { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } [النساء: 110] والآيات في هذا كثيرة جدًا.
وقوله: { وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ } هذه آية أخرى، ودليل باهر على قدرة الله الفاعل المختار، وصِدْق من جعل له معجزة، وذلك أن الله -تعالى -أمره أن يُدخل يده في جيب دِرْعِه، فإذا أدخلها وأخرجها خَرجت بيضاء ساطعة، كأنها قطعة قمر، لها لمعان يتلألأ (7) كالبرق الخاطف.
وقوله: { فِي تِسْعِ آيَاتٍ } أي: هاتان ثنتان من تسع آيات أؤيدك بهن، وأجعلهن برهانا لك إلى فرعون وقومه { إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ } .
وهذه هي الآيات التسع التي قال الله تعالى: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } [الإسراء: 101] كما تقدم تقرير ذلك هنالك.
وقوله: { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً } أي: بينة واضحة ظاهرة ،
__________
(1) صحيح مسلم برقم (179).
(2) في ف: "اعلم".
(3) في ف، أ: "العصاة".
(4) في ف، أ: "حيات".
(5) صحيح البخاري برقم (3298) من حديث ابن عمر، رضي الله عنهما.
(6) زيادة من أ.
(7) في ف: "تتلألأ"
(6/180)
وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
{ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ } وأرادوا معارضته بسحرهم فغلبوا [هنالك] (1) { وانقلبوا صاغرين } .
{ وَجَحَدُوا بِهَا } أي: في ظاهر أمرهم ، { وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ } أي: علموا في أنفسهم أنها حق (2) من عند الله، ولكن جَحَدوها وعاندوها وكابروها، { ظُلْمًا وَعُلُوًّا } أي: ظلما من أنفسهم، سَجِيَّة ملعونة، { وَعُلُوًّا } أي: استكبارًا عن اتباع الحق؛ ولهذا قال: { فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } أي: انظر يا محمد كيف كان عاقبة كُفرهم (3) ، في إهلاك الله إياهم، وإغراقهم عن آخرهم في صبيحة واحدة.
وفحوى الخطاب يقول: احذروا أيها المكذبون بمحمد، الجاحدون لما جاء به من ربه، أن يصيبكم ما أصابهم بطريق الأولى والأحرى؛ فإن محمدًا، صلوات الله وسلامه عليه (4) أشرف وأعظم من موسى، وبرهانه أدل وأقوى من برهان موسى، بما آتاه الله من الدلائل المقترنة بوجوده في نفسه وشمائله، وما سبقه من البشارات من الأنبياء به، وأخذ المواثيق له، عليه (5) من ربه أفضل الصلاة والسلام.
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) } .
يخبر تعالى عما أنعم به على عبديه ونبييه داود وابنه سليمان، عليهما من الله السلام، من النعم الجزيلة، والمواهب الجليلة، والصفات الجميلة، وما جمع لهما بين سعادة الدنيا والآخرة، والملك والتمكين التام في الدنيا، والنبوة والرسالة في الدين؛ ولهذا قال: { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ } .
قال ابن أبي حاتم: ذكر عن إبراهيم بن يحيى بن تمام (6) : أخبرني أبي، عن جدي قال: كتب عمر بن عبد العزيز: إن الله لم ينعم على عَبد نعمة فحمد الله عليها، إلا كان حَمْدُه أفضل من نعمته (7) ، لو كنت لا تعرف ذلك إلا في كتاب الله المنزل؛ قال الله تعالى: { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ } ، وأي نعمة أفضل مما أوتي داود
__________
(1) زيادة من ف، أ.
(2) في ف، أ: "صدق".
(3) في ف، أ: "أمرهم".
(4) في ف: "صلى الله عليه وسلم".
(5) في ف: "عليهم".
(6) في ف: "هشام".
(7) في ف: "نعمه".
(6/181)
وسليمان، عليهما السلام؟
وقوله: { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ } أي: في الملك والنبوة، وليس المراد وراثَةَ المال؛ إذ لو كان كذلك لم يخص سليمان وحده من بين سائر أولاد داود، فإنه قد كان لداود مائةُ امرأة. ولكن المراد بذلك وراثةُ الملك والنبوة؛ فإن الأنبياء لا تورث أموالهم، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم [في قوله] (1) : نحن معشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة (2) (3) .
وقوله (4) : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } (5) ، أي: أخبر سليمان بنعم الله عليه، فيما وهبه له من الملك التام، والتمكين العظيم، حتى إنه سَخَّر له الإنس والجن والطير. وكان يعرف لغة الطير والحيوان أيضًا، وهذا شيء لم يُعطَه أحد من البشر -فيما علمناه -مما أخبر الله به ورسوله. وَمَنْ زعم من الجهلة والرّعاع أنّ الحيوانات كانت تنطق كنطق بني آدم قبل سليمان بن داود -كما يتفوه به كثير من الناس -فهو قولٌ بلا علم. ولو كان الأمر كذلك لم يكن لتخصيص سليمان بذلك فائدة؛ إذ كلهم يسمع كلام الطيور والبهائم، ويعرف ما تقول، فليس الأمر كما زعموا ولا كما قالوا، بل لم تزل (6) البهائم والطيور وسائر المخلوقات من وقت خُلقت إلى زماننا هذا على هذا الشكل والمنوال. ولكن الله، سبحانه وتعالى، كان قد أفهم سليمان، عليه السلام، ما يتخاطب به الطيور في الهواء، وما تنطق (7) به الحيوانات على اختلاف أصنافها؛ ولهذا قال: { عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } أي: مما يحتاج إليه الملك، { إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ } أي: الظاهر البين لله علينا.
قال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن عمرو بن أبي عمرو، عن المطلب، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كان داود، عليه السلام، فيه غيرة شديدة، فكان إذا خرج أغلقت الأبواب، فلم يدخل على أهله أحد حتى يرجع". قال: "فخرج ذات يوم وأغلقت (8) الأبواب، فأقبلت امرأته تطلع إلى الدار، فإذا رجل قائم وسط الدار، فقالت لِمَنْ في البيت: من أين دخل هذا الرجل، والدار مغلقة؟ والله لنفتضحن بداود، فجاء داود، عليه السلام، فإذا الرجل قائم وسط الدار، فقال له داود: من أنت؟ قال: الذي لا يهاب الملوك، ولا يمتنع من الحجاب. فقال داود: أنت والله إذًا ملك الموت. مرحبًا بأمر الله، فتزمل داود، عليه السلام، مكانه حتى قبضت نفسه، حتى فرغ من شأنه وطلعت عليه الشمس، فقال سليمان، عليه السلام، للطير: أظلي على داود، فأظلت عليه الطير حتى أظلمت عليهما الأرض،
__________
(1) زيادة من ف، أ.
(2) في ف، أ: "ما تركناه فهو صدقة".
(3) رواه البخاري في صحيحه برقم (6727) من حديث عائشة بلفظ: "لا نورث ما تركناه صدقة". قال الحافظ ابن حجر في الفتح (12/8): وأما ما اشتهر في كتب أهل الأصول وغيرهم بلفظ: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث" فقد أنكره جماعة من الأئمة، وهو كذلك بالنسبة لخصوص لفظ: "نحن" وانظر بقية كلامه وحمله لمعنى الحديث في الفتح.
(4) في ف: "وقال".
(5) بعدها في ف، أ: "إن هذا لهو الفضل المبين".
(6) في ف: "بل نزل".
(7) في ف: "وما ينطق".
(8) في ف: "وغلقت".
(6/182)
فقال لها سليمان: اقبضي جناحا جناحا" قال أبو هريرة: يا رسول الله، كيف فعلت الطير؟ فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، وغلبت عليه يومئذ المضرَحية (1) (2) .
قال أبو الفرج بن الجَوْزيّ: المَضْرَحيّة (3) النسور الحُمر.
وقوله تعالى: { وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ } أي: وجمع لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير يعني: ركب فيهم في أبهة وعظمة (4) كبيرة في الإنس، وكانوا هم الذين يلونه، والجن وهم بعدهم [يكونون] (5) في المنزلة، والطير ومنزلتها فوق رأسه، فإن كان حرًّا أظلته منه بأجنحتها.
وقوله: { فَهُمْ يُوزَعُونَ } أي: يكف أولهم على آخرهم؛ لئلا يتقدم أحد عن منزلته التي هي مرتبة له.
قال مجاهد: جعل على كل صنف وزعة، يردون أولاها على أخراها، لئلا يتقدموا في المسير، كما يفعل الملوك اليوم.
وقوله: { حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ } أي: حتى إذا مر سليمان، عليه السلام، بمن معه من الجيوش والجنود على وادي النمل، { قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } .
أورد (6) ابن عساكر، من طريق إسحاق بن بشر، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن: أن اسم هذه النملة حرس، وأنها من قبيلة يقال لهم: بنو الشيصان، وأنها كانت عرجاء، وكانت بقدر الذّيب (7) .
أي: خافت على النمل أن تحطمها (8) الخيول بحوافرها، فأمرتهم بالدخول إلى مساكنها (9) ففهم ذلك سليمان، عليه السلام، منها (10) .
{ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ } أي: ألهمني أن أشكر نعمتك التي مننت بها علي، من تعليمي منطق الطير والحيوان، وعلى والدي بالإسلام لك، والإيمان بك، { وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ } أي: عملا تحبه وترضاه، { وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ } أي: إذا توفيتني فألحقني بالصالحين من عبادك، والرفيق الأعلى من أوليائك.
ومن قال من المفسرين: إن هذا الوادي كان بأرض الشام أو بغيره، وإن هذه النملة كانت ذات جناحين كالذباب، أو غير ذلك من الأقاويل، فلا حاصل لها.
__________
(1) في ف: "المصرحية".
(2) المسند (2/419) وقال الهيثمي في المجمع (8/206) "فيه المطلب بن عبد الله بن حنطب وثقه أبو زرعة وغيره، وبقية رجاله رجال الصحيح".
(3) في هـ، ف، أ: "المصرحية" والمثبت من لسان العرب، مادة "ضرح".
(4) في ف: "عظيمة".
(5) زيادة من ف.
(6) في ف، أ: "فأورد".
(7) في ف: "الذئب".
(8) في ف: "يحطمها".
(9) في ف: "مساكنهم".
(10) في ف: "عنها".
(6/183)
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)
وعن نَوْف البكالي أنه قال: كان نمل سليمان أمثال الذئاب. هكذا رأيته مضبوطا بالياء المثناة من تحت. وإنما هو بالباء الموحدة، وذلك تصحيف، والله أعلم.
والغرض أن سليمان، عليه السلام، فهم قولها، وتبسم ضاحكًا من ذلك (1) ، وهذا أمر عظيم جدا.
وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن بشار، حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا مِسْعَر، عن زيد العَمّي، عن أبي الصديق الناجي قال: خرج سليمان (2) عليه (3) السلام، يستسقي، فإذا هو بنملة مستلقية على ظهرها، رافعة قوائمها إلى السماء، وهي تقول: اللهم، إنا خلق من خلقك، ولا غنى بنا عن سقياك، وإلا تسقنا تهلكنا. فقال سليمان عليه السلام: ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم.
وقد ثبت في الصحيح -عند مسلم -من طريق عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن همام، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم [قال] (4) قَرَصَت نبيا من الأنبياء نملة، فأمر بقرية النمل فأحرقت، فأوحى الله إليه، أفي (5) أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تُسَبِّح؟ فهلا نملة واحدة!" (6) .
{ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) } .
قال مجاهد، وسعيد بن جبير، وغيرهما، عن ابن عباس وغيره: كان الهدهد مهندسا، يدل سليمان، عليه السلام، على الماء، إذا كان بأرض فلاة طلبه فنظر له الماء في تخوم الأرض، كما يرى الإنسان الشيء الظاهر على وجه الأرض، ويعرف كم مساحة بعده من وجه الأرض، فإذا دلهم عليه أمر سليمان، عليه السلام، الجان فحفروا له ذلك المكان، حتى يستنبط (7) الماء من قراره، فنزل سليمان، عليه السلام [يوما] (8) ، بفلاة من الأرض، فتفقد الطير ليرى الهدهد، فلم يره، { فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ } .
حدَّث يوما عبد الله بن عباس بنحو هذا، وفي القوم رجل من الخوارج، يقال له: "نافع بن الأزرق" ، وكان كثير الاعتراض على ابن عباس، فقال له: قف يا بن عباس، غُلبت اليوم! قال: وَلِمَ؟ قال: إنك تخبر عن الهدهد أنه يرى الماء في تخوم الأرض، وإن الصبي ليضع له الحبة في الفخ، ويحثو على الفخ ترابًا، فيجيء الهدهد ليأخذها فيقع في الفخ، فيصيده الصبي. فقال ابن عباس: لولا أن يذهب هذا فيقول: رددت على ابن عباس، لما أجبته. فقال (9) له: ويحك! إنه إذا نزل القَدَر عَمي البصر، وذهب الحَذَر. فقال له نافع: والله لا أجادلك في شيء من القرآن
__________
(1) في ف: "من قولها".
(2) في ف، أ: "سليمان بن داود".
(3) في ف: "عليهما".
(4) زيادة من ف، أ.
(5) في ف، أ: "أي".
(6) صحيح مسلم برقم (2241).
(7) في ف: "يستنبطوا".
(8) زيادة من ف، أ.
(9) في ف، أ: "ثم قال".
(6/184)
أبدًا (1) .
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي عبد الله البَرْزيّ -من أهل "بَرْزَةَ" من غوطة دمشق، وكان من الصالحين يصوم [يوم] (2) الاثنين والخميس، وكان أعور قد بلغ الثمانين -فروى ابن عساكر بسنده إلى أبي سليمان بن زيد: أنه سأله عن سبب عَوَره، فامتنع عليه، فألح عليه شهورًا، فأخبره أن رجلين من أهل خراسان نزلا عنده جمعة في قرية برزة، وسألاه عن وادٍ بها، فأريتهما إياه، فأخرجا مجامر وأوقدا فيها بخورًا كثيرًا، حتى عجعج الوادي بالدخان، فأخذا يَعْزمان والحيات تقبل من كل مكان إليهما، فلا يلتفتان إلى شيء منها، حتى أقبلت حية نحو الذراع، وعيناها توقدان مثل الدينار. فاستبشرا بها عظيما، وقالا الحمد لله الذي لم يُخَيب سفرنا من سنة، وكسرا المجامر، وأخذا الحية فأدخلا في عينها ميلا فاكتحلا به، فسألتهما أن يكحلاني، فأبيا، فألححت عليهما وقلت: لا بد من ذلك، وتوعدتهما بالدولة، فكحلا عيني الواحدة اليمنى، فحين وقع في عيني نظرت إلى الأرض تحتي مثل المرآة، أنظر ما تحتها كما تُري المرآة، ثم قالا لي: سر معنا قليلا فسرت معهما وهما يحدثان، حتى إذا بعدت عن القرية، أخذاني فكتفاني، وأدخل أحدهما يده في عيني ففقأها، ورمى بها ومضيا. فلم أزل كذلك ملقى مكتوفًا، حتى مر بي نفر ففَكَّ وَثَاقي. فهذا ما كان من خبر عيني (3) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا صدقة بن عمرو الغساني، حدثنا عَبّاد بن مَيْسَرة المِنْقَرِيّ، عن الحسن قال: اسم هدهد سليمان عليه السلام: عنبر.
وقال محمد بن إسحاق: كان سليمان، عليه السلام، إذا غدا إلى مجلسه الذي كان يجلس فيه: تفقد الطير، وكان فيما يزعمون يأتيه نُوَبٌ من كل صنف من الطير، كل يوم طائر، فنظر فرأى من أصناف الطير كلّها من حَضَره إلا الهدهد، { فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ } أخطأه بصري من الطير، أم غاب فلم يحضر؟.
وقوله: { لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا } : قال الأعمش، عن المِنْهَال بن عمرو، عن سعيد، عن ابن عباس: يعني نتف ريشه.
وقال عبد الله بن شداد: نتف ريشه وتشميسه. وكذا قال غير واحد من السلف: إنه نتف ريشه، وتركه مُلْقًى يأكله الذر والنمل.
وقوله: { أَوْ لأذْبَحَنَّهُ } يعني: قتله ، { أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ } أي: بعذر واضح بين.
وقال سفيان بن عيينة، وعبد الله بن شداد: لما قدم الهدهد قال له الطير: ما خلفك، فقد نذر سليمان دمك! فقال: هل استثنى؟ فقالوا: نعم، قال: { لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ } فقال: نجوت إذًا.
__________
(1) رواه الحاكم في المستدرك (2/405) من طريق المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير بنحوه.
(2) زيادة من ف.
(3) تاريخ دمشق (19/130 "المخطوط").
(6/185)
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)
قال مجاهد: إنما دفع [الله] (1) عنه ببره بأمه (2) .
{ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) }
__________
(1) زيادة من ف، أ.
(2) في ف: "أمه".
=================
الآية: [14] {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}
قوله تعالى: {إِذْ قَالَ مُوسَى لأَهْلِهِ} {إِذْ} منصوب بمضمر وهو أذكر؛ كأنه قال على أثر قوله. {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} : خذ يا محمد من آثار حكمته وعلمه قصة موسى إذ قال لأهله. {إِنِّي آنَسْتُ نَاراً} أي أبصرتها من بعد. قال الحرث بن حلزة:
آنست نبأة وأفزعها القناص ... عصرا وقد دنا الإمساء
{سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} قرأ عاصم وحمزة والكسائي: {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} بتنوين {بِشِهَابٍ} . والباقون بغير تنوين على الإضافة؛ أي بشعلة نار؛ واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. وزعم الفراء في ترك التنوين أنه بمنزلة قولهم: ولدار الآخرة، ومسجد الجامع، وصلاة الأولى؛ يضاف الشيء إلى نفسه إذا اختلفت أسماؤه. قال النحاس: إضافة الشيء إلى نفسه محال عند البصريين، لأن معنى الإضافة في اللغة ضم شيء إلى شيء
(13/156)
فمحال أن يضم الشيء إلى نفسه، وإنما يضاف الشيء إلى الشيء ليتبين به معنى الملك أو النوع، فمحال أن يتبين أنه مالك نفسه أو من نوعها. و {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} إضافة النوع والجنس، كما تقول: هذا ثوب خز، وخاتم حديد وشبهه. والشهاب كل ذي نور؛ نحو الكوكب والعود الموقد. والقبس اسم لما يقتبس من جمر وما أشبهه؛ فالمعنى بشهاب من قبس. يقال. أقبست قبسا؛ والاسم قبس. كما تقول: قبضت قبضا. والاسم القبض. ومن قرأ: {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} جعله بدلا منه. المهدوي: أو صفة له؛ لأن القبس يجوز أن يكون اسما غير صفة، ويجوز أن يكون صفة؛ فأما كونه غير صفة فلأنهم قالوا قبسته أقبسه قبسا والقبس المقبوس؛ وإذا كان صفة فالأحسن أن يكون نعتا. والإضافة فيه إذا كان غير صفة أحسن. وهي إضافة النوع إلى جنسه كخاتم فضة وشبهه. ولو قرئ بنصب قبس على البيان أو الحال كان أحسن. ويجوز في غير القرآن بشهاب قبسا على أنه مصدر أو بيان أو حال. {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} أصل الطاء تاء فأبدل منها هنا طاء؛ لأن الطاء مطبقة والصاد مطبقة فكان الجمع بينهما حسنا، ومعناه يستدفئون من البرد. يقال: اصطلى يصطلي إذا استدفأ. قال الشاعر:
النار فاكهة الشتاء فمن يرد ... أكل الفواكه شاتيا فليصطل
الزجاج: كل أبيض ذي نور فهو شهاب. أبو عبيدة: الشهاب النار. قال أبو النجم:
كأنما كان شهابا واقدا ... أضاء ضوءا ثم صار خامدا
أحمد بن يحيى: أصل الشهاب عود في أحد طرفيه جمرة والآخر لا نار فيه؛ وقول النحاس فيه حسن، والشهاب الشعاع المضيء ومنه الكوكب الذي يمد ضوءه في السماء. وقال الشاعر:
في كفه صعدة مثقفة ... فيها سنان كشعلة القبس
قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهَا} أي فلما جاء موسى الذي ظن أنه نار وهي نور؛ قال وهب بن منبه. فلما رأى موسى النار وقف قريبا منها، فرآها تخرج من فرع شجرة خضراء شديدة الخضرة يقال لها العليق، لا تزداد النار إلا عظما وتضرما، ولا تزداد الشجرة
(13/157)
إلا خضرة وحسنا؛ فعجب منها وأهوى إليها بضغث في يده ليقتبس منها؛ فمالت إليه؛ فخافها فتأخر عنها؛ ثم لم تزل تطمعه ويطمع فيها إلى أن وضح أمرها على أنها مأمورة لا يدري من أمرها، إلى أن {نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . وقد مضى هذا المعنى في {طه}. {نُودِيَ} أي ناداه الله؛ كما قال: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} [مريم: 52]. {أَنْ بُورِكَ} قال الزجاج: {أَنْ} في موضع نصب؛ أي بأنه. قال: ويجوز أن تكون في موضع رفع جعلها اسم ما لم يسم فاعله. وحكى أبو حاتم أن في قراءة أبي وابن عباس ومجاهد {أَنْ بُورِكَت مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} . قال النحاس: ومثل هذا لا يوجد بإسناد صحيح، ولو صح لكان على التفسير، فتكون البركة راجعة إلى النار ومن حولها الملائكة وموسى. وحكى الكسائي عن العرب: باركك الله، وبارك فيك. الثعلبي: العرب تقول باركك الله، وبارك فيك، وبارك عليك، وبارك لك، أربع لغات. قال الشاعر:
فبوركت مولودا وبوركت ناشئا ... وبوركت عند الشيب إذ أنت أشيب
الطبري: قال { أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} ولم يقل بورك في من في النار على لغة من يقول باركك الله. ويقال باركه الله، وبارك له، وبارك عليه، وبارك فيه بمعنى؛ أي بورك على من في النار وهو موسى، أو على من في قرب النار؛ لا أنه كان في وسطها. وقال السدي: كان في النار ملائكة فالتبريك عائد إلى موسى والملائكة؛ أي بورك فيك يا موسى وفي الملائكة الذين هم حولها. وهذا تحية من الله تعالى لموسى وتكرمة له، كما حيا إبراهيم على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه؛ قال: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود: 73]. وقول ثالث قاله ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير: قدس من في النار وهو الله سبحانه وتعالى، عنى به نفسه تقدس وتعالى. قال ابن عباس ومحمد بن كعب: النار نور الله عز وجل؛ نادى الله موسى وهو في النور؛ وتأويل هذا أن موسى عليه السلام رأى نورا عظيما فظنه نارا؛ وهذا لأن الله تعالى ظهر لموسى بآياته وكلامه من النار لا أنه يتحيز في جهة {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84]
(13/158)
لا أنه يتحيز فيهما، ولكن يظهر في كل فعل فيعلم به وجود الفاعل. وقيل على هذا: أي بورك من في النار سلطانه وقدرته. وقيل: أي بورك ما في النار من أمر الله تعالى الذي جعله علامة.
قلت: ومما يدل على صحة قول ابن عباس ما خرجه مسلم في صحيحه، وابن ماجة في سننه واللفظ له عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه حجابه النور لو كشفها لأحرقت سحبات وجهه كل شيء أدركه بصره" ثم قرأ أبو عبيدة: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أخرجه البيهقي أيضا. ولفظ مسلم عن أبي موسى قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات؛ فقال: إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور - وفي رواية أبي بكر النار - لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أنتهى إليه بصره من خلقه" قال أبو عبيد: يقال السبحات إنها جلال وجهه، ومنها قيل: سبحان الله إنما هو تعظيم له وتنزيه. وقوله: "لو كشفها" يعني لو رفع الحجاب عن أعينهم ولم يثبتهم لرؤيته لاحترقوا وما استطاعوا لها. قال ابن جريج: النار حجاب من الحجب وهي سبعة حجب؛ حجاب العزة، وحجاب الملك، وحجاب السلطان، وحجاب النار، وحجاب النور، وحجاب الغمام، وحجاب الماء. وبالحقيقة فالمخلوق المحجوب والله لا يحجبه شيء؛ فكانت النار نورا وإنما ذكره بلفظ النار؛ لأن موسى حسبه نارا، والعرب تضع أحدهما موضع الآخر. وقال سعيد بن جبير: كانت النار بعينها فأسمعه تعالى كلامه من ناحيتها، وأظهر له ربوبيته من جهتها. وهو كما روي أنه مكتوب في التوراة: "جاء الله من سيناء وأشرف من ساعير واستعلى من جبال فاران". فمجيئه من سيناء بعثه موسى منها، وإشرافه من ساعير بعثه المسيح منها، واستعلاؤه من فاران بعثه محمدا صلي الله عليه وسلم، وفاران مكة. وسيأتي في {القصص} بإسماعه سبحانه كلامه من الشجرة زيادة بيان إن شاء الله تعالى.
(13/159)
قوله تعالى: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} تنزيها وتقديسا لله رب العالمين. وقد تقدم في غير موضع، والمعنى: أي يقول من حولها: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ} فحذف. وقيل: إن موسى عليه السلام قاله حين فرغ من سماع النداء؛ استعانة بالله تعالى وتنزيها له؛ قال السدي. وقيل: هو من قول الله تعالى. ومعناه: وبورك فيمن سبح الله تعالى رب العالمين؛ حكاه ابن شجرة.
قوله تعالى: {يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} الهاء عماد وليست بكناية في قول الكوفيين. والصحيح أنها كناية عن الأمر والشأن. {أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} الغالب الذي ليس كمثله شيء {الْحَكِيمُ} في أمره وفعله. وقيل: قال موسى يا رب من الذي نادى؟ فقال له: {إِنَّهُ} أي إني أنا المنادي لك {أَنَا اللَّهُ} .
قوله تعالى: {وَأَلْقِ عَصَاكَ} قال وهب بن منبه: ظن موسى أن الله أمره أن يرفضها فرفضها وقيل: إنما قال له ذلك ليعلم موسى أن المكلم له هو الله، وأن موسى رسوله؛ وكل نبي لابد له من آية في نفسه يعلم بها نبوته. وفي الآية حذف: أي وألق عصاك فألقاها من يده فصارت حية تهتز كأنها جان، وهي الحية الخفيفة الصغيرة الجسم. وقال الكلبي: لا صغيرة ولا كبيرة. وقيل: إنها قلبت له أولا حية صغيرة فلما أنس منها قلبت حية كبيرة. وقيل: انقلبت مرة حية صغيرة، ومرة حية تسعى وهي الأنثى، ومرة ثعبانا وهو الذكر الكبير من الحيات. وقيل: المعنى انقلبت ثعبانا تهتز كأنها جان لها عظم الثعبان وخفة الجان واهتزازه وهي حية تسعى. وجمع الجان جنان؛ ومنه الحديث: "نهي عن قتل الجنان التي في البيوت". {وَلَّى مُدْبِراً} خائفا على عادة البشر {وَلَمْ يُعَقِّبْ} أي لم يرجع؛ قاله مجاهد. وقال قتادة: لم يلتفت. {يَا مُوسَى لا تَخَفْ} أي من الحية وضررها. {إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} وتم الكلام ثم استثنى استثناء منقطعا فقال: {إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ} وقيل: إنه استثناء من محذوف؛ والمعنى: إني لا يخاف لدي المرسلون وإنما يخاف غيرهم ممن ظلم {إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ} فإنه لا يخاف؛ قاله الفراء.
(13/160)
قال النحاس: استثناء من محذوف محال؛ لأنه استثناء من شيء لم يذكر ولو جاز هذا لجاز إني لأضرب القوم إلا زيدا بمعنى إني لا أضرب القوم وإنما أضرب غيرهم إلا زيدا؛ وهذا ضد البيان، والمجيء بما لا يعرف معناه. وزعم الفراء أيضا أن بعض النحويين يجعل إلا بمعنى الواو أي ولا من ظلم؛ قال:
وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان
قال النحاس: وكون {إِلاَّ} بمعنى الواو لا وجه له ولا يجوز في شيء من الكلام، ومعنى {إِلاَّ} خلاف الواو؛ لأنك إذا قلت: جاءني إخوتك إلا زيدا أخرجت زيدا مما دخل فيه الإخوة فلا نسبة بينهما ولا تقارب. وفي الآية قول آخر: وهو أ يكون الاستثناء متصلا؛ والمعنى إلا من ظلم من المرسلين بإتيان الصغائر التي لا يسلم منها أحد، سوى ما روي عن يحيى بن زكريا عليه السلام، وما ذكره الله تعالى في نبينا عليه السلام في قوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] ذكره المهدوي واختاره النحاس؛ وقال: علم الله من عصى منهم يسر الخيفة فاستثناه فقال: {إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ} فإنه يخاف وإن كنت قد غفرت له. الضحاك: يعني آدم وداود عليهما السلام الزمخشري. كالذي فرط من آدم ويونس وداود وسليمان وإخوة يوسف، ومن موسى عليه السلام بوكزه القبطي. فإن قال قائل: فما معنى الخوف بعد التوبة والمغفرة؟ قيل له: هذه سبيل العلماء بالله عز وجل أن يكونوا خائفين من معاصيهم وجلين، وهم أيضا لا يأمنون أن يكون قد بقي من أشراط التوبة شيء لم يأتوا به، فهم يخافون من المطالبة به. وقال الحسن وابن جريج: قال الله لموسى إني أخفتك لقتلك النفس. قال الحسن: وكانت الأنبياء تذنب فتعاقب. قال الثعلبي والقشيري والماوردي وغيرهم: فالاستثناء على هذا صحيح؛ أي إلا من ظلم نفسه من النبيين والمرسلين فيما فعل من صغيرة قبل النبوة. وكان موسى خاف من قتل القبطي وتاب منه. وقد قيل: إنهم بعد النبوة معصومون من الصغائر والكبائر. وقد مضى هذا في {البقرة}.
(13/161)
قلت: والأول أصح لتنصلهم من ذلك في القيامة كما في حديث الشفاعة، وإذا أحدث المقرب حدثا فهو وإن غفر له ذلك الحدث فأثر ذلك الحدث باق، وما دام الأثر والتهمة قائمة فالخوف كائن لا خوف العقوبة ولكن خوف العظمة، والمتهم عند السلطان يجد للتهمة حزازة تؤديه إلى أن يكدر عليه صفاء الثقة. وموسى عليه السلام قد كان منه الحدث في ذلك الفرعوني، ثم استغفر وأقر بالظلم على نفسه، ثم غفر له، ثم قال بعد المغفرة: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص: 17] ثم ابتلى من الغد بالفرعوني الآخر وأراد أن يبطش به، فصار حدثا آخر بهذه الإرادة. وإنما ابتلي من الغد لقوله: {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} وتلك كلمة اقتدار من قوله لن أفعل، فعوقب بالإرادة حين أراد أن يبطش ولم يفعل، فسلط عليه الإسرائيلي حتى أفشى سره؛ لأن الإسرائيلي لما رآه تشمر للبطش ظن أنه يريده، فأفشى عليه فـ {قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ} [القصص: 19] فهرب الفرعوني وأخبر فرعون بذلك أفشى الإسرائيلي على موسى، وكان القتيل بالأمس مكتوما أمره لا يدري من قتله، فلما علم فرعون بذلك، وجه في طلب موسى ليقتله، واشتد الطلب وأخذوا مجامع الطرق؛ جاء رجل يسعى فـ {قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} [القصص: 20] الآية. فخرج كما أخبر الله. فخوف موسى إنما كان من أجل هذا الحدث؛ فهو وإن قربه وبه وأكرمه واصطفاه بالكلام فالتهمة الباقية ولت به ولم يعقب.
قوله تعالى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} تقدم في {طه}. {فِي تِسْعِ آيَاتٍ} قال النحاس أحسن ما قيل فيه أن المعنى: هذه الآية داخلة في تسع آيات. المهدوي: المعنى: {أَلْقِ عَصَاكَ} {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} فهما آيتان من تسع آيات. وقال القشيري معناه: كما تقول خرجت في عشرة نفر وأنت أحدهم. أي خرجت عاشر عشرة. فـ {ـفِي} بمعنى {مِنْ} لقربها منها كما تقول خذ لي عشرا من الإبل فيها فحلان أي منها. وقال الأصمعي في قول امرئ القيس:
وهل ينعمن من كان آخر عهده ... ثلاثين شهرا في ثلاثة أحوال
(13/162)
في بمعنى من. وقيل: في بمعنى مع؛ فالآيات عشرة منها اليد، والتسع: الفلق والعصا والجراد والقمل والطوفان والدم والضفادع والسنين والطمس. وقد تقدم بيان جميعه. {إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} قال الفراء: في الكلام إضمار لدلالة الكلام عليه، أي إنك مبعوث أو مرسل إلى فرعون وقومه. {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} أي خارجين عن طاعة الله؛ وقد تقدم.
قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً} أي واضحة بينة. قال الأخفش: ويجوز مبصرة وهو مصدر كما يقال: الولد مجبنة. {قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} جروا على عادتهم في التكذيب فلهذا قال: {بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} أي تيقنوا أنها من عند الله وأنها ليست سحرا، ولكنهم كفروا بها وتكبروا أن يؤمنوا بموسى. وهذا يدل على أنهم كانوا معاندين. و {ظُلْماً} و {عُلُوّاً} منصوبان على نعت مصدر محذوف، أي وجحدوا بها جحودا ظلما وعلوا. والباء زائدة أي وجحدوها؛ قال أبو عبيدة. {فَانْظُرْ} يا محمد {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} أي آخر أمر الكافرين الطاغين، انظر ذلك بعين قلبك وتدبر فيه. الخطاب له والمراد غيره.
الآية: [15] {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ}
الآية: [16] {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً} أي فهما؛ قاله قتادة. وقيل: علما بالدين والحكم وغيرهما كما قال: {وَ عَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} [الأنبياء: 80]. وقيل: صنعة الكيمياء. وهو شاذ. وإنما الذي آتاهما الله النبوة والخلافة في الأرض والزبور. {وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ
(13/163)
الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} وفي الآية دليل على شرف العلم وإنافة محله وتقدم حملته وأهله، وأن نعمة العلم من أجل النعم وأجزل القسم، وأن من أوتيه فقد أوتي فضلا على كثير من عباد الله المؤمنين. {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]. وقد تقدم هذا في غير موضع.
قوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} قال الكلبي: كان لداود صلى الله عليه وسلم تسعة عشر ولدا فورث سليمان من بينهم نبوته وملكه، ولو كان وراثة مال لكان جميع أولاده فيه سواء؛ وقال ابن العربي؛ قال: فلو كانت وراثة مال لانقسمت على العدد؛ فخص الله سليمان بما كان لداود من الحكمة والنبوة، وزاده من فضله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده. قال ابن عطية: داود من بني إسرائيل وكان ملكا وورث سليمان ملكه ومنزلته من النبوة، بمعنى صار إليه ذلك بعد موت أبيه فسمي ميراثا تجوزا؛ وهذا نحو قوله: "العلماء ورثة الأنبياء" ويحتمل قوله عليه السلام: "إنا معشر الأنبياء لا نورث" أن يريد أن ذلك من فعل الأنبياء وسيرتهم، وإن كان فيهم من ورث ماله كـ "زكريا" على أشهر الأقوال فيه؛ وهذا كما تقول: إنا معشر المسلمين إنما شغلتنا العبادة، والمراد أن ذلك فعل الأكثر. ومنه ما حكى سيبويه: إنا معشر العرب أقرى الناس للضيف.
قلت: قد تقدم هذا المعنى في {مَرْيَمَ} وأن الصحيح القول الأول لقوله عليه السلام: "إنا معشر الأنبياء لا نورث" فهو عام ولا يخرج منه شيء إلا بدليل. قال مقاتل: كان سليمان أعظم ملكا من داود وأقضى منه، وكان داود أشد تعبدا من سليمان. قال غيره: ولم يبلغ أحد من الأنبياء ما بلغ ملكه؛ فإن الله سبحانه وتعالى سخر له الإنس والجن والطير والوحش، وآتاه ما لم يؤت أحدا من العالمين، وورث أباه في الملك والنبوة، وقام بعده بشريعته، وكل نبي جاء بعه موسى ممن بعث أو لم يبعث فإنما كان بشريعة موسى، إلى أن بعث المسيح عليه السلام فنسخها. وبينه وبين الهجرة نحو من ألف وثمانمائة سنة. واليهود تقول ألف
(13/164)
وثلاثمائة واثنتان وستون سنة. وقيل: إن بين موته وبين مولد النبي صلى الله عليه سلم نحوا من ألف وسبعمائة. واليهود تنقص منها ثلاثمائة سنة، وعاش نيفا وخمسين سنة.
قوله تعالى: {وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ} أي قال سليمان لبني إسرائيل على جهة الشكر لنعم الله {علمنا منطق الطير} أي تفضل الله علينا على ما ورثنا من داود من العلم والنبوة والخلافة في الأرض في أن فهمنا من أصوات الطير المعاني التي في نفوسها. قال مقاتل في الآية: كان سليمان جالسا ذات يوم إذ مر به طائر يطوف، فقال لجلسائه: أتدرون ما يقول هذا الطائر؟ إنها قالت لي: السلام عليك أيها الملك المسلط والنبي لبني إسرائيل! أعطاك الله الكرامة، وأظهرك على عدوك، إني منطلق إلى أفراخي ثم أمر بك الثانية؛ وإنه سيرجع إلينا الثانية ثم رجع؛ فقال إنه يقول: السلام عليك أيها الملك المسلط، إن شئت أن تأذن لي كيما أكتسب على أفراخي حتى يشبوا ثم آتيك فافعل بي ما شئت. فأخبرهم سليمان بما قال؛ وأذن له فانطلق. وقال فرقد السبخي: مر سليمان على بلبل فوق شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه، فقال لأصحابه: أتدرون ما يقول هذا البلبل؟ قالوا لا يا نبي الله. قال إنه يقول: أكلت نصف ثمرة فعلى الدنيا العفاء. ومر بهدهد فوق شجرة وقد نصب له صبي فخا فقال له سليمان: احذر يا هدهد! فقال: يا نبي الله! هذا صبي لا عقل له فأنا أسخر به. ثم رجع سليمان فوجده قد وقع في حبالة الصبي وهو في يده، فقال: هدهد ما هذا؟ قال: ما رأيتها حتى وقعت فيها يا نبي الله. قال: ويحك! فأنت ترى الماء تحت الأرض أما ترى الفخ! قال: يا نبي الله إذا نزل القضاء عمي البصر. وقال كعب. صاح ورشان عند سليمان بن داود فقال: أتدرون ما يقول؟
(13/165)
قالوا: لا. قال: إنه يقول: لدوا للموت وابنوا للخراب. وصاحت فاختة، فقال: أتدرون ما تقول؟ قالوا: لا. قال: إنها تقول: ليت هذا الخلق لم يخلقوا وليتهم إذ خلقوا علموا لماذا خلقوا. وصاح عنده طاوس، فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا. قال: إنه يقول: كما تدين تدان. وصاح عنده هدهد فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا. قال: فإنه يقول: من لا يرحم لا يرحم. وصاح صرد عنده، فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا. قال: إنه يقول: استغفروا الله يا مذنبين؛ فمن ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتله. وقيل: إن الصرد هو الذي دل آدم على مكان البيت. وهو أول من صام؛ ولذلك يقال للصرد الصوام؛ روي عن أبي هريرة. وصاحت عنده طيطوى فقال: أتدرون ما تقول؟ قالوا: لا. قال: إنها تقول: كل حي ميت وكل جديد بال. وصاحت خطافة عنده، فقال: أتدرون ما تقول؟ قالوا: لا. قال: إنها تقول: قدموا خيرا تجدوه؛ فمن ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتلها. وقيل: إن آدم خرج من الجنة فاشتكى إلى الله الوحشة، فآنسه الله تعالى بالخطاف وألزمها البيوت، فهي لا تفارق بني آدم أنسا لهم. قال: ومعها أربع آيات من كتاب الله عز وجل: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ} [الحشر: 21] إلى آخرها وتمد صوتها بقوله {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 129]. وهدرت حمامة عند سليمان فقال: أتدرون ما تقول؟ قالوا: لا. قال: إنها تقول: سبحان ربي الأعلى عدد ما في سماواته وأرضه. وصاح قمري عند سليمان، فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا. قال إنه يقول: سبحان ربي العظيم المهيمن. وقال كعب: وحدثهم سليمان، فقال: الغراب يقول: اللهم العن العشار؛ والحدأة تقول: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]. والقطاة تقول: من سكت سلم. والببغاء تقول: ويل لمن الدنيا همه. والضفدع يقول: سبحان ربي القدوس. والبازي يقول: سبحان ربي وبحمده. والسرطان يقول: سبحان المذكور بكل لسان في كل مكان.
وقال مكحول: صاح دراج عند سليمان، فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا. قال: إنه يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]. وقال الحسن قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الديك إذا صاح قال اذكروا الله يا غافلين" . وقال الحسن بن علي بن أبي طالب قال النبي صلى الله عليه وسلم: "النسر إذا صاح قال يا ابن آدم عش ما شئت فآخرك الموت وإذا صاح العقاب قال في البعد من الناس الراحة وإذا صاح القنبر قال إلهي العن مبغضي آل محمد وإذا صاح الخطاف قرأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] إلى آخرها فيقول: {الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] ويمد بها صوته كما يمد القارئ. قال قتادة والشعبي: إنما هذا الأمر في الطير خاصة، لقوله: {عُلِّمْنَا
(13/166)
مَنْطِقَ الطَّيْرِ } والنملة طائر إذ قد يوجد له أجنحة. قال الشعبي: وكذلك كانت هذه النملة ذات جناحين. وقالت فرقة: بل كان في جميع الحيوان، وإنما ذكر الطير لأنه كان جندا من جند سليمان يحتاجه في التظليل عن الشمس وفي البعث في الأمور فخص بالذكر لكثرة مداخلته؛ ولأن أمر سائر الحيوان نادر وغير متردد ترداد أمر الطير. وقال أبو جعفر النحاس: والمنطق قد يقع لما يفهم بغير كلام، والله جل وعز أعلم بما أراد. قال ابن العربي: من قال إنه لا يعلم إلا منطق الطير فنقصان عظيم، وقد آتفق الناس على أنه كان يفهم كلام من لا يتكلم ويخلق له فيه القول من النبات، فكان كل نبت يقول له: أنا شجر كذا، أنفع من كذا وأضر من كذا؛ فما ظنك بالحيوان.
الآية: [17] {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ}
فيه مسألتان:
الأولى- قوله تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ} {وَحُشِرَ} جمع والحشر الجمع ومنه قوله عز وجل: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} [الكهف: 47] واختلف الناس في مقدار جند سليمان عليه السلام؛ فيقال: كان معسكره مائة فرسخ في مائة: خمسة وعشرون للجن، وخمسة وعشرون للإنس، وخمسة وعشرون للطير، وخمسة وعشرون للوحش، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة منكوحة وسبعمائة سرية. ابن عطية: واختلف في معسكره ومقدار جنده اختلافا شديدا غير أن الصحيح أن ملكه كان عظيما ملأ الأرض، وانقادت له المعمورة كلها. {فَهُمْ يُوزَعُونَ} معناه يرد أولهم إلى آخرهم ويكفون. قال قتادة: كان لكل صنف وزعة في رتبتهم ومواضعهم من الكرسي ومن الأرض إذا مشوا فيها. يقال: وزعته أوزعه وزعا أي كففته. والوازع في الحرب الموكل بالصفوف يزع من تقدم منهم. روى محمد بن إسحاق عن أسماء بنت أبي بكر قالت: لما وقف وسول الله صلى الله عليه وسلم بذي طوى - تعني
(13/167)
يوم الفتح - قال أبو قحافة وقد كف بصره يومئذ لابنته: اظهري بي على أبي قبيس. قالت: فأشرفت به عليه فقال: ما ترين؟ قالت: أرى سوادا مجتمعا. قال: تلك الخيل. قالت: وأرى رجلا من السواد مقبلا ومدبرا. قال: ذلك الوازع يمنعها أن تنتشر. وذكر تمام الخبر. ومن هذا قوله عليه السلام: "ما رئي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذاك إلا لما رأى من تنزيل الرحمة وتجاوز الله عنه الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر" قيل: وما رأى يا رسول الله؟ قال: "أما أنه رأى جبريل يزع الملائكة" خرجه الموطأ. ومن هذا المعنى قول النابغة:
على حين عاتبت المشيب على الصبا ... وقلت ألما أصح والشيب وازع
آخر:
ولما تلاقينا جرت من جفوننا ... دموع وزعنا غربها بالأصابع
آخر:
ولا يزع النفس اللجوج عن الهوى ... من الناس إلا وافر العقل كامله
وقيل: هو من التوزيع بمعنى التفريق. والقوم أوزاع أي طوائف. وفي القصة: إن الشياطين نسجت له بساطا فرسخا في فرسخ ذهبا في إبريسم، وكان يوضع له كرسي من ذهب وحوله ثلاثة آلاف كرسي من ذهب وفضة فيقعد الأنبياء على كراسي الذهب، والعلماء على كراسي الفضة.
الثانية- في الآية دليل على اتخاذ الإمام والحكام وزعة يكفون الناس ويمنعونهم من تطاول بعضهم على بعض؛ إذ لا يمكن الحكام ذلك بأنفسهم. وقال ابن عون: سمعت الحسن يقول وهو في مجلس قضائه لما رأى ما يصنع الناس قال: والله ما يصلح هؤلاء الناس إلا وزعة. وقال الحسن أيضا: لابد للناس من وازع؛ أي من سلطان يكفهم. وذكر ابن القاسم قال حدثنا مالك أن عثمان بن عفان كان يقول: ما يزع الإمام أكثر مما يزع القرآن؛ أي من الناس. قال ابن القاسم: قلت لمالك ما يزع؟ قال: يكف. قال القاضي أبو بكر بن العربي: وقد جهل قوم المراد بهذا الكلام، فظنوا أن المعنى فيه أن قدرة السلطان تردع
(13/168)
الناس أكثر مما تردعهم حدود القرآن وهذا جهل بالله وحكمته. قال: فإن الله ما وضع الحدود إلا مصلحة عامة كافة قائمة لقوام الخلق، لا زيادة عليها، ولا نقصان معها، ولا يصلح سواها، ولكن الظلمة خاسوا بها، وقصروا عنها، وأتوا ما أتوا بغير نية، ولم يقصدوا وجه الله في القضاء بها، فلم يرتدع الخلق بها، ولو حكموا بالعدل، وأخلصوا النية، لاستقامت الأمور، وصلح الجمهور.
الآية: [18] {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}
الآية: [19] {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}
فيه ست مسائل:
الأولى- قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ} قال قتادة: ذكر لنا أنه واد بأرض الشام. وقال كعب: هو بالطائف {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ} قال الشعبي: كان للنملة جناحان فصارت من الطير، فلذلك علم منطقها ولولا ذلك لما علمه. وقد مضى هذا ويأتي. وقرأ سليمان التيمي بمكة: {نَمْلَةٌ} و{النَّمْلِ} بفتح النون وضم الميم. وعنه أيضا ضمهما جميعا. وسميت النملة نملة لتنملها وهو كثرة حركتها وقلة قرارها. قال كعب: مر سليمان عليه السلام بوادي السدير من أودية الطائف، فأتى على وادي النمل، فقامت نملة تمشي وهي عرجاء تتكاوس مثل الذئب في العظم؛ فنادت: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ} الآية. الزمخشري: سمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال، وكانت تمشي وهي عرجاء تتكاوس؛ وقيل: كان اسمها طاخية. وقال السهيلي: ذكروا اسم النملة المكلمة لسليمان عليه السلام، وقالوا اسمها حرميا، ولا أدري كيف يتصور للنملة اسم علم والنمل لا يسمي بعضهم بعضا، ولا الآدميون يمكنهم تسمية
(13/169)
واحدة منهم باسم علم، لأنه لا يتميز للآدميين بعضهم من بعض، ولا هم أيضا واقعون تحت ملكة بني آدم كالخيل والكلاب ونحوها، فإن العلمية فيما كان كذلك موجودة عند العرب. فإن قلت: إن العلمية موجودة في الأجناس كثعالة وأسامة وجعار وقثام في الضبع ونحو هذا كثير؛ فليس اسم النملة من هذا؛ لأنهم زعموا أنه اسم علم لنملة واحدة معينة من بين سائر النمل، وثعالة ونحوه لا يختص بواحد من الجنس، بل كل واحد رأيته من ذلك الجنس فهو ثعالة، وكذلك أسامة وابن آوى وابن عرس وما أشبه ذلك. فإن صح ما قالوه فله وجه، وهو أن تكون هذه النملة الناطقة قد سميت بهذا الاسم في التوراة أو في الزبور أو في بعض الصحف سماها الله تعالى بهذا الاسم، وعرفها به الأنبياء قبل سليمان أو بعضهم. وخصت بالتسمية لنطقها وإيمانها فهذا وجه. ومعنى قولنا بإيمانها أنها قالت للنمل: {لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} فقولها: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} التفاتة مؤمن. أي من عدل سليمان وفضله وفضل جنوده لا يحطمون نملة فما فوقها إلا بألا يشعروا. وقد قيل: إن تبسم سليمان سرور بهذه الكلمة منها؛ ولذلك أكد التبسم بقوله: {ضَاحِكاً} إذ قد يكون التبسم من غير ضحك ولا رضا، ألا تراهم يقولون تبسم تبسم الغضبان وتبسم تبسم المستهزئين. وتبسم الضحك إنما هو عن سرور، ولا يسر نبي بأمر دنيا؛ وإنما سر بما كان من أمر الآخرة والدين. وقولها: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} إشارة إلى الدين والعدل والرأفة. ونظير قول النملة في جند سليمان: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} قول الله تعالى في جند محمد صلى الله عليه وسلم: {فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الفتح: 25]. التفاتا إلى أنهم لا يقصدون هدر مؤمن. إلا أن المثني على جند سليمان هي النملة بإذن الله تعالى، والمثني على جند محمد صلى الله عليه وسلم هو الله عز وجل بنفسه؛ لما لجنود محمد صلى الله عليه وسلم من الفضل على جند غيره من الأنبياء؛ كما لمحمد صلى الله عليه وسلم فضل على جميع النبيين صلى الله عليهم وسلم أجمعين. وقرأ شهر بن حوشب: {مَسَكِنَكُمْ} بسكون السين على الإفراد. وفي مصحف أبي {مَسَكِنَكُنَّ لا يَحْطِمَنَّكُمْ} . وقرأ سليمان التيمي: {مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُنَّ} ذكره النحاس؛ أي لا يكسرنكم بوطئهم عليكم وهم لا يعلمون بكم
(13/170)
قال المهدوي: وأفهم الله تعالى النملة هذا لتكون معجزة لسليمان. وقال وهب: أمر الله تعالى الريح ألا يتكلم أحد بشيء إلا طرحته في سمع سليمان؛ بسبب أن الشياطين أرادت كيده. وقد قيل: إن هذا الوادي كان ببلاد اليمن وأنها كانت نملة صغيرة مثل النمل المعتاد قاله الكلبي. وقال نوف الشامي وشقيق بن سلمة: كان نمل ذلك الوادي كهيئة الذئاب في العظم. وقال بريدة الأسلمي: كهيئة النعاج. قال محمد بن على الترمذي: فإن كان على هذه الخلقة فلها صوت، وإنما افتقد صوت النمل لصغر خلقها، وإلا فالأصوات في الطيور والبهائم كائنة، وذلك منطقهم، وفي تلك المناطق معاني التسبيح وغير ذلك، وهو قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44].
قلت: وقوله: {لا يَحْطِمَنَّكُمْ} يدل على صحة قول الكلبي؛ إذ لو كانت كهيئة الذئاب والنعاج لما حطمت بالوطء؛ والله أعلم. وقال: {ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} فجاء على خطاب الآدميين لأن النمل ههنا أجري مجرى الآدميين حين نطق كما ينطق الآدميون. قال أبو إسحاق الثعلبي: ورأيت في بعض الكتب أن سليمان قال لها لم حذرت النمل؟ أخفت ظلمي ؟ أما علمت أني نبي عدل؟ فلم قلت: {حْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ} فقالت النملة: أما سمعت قولي: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} مع أني لم أرد حطم النفوس، وإنما أردت حطم القلوب خشية أن يتمنين مثل ما أعطيت، أو يفتتن بالدنيا، ويشغلن بالنظر إلى ملكك عن التسبيح والذكر. فقال لها سليمان: عظيني. فقالت النملة: أما علمت لم سمي أبوك داود؟ قال: لا. قالت: لأنه داوى جراحة فؤاده؛ هل علمت لم سميت سليمان؟ قال: لا. قالت: لأنك سليم الناحية على ما أوتيته بسلامة صدرك، وإن لك أن تلحق بأبيك. ثم قالت: أتدري لم سخر الله لك الريح؟ قال: لا. قالت: أخبرك أن الدنيا كلها ريح. {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا} متعجبا ثم مضت مسرعة إلى قومها، فقالت: هل عندكم من شيء نهديه إلى
(13/171)
نبي الله؟ قالوا: وما قدر ما نهدي له! والله ما عندنا إلا نبقة واحدة. قالت: حسنة؛ ايتوني بها. فأتوها بها فحملتها بفيها فانطلقت تجرها، فأمر الله الريح فحملتها، وأقبلت تشق الإنس والجن والعلماء والأنبياء على البساط، حتى وقعت بين يديه، ثم وضعت تلك النبقة من فيها في كفه، وأنشأت تقول:
ألم ترنا نهدي إلى الله ماله ... وإن كان عنه ذا غني فهو قابله
ولو كان يهدي للجليل بقدره ... لقصر عنه البحر يوما وساحله
ولكننا نهدي إلى من نحبه ... فيرضى به عنا ويشكر فاعله
وما ذاك إلا من كريم فعاله ... وإلا فما في ملكنا ما يشاكله
فقال لها: بارك الله فيكم؛ فهم بتلك الدعوة أشكر خلق الله وأكثر خلق الله. وقال ابن عباس: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل أربع من الدواب: الهدهد والصرد والنملة والنحلة؛ خرجه أبو داود وصححه أبو محمد عبدالحق وروي من حديث أبي هريرة. وقد مضى في {الأعراف}. فالنملة أثنت على سليمان وأخبرت بأحسن ما تقدر عليه بأنهم لا يشعرون إن حطموكم، ولا يفعلون ذلك عن عمد منهم، فنفت عنهم الجور؛ ولذلك نهى عن قتلها، وعن قتل الهدهد؛ لأنه كان دليل سليمان على الماء ورسوله إلى بلقيس. وقال عكرمة: إنما صرف الله شر سليمان عن الهدهد لأنه كان بارا بوالديه. والصرد يقال له الصوام. وروي عن أبي هريرة قال: أول من صام الصرد ولما خرج إبراهيم عليه السلام من الشام إلى الحرم في بناء البيت كانت السكينة معه والصرد، فكان الصرد دليله على الموضع والسكينة مقداره، فلما صار إلى البقعة وقعت السكينة على موضع البيت ونادت وقالت: ابن يا إبراهيم على مقدار ظلي. وقد تقدم في {الأعراف} سبب النهي عن قتل الضفدع وفي {النحل} النهي عن قتل النحل. والحمد لله.
(13/172)
الثانية- قرأ الحسن: {لا يَحْطِمَنَّكُمْ} وعنه أيضا {لا يَحِطِّمَنَّكم} وعنه أيضا وعن أبي رجاء: {لا يُحَطِّمَنَّكم} والحطْم الكسر. حطمته حطما أي كسرته وتحطَّم؛ والتحطيم التكسير، {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} يجوز أن يكون حالا من سليمان، وجنوده، والعامل في الحال {يَحْطِمَنَّكُمْ}. أو حالا من النملة والعامل {قَالَتْ} : أي قالت ذلك في حال غفلة الجنود؛ كقولك: قمت والناس غافلون. أو حالا من النمل أيضا والعامل {قَالَتْ} على أن المعنى: والنمل لا يشعرون أن سليمان يفهم مقالتها. وفيه بعد وسيأتي.
الثالثة- روى مسلم من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن نملة قرصت نبيا من الأنبياء فأمر بقرية النمل فأحرقت فأوحى الله تعالى إليه أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح" وفي طريق آخر: "فهلا نملة واحدة" . قال علماؤنا: يقال إن هذا النبي هو موسى عليه السلام، وإنه قال: يا رب تعذب أهل قرية بمعاصيهم وفيهم الطائع. فكأنه أحب أن يريه ذلك من عنده، فسلط عليه الحر حتى التجأ إلى شجرة مستروحا إلى ظلها، وعندها قرية النمل، فغلبه النوم، فلما وجد لذة النوم لدغته النملة فأضجرته، فدلكهن بقدمه فأهلكهن، وأحرق تلك الشجرة التي عندها مساكنهم، فأراه الله العبرة في ذلك آية: لما لدغتك نملة فكيف أصبت الباقين بعقوبتها! يريد أن ينبهه أن العقوبة من الله تعالى تعم فتصير رحمة على المطيع وطهارة وبركة، وشرا ونقمة على العاصي. وعلى هذا فليس في الحديث ما يدل على كراهة ولا حظر في قتل النمل؛ فإن من آذاك حل لك دفعه عن نفسك، ولا أحد من خلقه أعظم حرمة من المؤمن، وقد أبيح لك دفعه عنك بقتل وضرب على المقدار، فكيف بالهوام والدواب التي قد سخرت لك وسلطت عليها، فإذا آذاك أبيح لك قتله. وروي عن إبراهيم: ما آذاك من النمل فاقتله. وقوله: "إلا نملة واحدة" دليل على أن الذي يؤذي يؤذى ويقتل، وكلما كان القتل لنفع أو دفع ضرر فلا بأس به عند العلماء. وأطلق له نملة ولم يخص تلك النملة التي لدغت من غيرها؛ لأنه ليس المراد القصاص؛ لأنه لو أراده لقال ألا نملتك التي لدغتك، ولكن قال: ألا نملة مكان نملة؛ فعم البريء
(13/173)
والجاني بذلك، ليعلم أنه أراد أن ينبهه لمسألته ربه في عذاب أهل قرية وفيهم المطيع والعاصي. وقد قيل: إن هذا النبي كانت العقوبة للحيوان بالتحريق جائزة في شرعه؛ فلذلك إنما عاتبه الله تعالى في إحراق الكثير من النمل لا في أصل الإحراق. ألا ترى قوله: "فهلا نملة واحدة" أي هلا حرقت نملة واحدة. وهذا بخلاف شرعنا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن التعذيب بالنار. وقال: "لا يعذب بالنار إلا الله" . وكذلك أيضا كان قتل النمل مباحا في شريعة ذلك النبي؛ فإن الله لم يعتبه على أصل قتل النمل. وأما شرعنا فقد جاء من حديث ابن عباس وأبي هريرة النهي عن ذلك. وقد كره مالك قتل النمل إلا أن يضر ولا يقدر على دفعه إلا بالقتل. وقد قيل: إن هذا النبي إنما عاتبه الله حيث انتقم لنفسه بإهلاك جمع آذاه واحد، وكان الأولى الصبر والصفح؛ لكن وقع للنبي أن هذا النوع مؤذ لبني آدم، وحرمة بني آدم أعظم من حرمة غيره من الحيوان غير الناطق، فلو انفرد له هذا النظر ولم ينضم إليه التشفي الطبعي لم يعاتب. والله أعلم. لكن لما انضاف إليه التشفي الذي دل عليه سياق الحديث عوتب عليه.
الرابعة- قوله: "أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح" مقتضى هذا أنه تسبيح بمقال ونطق، كما أخبر الله عن النمل أن لها منطقا وفهمه سليمان عليه السلام - وهذا معجزة له - وتبسم من قولها. وهذا يدل دلالة واضحة أن للنمل نطقا وقولا، لكن لا يسمعه كل أحد، بل من شاء الله تعالى ممن خرق له العادة من نبي أو ولي. ولا ننكر هذا من حيث أنا لا نسمع ذلك؛ فإنه لا يلزم من عدم الإدراك عدم المدرك في نفسه. ثم إن الإنسان يجد في نفسه قولا وكلاما ولا يسمع منه إلا إذا نطق بلسانه. وقد خرق الله العادة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فأسمعه كلام النفس من قوم تحدثوا مع أنفسهم وأخبرهم بما في نفوسهم، كما قد نقل منه الكثير من أئمتنا في كتب معجزات النبي صلى الله عليه وسلم؛ وكذلك وقع لكثير ممن أكرمه الله تعالى من الأولياء مثل ذلك في غير ما قضية. وإياه عنى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "إن في أمتي محدثين وإن عمر منهم" . وقد مضى هذا المعنى
(13/174)
في تسبيح الجماد في {الإسراء} وإنه تسبيح لسان ومقال لا تسبيح دلالة حال. والحمد لله.
الخامسة- قوله تعالى: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا} وقرأ ابن السميقع: {ضَاحِكاً} بغير ألف، وهو منصوب على المصدر بفعل محذوف يدل عليه تبسم، كأنه قال ضحك ضحكا، هذا مذهب سيبويه. وهو عند غير سيبويه منصوب بنفس {تَبَسَّمَ} لأنه في معنى ضحك؛ ومن قرأ: {ضَاحِكاً} فهو منصوب على الحال من الضمير في {تَبَسَّمَ} . والمعنى تبسم مقدار الضحك؛ لأن الضحك يستغرق التبسم، والتبسم دون الضحك وهو أوله. يقال: بسم: "بالفتح" يبسم بسما فهو باسم وابتسم وتبسم، والمبسم الثغر مثل المجلس من جلس يجلس ورجل مبسام وبسام كثير التبسم، فالتبسم ابتداء الضحك. والضحك عبارة عن الابتداء والانتهاء، إلا أن الضحك يقتضي مزيدا على التبسم، فإذا زاد ولم يضبط الإنسان نفسه قيل قهقه. والتبسم ضحك الأنبياء عليهم السلام في غالب أمرهم. وفي الصحيح عن جابر بن سمرة وقيل له: أكنت تجالس النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: نعم كثيرا؛ كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح - أو الغداة - حتى تطلع الشمس فإذا طلعت قام، وكانوا يتحدثون ويأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويبتسم. وفيه عن سعد قال: كان رجل من المشركين قد أحرق المسلمين، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ارم فداك أبي وأمي" قال فنزعت له بسهم ليس فيه نصل فأصبت جنبه فسقط فانكشفت عورته، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نظرت إلى نواجذه. فكان عليه السلام في أكثر أحواله يتبسم. وكان أيضا يضحك في أحوال أخر ضحكا أعلى من التبسم وأقل من الاستغراق الذي تبدو فيه اللهوات. وكان في النادر عند إفراط تعجبه ربما ضحك حتى بدت نواجذه. ود كره العلماء منه الكثرة؛ كما قال لقمان لابنه: يا بني إياك وكثرة الضحك فإنه يميت القلب. وقد روي مرفوعا من
(13/175)
حديث أبي ذر وغيره. وضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه حين رمى سعد الرجل فأصابه، إنما كان سرورا بإصابته لا بانكشاف عورته؛ فإنه المنزه عن ذلك صلى الله عليه وسلم.
السادسة- لا اختلاف عند العلماء أن الحيوانات كلها لها أفهام وعقول. وقد قال الشافعي: الحمام أعقل الطير. قال ابن عطية: والنمل حيوان فطن قوي شمام جدا يدخر ويتخذ القرى ويشق الحب بقطعتين لئلا ينبت، ويشق الكزبرة بأربع قطع؛ لأنها تنبت إذا قسمت شقتين، ويأكل في عامه نصف ما جمع ويستبقي سائره عدة. قال ابن العربي: وهذه خواص العلوم عندنا، وقد أدركتها النمل بخلق الله ذلك لها؛ قال الأستاذ أبو المظفر شاهنود الإسفرايني: ولا يبعد أن تدرك البهائم حدوث العالم وحدوث المخلوقات؛ ووحدانية الإله، ولكننا لا نفهم عنها ولا تفهم عنا، أما أنا نطلبها وهي تفر منا فبحكم الجنسية.
قوله تعالى: {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} فـ {أن} مصدرية. و {أَوْزِعْنِي} أي ألهمني ذلك. وأصله من وزع فكأنه قال: كفني عما يسخط. وقال محمد بن إسحاق: يزعم أهل الكتاب أن أم سليمان هي امرأة أوريا التي امتحن الله بها داود، أو أنه بعد موت زوجها تزوجها داود فولدت له سليمان عليه السلام. وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة {ص} إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} أي مع عبادك، عن ابن زيد. وقيل: المعنى في جملة عبادك الصالحين.
الآية: [20] {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ}
الآية: [21] {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}
الآية: [22] {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ}
==================

النمل - تفسير الطبري
وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) }
يقول تعالى ذكره: فلما جاءت فرعون آياتنا، يعني: أدلتنا وحججنا، على حقيقة ما دعاهم إليه موسى وصحته، وهي الآيات التسع التي ذكرناها قبل. وقوله( مُبْصِرَةً ) يقول: يبصر بها من نظر إليها ورآها حقيقة ما دلت عليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(19/435)
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج:(فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً ) قال: بينة(قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ) ، يقول: قال فرعون وقومه: هذا الذي جاءنا به موسى سحر مبين، يقول: يبين للناظرين له أنه سحر.
وقوله:(وَجَحَدُوا بِهَا ) يقول: وكذبوا بالآيات التسع أن تكون من عند الله.
كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج:(وَجَحَدُوا بِهَا ) قال: الجحود: التكذيب بها. وقوله:(وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ) يقول: وأيقنتها قلوبهم، وعلموا يقينا أنها من عند الله، فعاندوا بعد تبينهم الحق، ومعرفتهم به.
كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس:(وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ) قال: يقينهم في قلوبهم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قول الله:(وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ) قال: استيقنوا أن الآيات من الله حق، فلم جحدوا بها؟ قال: ظلما وعلوّا.
وقوله:(ظُلْمًا وَعُلُوًّا ) يعني بالظلم: الاعتداء، والعلو: الكبر، كأنه قيل: اعتداء وتكبرا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، في قوله:(ظُلْمًا وَعُلُوًّا ) قال: تعظما واستكبارا، ومعنى ذلك: وجحدوا بالآيات التسع ظلما وعلوّا، واستيقنتها أنفسهم أنها من عند الله، فعاندوا الحقّ بعد وضوحه لهم، فهو من المؤخر الذي معناه التقديم.
وقوله:(فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ).
ويقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فانظر يا محمد بعين قلبك
(19/436)
وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)
كيف كان عاقبة تكذيب هؤلاء الذين جحدوا آياتنا حين جاءتهم مبصرة، وماذا حل بهم من إفسادهم في الأرض ومعصيتهم فيها ربهم، وأعقبهم ما فعلوا، فإن ذلك أخرجهم من جنات وعيون، وزروع ومقام كريم، إلى هلاك في العاجل بالغرق، وفي الآجل إلى عذاب دائم لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون. يقول: وكذلك يا محمد سنتي في الذين كذّبوا بما جئتهم به من الآيات على حقيقة ما تدعوهم إليه من الحق من قومك.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) }
يقول تعالى ذكره:(وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا ) وذلك علم كلام الطير والدواب، وغير ذلك مما خصهم الله بعلمه.(وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ) يقول جلّ ثناؤه: وقال داود وسليمان: الحمد لله الذي فضلنا بما خصنا به من العلم الذي آتاناه ، دون سائر خلقه من بني آدم في زماننا هذا على كثير من عباده المؤمنين به في دهرنا هذا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) }
يقول تعالى ذكره:(وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ ) أباه( دَاودَ ) العلم الذي كان آتاه الله في حياته، والمُلك الذي كان خصه به على سائر قومه، فجعله له بعد أبيه داود دون سائر ولد أبيه(وَقَالَ يَاأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ ) يقول: وقال سليمان لقومه: يا أيها الناس علمنا منطق الطير، يعني فهمنا كلامها; وجعل ذلك من الطير كمنطق الرجل من بني آدم إذ فهمه عنها.
وقد حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن كعب:(وَقَالَ يَاأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ ) قال: بلغنا أن سليمان كان عسكره مائة فرسخ: خمسة وعشرون منها للإنس، وخمسة وعشرون للجنّ، وخمسة وعشرون للوحش، وخمسة وعشرون للطير، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب; فيها ثلاث مائة صريحة، وسبع مائة سرية، فأمر الريح العاصف فرفعته، وأمر الرخاء
(19/437)
وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)
فسيرته، فأوحى الله إليه وهو يسير بين السماء والأرض: إني قد أردت أنه لا يتكلم أحد من الخلائق بشيء إلا جاءت الريح فأخبرته. وقوله:(وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ) يقول: وأعطينا ووهب لنا من كلّ شيء من الخيرات(إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ) يقول: إن هذا الذي أوتينا من الخيرات لهو الفضل على جميع أهل دهرنا المبين، يقول: الذي يبين لمن تأمَّله وتدبره أنه فضل أعطيناه على من سوانا من الناس.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) }
يقول تعالى ذكره: وجمع لسليمان جنوده من الجنّ والإنس والطير في مسير لهم، فهم يوزعون.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله(فَهُمْ يُوزَعُونَ ) فقال بعضهم: معنى ذلك: فهم يحبس أوّلهم على آخرهم حتى يجتمعوا.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس، قال: جعل على كل صنف من يرد أولاها على أُخراها لئلا يتقدموا في المسير، كما تصنع الملوك.
حدثنا القاسم، قال: ثنا أبو سفيان عن معمر، عن قَتادة في قوله:(وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ) قال: يردّ أوّلهم على آخرهم.
وقال آخرون: معنى ذلك فهم يساقون.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:(وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ) قال: يوزعون: يُساقون.
وقال آخرون: بل معناه: فهم يتقدمون.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان عن معمر، قال: قال الحسن:(يُوزَعُونَ ) يتقدمون.
(19/438)
حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18)
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: معناه: يردّ أوّلهم على آخرهم; وذلك أن الوازع في كلام العرب هو الكافّ، يقال منه: وزع فلان فلانا عن الظلم: إذا كفَّه عنه، كما قال الشاعر:
أَلَمْ يَزَعِ الهَوَى إذْ لَمْ يُؤَاتِ... بَلى وَسَلَوْت عَنْ ضَلَب الفَتاة (1)
وقال آخر:
عَلى حِينَ عاتَبْتُ الْمَشيبَ عَلى الصّبا... وقُلْتُ ألَمَّا أصْحُ والشَّيْبُ وَازع (2)
وإنما قيل للذين يدفعون الناس عن الولاة والأمراء: وزعة: لكفهم إياهم عنه.
القول في تأويل قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) }
يعني تعالى ذكره بقوله:(حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ ) حتى إذا أتى سليمان وجنوده على وادي النمل(قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ ) يقول: لا يكسرنكم ويقتلنكم سليمان وجنوده(وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) يقول: وهم لا يعلمون أنهم يحطمونكم.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن ويحيى، قالا ثنا سفيان، عن الأعمش، عن رجل يقال له الحكم، عن عوف في قوله:(قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ) قال: كان نمل سليمان بن داود مثل الذباب.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا
__________
(1) الوزع: كف النفس عن هواها. وزعه وبه يزع (بفتح الزاي وكسرها) وزعًا كفه، ويؤات يوافق. قال في اللسان: واتاه على الأمر: طاوعه. والمؤاتاة: حسن المطاوعة وآتيته على ذلك الأمر مؤاتاه: إذا وافقته وطاوعته. والعامة تقول: واتَيْتُهُ. ولا تقل. واتَيْتُهُ. إلا في لغة لأهل اليمن ومثله آسيت، وآكلت، وآمرت وإنما جعلوها واوًا على تخفيف الهمزة
(2) البيت للنابغة الذبياني من قصيدة يعتذر بها إلى النعمان بن المنذر (مختار الشعر لجاهلي شرح مصطفى السقا، طبعة الحلبي 156 وما بعدها) قال صحا: أفاق والوازع الكاف الزاجر عن اللهو والصبا الصبوة، والميل إلى التشبه بأعمال الصبيان من الطيش واللهو
(19/439)
فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)
تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) }
يقول تعالى ذكره: فتبسم سليمان ضاحكا من قول النملة التي قالت ما قالت، وقال:(رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ ) يعني بقوله(أَوْزِعْنِي ) ألهمني.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس في قوله:(قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ) يقول: اجعلني.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله:(رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ ) قال: في كلام العرب، تقول: أوزع فلان بفلان، يقول: حرض عليه. وقال ابن زيد:( أوْزِعْني ) ألهمني وحرّضني على أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ.
وقوله:(وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ ) يقول: وأوزعني أن أعمل بطاعتك وما ترضاه(وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ) يقول: وأدخلني برحمتك مع عبادك الصالحين، الذين اخترتهم لرسالتك وانتخبتهم لوحيك، يقول: أدخلني من الجنة مداخلهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:(وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ) قال: مع عبادك الصالحين الأنبياء والمؤمنين.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) }
يقول تعالى ذكره:( وَتَفَقَّدَ ) سليمان(الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ ). وكان سبب تفقده الطير وسؤاله عن الهدهد خاصة من بين الطير، ما حدثنا ابن عبد الأعلى،
(19/440)
قال: ثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت عمران عن أبي مجلز، قال: جلس ابن عباس إلى عبد الله بن سلام، فسأله عن الهدهد: لم تفقَّده سليمان من بين الطير فقال عبد الله بن سلام: إن سليمان نزل منزلة في مسير له، فلم يدر ما بُعْد الماء، فقال: من يعلم بُعْد الماء؟ قالوا: الهدهد، فذاك حين تفقده.
حدثنا محمد، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا عمران بن حدير، عن أبي مجلز، عن ابن عباس وعبد الله بن سلام بنحوه.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان سليمان بن داود يوضع له ستّ مائة كرسي، ثم يجيء أشراف الإنس فيجلسون مما يليه، ثم تجيء أشراف الجن فيجلسون مما يلي الإنس قال: ثم يدعو الطير فتظلهم، ثم يدعو الريح فتحملهم، قال: فيسير في الغداة الواحدة مسيرة شهر، قال: فبينا هو في مسيره إذ احتاج إلى الماء وهو في فلاة من الأرض، قال: فدعا الهدهد، فجاءه فنقر الأرض، فيصيب موضع الماء، قال: ثم تجيء الشياطين فيسلخونه كما يسلخ الإهاب، قال: ثم يستخرجون الماء. فقال له نافع بن الأزرق: قف يا وقاق، أرأيت قولك الهدهد يجيء فينقر الأرض، فيصيب الماء، كيف يبصر هذا، ولا يبصر الفخّ يجيء حتى يقع في عنقه؟ قال: فقال له ابن عباس: ويحك إن القدر إذا جاء حال دون البصر.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه، قال: كان سليمان بن داود إذا خرج من بيته إلى مجلسه عكفت عليه الطير، وقام له الجنّ والإنس حتى يجلس على سريره، حتى إذا كان ذات غداة في بعض زمانه غدا إلى مجلسه الذي كان يجلس فيه، فتفقد الطير. وكان فيما يزعمون يأتيه نوبا من كل صنف من الطير طائر، فنظر فرأى من أصناف الطير كلها قد حضره إلا الهدهد، فقال: ما لي لا أرى الهدهد.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: أوّل ما فقد سليمان الهدهد نزل بواد فسأل الإنس عن ماءه، فقالوا: ما نعلم له ماء، فإن يكن أحد من جنودك يعلم له ماء فالجنّ فدعا الجنّ فسألهم، فقالوا: ما نعلم له ماء وإن يكن
(19/441)
أحد من جنودك يعلم له ماء فالطير، فدعا الطير فسألهم، فقالوا: ما نعلم له ماء، وإن يكن أحد من جنودك يعلمه فالهدهد، فلم يجده، قال: فذاك أوّل ما فقد الهدهد.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:(وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ) قال: تفقد الهدهد من أجل أنه كان يدله على الماء إذا ركب، وإن سليمان ركب ذات يوم فقال: أين الهدهُد ليدلنا على الماء؟ فلم يجده؛ فمن أجل ذلك تفقده، فقال ابن عباس: إن الهدهد كان ينفعه الحذر ما لم يبلغه الأجل؛ فلما بلغ الأجل لم ينفعه الحذر، وحال القدر دون البصر، فقد اختلف عبد الله بن سلام والقائلون بقوله ووهب بن منبه، فقال عبد الله: كان سبب تفقده الهدهد وسؤاله عنه ليستخبره عن بُعد الماء في الوادي الذي نزل به في مسيره، وقال وهب بن منبه: كان تفقده إياه وسؤاله عنه لإخلاله بالنوبة التي كان ينوبها، والله أعلم بأي ذلك كان إذ لم يأتنا بأيّ ذلك كان تنزيل، ولا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح.
فالصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أخبر عن سليمان أنه تفقد الطير، إما للنوبة التي كانت عليها وأخلت بها، وإما لحاجة كانت إليها عن بُعد الماء.
وقوله:(فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ) يعني بقوله(مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ ) أخطأه بصري فلا أراه وقد حضر أم هو غائب فيما غاب من سائر أجناس الخلق فلم يحضر؟.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه:(مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ) أخطأه بصري في الطير، أم غاب فلم يحضر؟.
وقوله:(لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا ) يقول: فلما أخبر سليمان عن الهدهد أنه لم يحضر، وأنه غائب غير شاهد، أقسم(لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا ) وكان تعذيبه الطير فيما ذُكر عنه إذا عذبها أن ينتف ريشها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(19/442)
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب قال: ثنا الحماني، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس، في قوله:(لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا ) قال: نتف ريشه.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن عطية، عن شريك، عن عطاء، عن مجاهد، عن ابن عباس في:(لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا ) عذابه: نتفه وتشميسه.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:(لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا ) قال: نتف ريشه وتشميسه.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:(لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا ) قال: نتف ريشه كله.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد قوله:(لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا ) قال: نتف ريش الهدهد كله، فلا يغفو سِنة.
قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قَتادة، قال: نتف ريشه.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:(لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا ) يقول: نتف ريشه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني ابن إسحاق، عن يزيد بن رومان أنه حدّث أن عذابه الذي كان يعذّب به الطير نتف جناحه.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: قيل لبعض أهل العلم: هذا الذبح، فما العذاب الشديد؟. قال: نتف ريشه بتركه بَضعة تنزو.
حدثنا سعيد بن الربيع الرازي، قال: ثنا سفيان، عن عمرو بن بشار، عن ابن عباس، في قوله:(لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا ) قال: نتفه.
حدثني سعيد بن الربيع، قال: ثنا سفيان، عن حسين بن أبي شدّاد، قال: نتفه وتشميسه(أَوْ لأذْبَحَنَّهُ ) يقول: أو لأقتلنه.
(19/443)
كما حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله:(أَوْ لأذْبَحَنَّهُ ) يقول: أو لأقتلنه.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا عباد بن العوّام، عن حصين، عن عبد الله بن شدّاد:(لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأذْبَحَنَّهُ )... الآية، قال: فتلقَّاهُ الطير، فأخبره، فقال: ألم يستثن.
وقوله:(أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ) يقول: أو ليأتيني بحجة تبين لسامعها صحتها وحقيقتها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا عليّ بن الحسين الأزدي، قال: ثنا المعافى بن عمران، عن سفيان، عن عمار الدُّهْني، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس قال: كل سلطان في القرآن فهو حجة.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله:(أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ) يقول: ببينة أعذره بها، وهو مثل قوله:(الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ ) يقول: بغير بينة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا سفيان، عن رجل، عن عكرمة، قال: كل شيء في القرآن سلطان، فهو حجة.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا عبد الله، بن يزيد، عن قباث (1) بن رزين، أنه سمع عكرِمة يقول: سمعت ابن عباس يقول: كل سلطان في القرآن فهو حجة، كان للهدهد سلطان.
حدثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة:(أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ) قال: بعذر بين.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه:(أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ) : أي بحجة عذر له في غيبته.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:(أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ) يقول: ببينة، وهو قول الله(الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ ) بغير بينة.
__________
(1) قباث بوزن سحاب، ابن رزين اللخمي (ويقال: التجيبي). وقباث: اسم عربي.
(19/444)
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:(أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ) قال: بعذر أعذره فيه.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) }
يعني تعالى ذكره بقوله:(فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ ) فمكث سليمان غير طويل من حين سأل عن الهدهد، حتى جاء الهدهد.
واختلف القرّاء في قراءة قوله:( فَمَكَثَ ) فقرأت ذلك عامة قرّاء الأمصار سوى عاصم: "فَمَكُثَ" بضمّ الكاف، وقرأه عاصم بفتحها، وكلتا القراءتين عندنا صواب؛ لأنهما لغتان مشهورتان، وإن كان الضمّ فيها أعجب إليّ، لأنها أشهر اللغتين وأفصحهما.
وقوله:(فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ) يقول: فقال الهدهد حين سأله سليمان عن تخلفه وغيبته: أحطت بعلم ما لم تحط به أنت يا سليمان.
كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:(أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ ) قال: ما لم تعلم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه:(فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ ) ثم جاء الهدهد، فقال له سليمان: ما خلَّفك عن نوبتك؟ قال: أحطت بما لم تحط به.
وقوله:(وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ) يقول: وجئتك من سبإ بخبر يقين.
وهو ما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه:(وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ) أي أدركت ملكا لم يبلغه ملكك.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله:(مِنْ سَبَإٍ ) فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والكوفة(مِنْ سَبَإٍ ) بالإجراء. المعنى أنه رجل اسمه سبأ. وقرأه بعض قرّاء أهل مكة والبصرة(مِنْ سَبَأَ ) بترك الإجراء، على أنه اسم قبيلة أو لامرأة.
والصواب من القول في ذلك أن يُقال: إنهما قراءتان مشهورتان، وقد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب; فالإجراء في سبأ، وغير الإجراء صواب، لأن سبأ إن كان رجلا كما جاء به الأثر، فإنه إذا أريد به اسم الرجل
(19/445)
أجري، وإن أريد به اسم القبيلة لم يجر، كما قال الشاعر في إجرائه:
الْوَارِدُونَ وَتَيْمٌ فِي ذَرَا سَبإٍ... قَدْ عَضَّ أعْناقَهُمْ جِلدُ الجَوَاميسِ (1)
يروى: ذرا، وذرى، وقد حُدثت عن الفرّاء عن الرؤاسي أنه سأل أبا عمرو بن العلاء كيف لم يجر سبأ؟ قال: لست أدري ما هو; فكأن أبا عمرو ترك إجراءه إذ لم يدر ما هو، كما تفعل العرب بالأسماء المجهولة التي لا تعرفها من ترك الإجراء، حكي عن بعضهم: هذا أبو معرور قد جاء، فترك إجراءه إذ لم يعرفه في أسمائهم. وإن كان سبأ جبلا أجري؛ لأنه يُراد به الجبل بعينه، وإن لم يجر فلأنه يجعل اسما للجبل وما حوله من البقعة.
__________
(1) استشهد المؤلف بهذا البيت مرة قبل هذه في (الجزء 14: 117) وهو من شواهد الفراء في معاني القرآن (الورقة 172). ثم استشهد المؤلف به هنا مرة ثانية، على أن كلمة "سبأ" إن كان اسم قبيلة من اليمن، فهو ممنوع من الصرف، للعلمية والتأنيث. وإن لوحظ فيه أصله، وهو اسم أبي القبيلة، فهو مذكر مجرى.
=================
  النمل - تفسير أضواء البيان 
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النمل
قوله تعالى: {هُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} .
تقدم إيضاحه بالآيات القرءانيّة في أوّل سورة "البقرة" ، في الكلام على قوله تعالى: {فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} .
قوله تعالى: {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً} .
إلى آخر القصة، تقدّم إيضاحه في "مريم" و "طه" ، و "الأعراف" .
قوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} .
قد قدّمنا أنها وراثة علم ودين، لا وراثة مال في سورة "مريم" ، في الكلام على قوله تعالى: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} ، وبيّنا هناك الأدلّة على أن الأنبياء صلوات اللَّه وسلامه عليهم لا يورث عنهم المال.
قوله تعالى: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} .
تقدّم إيضاحه بالآيات القرءانية في أوّل سورة "هود" ، في الكلام على قوله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ، وقوله: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ} ، كقوله تعالى: {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} ، وقوله تعالى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} ، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ} ، قال بعض أهل العلم: {الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ} : المطر، والخبء في الأرض: النبات، والمعادن، والكنوز، وهذا المعنى ملائم لقوله: {يُخْرِجُ الْخَبْءَ} ، وقال بعض أهل العلم: الْخَبْءَ: السرّ والغيب، أي:
(6/109)
يعلم ما غاب في السماواتوالأرض؛ كما يدلّ عليه قوله بعده: {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} ، وكقوله في هذه السورة الكريمة: {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} ، وقوله: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} ، كما أوضحناه في سورة "هود" ، وقرأ هذا الحرف عامّة القرّاء السبعة غير الكسائي: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ} بتشديد اللام في لفظة {أَلاّ} ، ولا خلاف على هذه القراءة أن يسجدوا فعل مضارع منصوب بأن المدغمة في لفظة لا، فالفعل المضارع على هذه القراءة، وأن المصدرية المدغمة في لا ينسبك منهما مصدر في محل نصب على الأظهر، وقيل في محل جرّ وفي إعرابه أوجه:
الأوّل: أنه منصوب على أنه مفعول من أجله، أي: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} ، من أجل {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ} ، أي: من أجل عدم سجودهم للَّه، أو {فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} ، لأجل {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ} ، وبالأوّل قال الأخفش. وبالثاني قال الكسائي، وقال اليزيدي وغيره: هو منصوب على أنه بدل من {أَعْمَالَهُمْ} ، أي: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} {أَلَّا يَسْجُدُوا} ، أي: عدم سجودهم، وعلى هذا فأعمالهم هي عدم سجودهم للَّه، وهذا الإعراب يدلّ على أن الترك عمل؛ كما أوضحناه في سورة "الفرقان" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} ، وقال بعضهم: إن المصدر المذكور في محل خفض على أنه بدل من {السَّبِيلِ} ، أو على أن العامل فيه {فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} ، وعلى هذين الوجهين فلفظة لا صلة، فعلى الأول منهما. فالمعنى: {فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} سجودهم للَّه، وعلى هذا فسبيل الحقّ الذي صدّوا عنه هو السجود للَّه، ولا زائدة للتوكيد. وعلى الثاني، فالمعنى: {فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} لأن يسجدوا للَّه، أي: للسجود له، ولا زائدة أيضًا للتوكيد، ومعلوم في علم العربية أن المصدر المنسبك من فعل، وموصول حرفي إن كان الفعل منفيًّا ذكرت لفظة عدم قبل المصدر، ليؤدى بها معنى النفي الداخل على الفعل، فقولك مثلاً: عجبت من أن لا تقوم، إذا سبكت مصدره لزم أن تقول: عجبت من عدم قيامك، وإذا كان الفعل مثبتًا لم تذكر مع المصدر لفظة عدم، فلو قلت: عجبت من أن تقوم، فإنك تقول في سبك مصدره: عجبت من قيامك؛ كما لا يخفى. وعليه: فالمصدر
(6/110)
المنسبك من قوله: {أَلَّا يَسْجُدُوا} يلزم أن يقال فيه عدم السجود إلا إذا اعتبرت لفطة لا زائدة، وقد أشرنا في سورة "الأعراف" ، في الكلام على قوله تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} ، إلى أنّا أوضحنا الكلام على زيادة لا لتوكيد الكلام في كتابنا "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب" ، في أوّل سورة "البلد" ، في الكلام على قوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} ، وسنذكر طرفًا من كلامنا فيه هنا.
فقد قلنا فيه: الأول وعليه الجمهور: أن لا هنا صلة على عادة العرب، فإنها ربما لفظت بلفظة لا من غير قصد معناها الأصلي بل لمجرّد تقوية الكلام وتوكيده؛ كقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ} ، يعني أن تتبّعني، وقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} ،أي: أن تسجد على أحد القولين. ويدلّ له قوله تعالى في سورة "ص?" : {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ، وقوله تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} ، وقوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} ، أي: فوربّك، وقوله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} ، أي: والسيّئة، وقوله تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} ، على أحد القولين. وقوله تعالى: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} ، على أحد القولين. وقوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا} ، على أحد الأقوال الماضية؛ وكقول أبي النجم:
فما ألوم البيض ألا تسخرا ... لما رأين الشمط القفندر
يعني: أن تسخر، وقول الآخر:
وتلحينني في اللهو ألا أحبه ... وللهو داع دائب غير غافل
يعني: أن أحبه، ولا زائدة. وقول الآخر:
أبى جوده لا البخل واستعجلت به ... نعم من فتى لا يمفع الجود قاتله
يعني: أبا جوده البخل، ولا زائدة على خلاف في زيادتها في هذا البيت الأخير، ولا سيّما على رواية البخل بالجرّ؛ لأن لا عليها مضاف بمعنى لفظة لا، فليست زائدة على رواية الجرّ، وقول امرىء القيس:
(6/111)
فلا وأبيك أنبت العامري ... لا يدعي القوم أني أفر
يعني: وأبيك، وأنشد الفراء لزيادة لا في الكلام الذي فيه معنى الجحد، قول الشاعر:
ما كان يرضى رسول اللَّه دينهم ... والأطيبان أبو بكر ولا عمر
يعني: عمر ولا صلة، وأنشد الجوهري لزيادتها قول العجاج:
في بئر لا حور سرى وما شعر ... بإفكه حتى رأى الصبح جشر
والحور: الهلكة، يعني: في بئر هلكة ولا صلة، قاله أبو عبيدة وغيره. وأنشد الأصمعي لزيادتها قول ساعدة الهذلي:
أفعنك لا برق كان وميضه ... غاب تسنمه ضرام مثقب
ويروى: أفمنك، وتشيمه بدل أفعنك وتسنمه، يعني: أفعنك برق، ولا صلة، ومن شواهد زيادتها قول الشاعر:
تذكرت ليلى فاعترتني صبابة ... وكاد صميم القلب لا يتقطع
يعني: كاد يتقطع، وأمّا استدلال أبي عبيدة لزيادتها بقول الشماخ:
أعائش ما لقومك لا أراهم ... يضيعون الهجان مع المضيع
فغلط منه، لأن لا في بيت الشماخ هذا نافية لا زائدة، ومقصوده أنها تنهاه عن حفظ ماله، مع أن أهلها يحفظون مالهم، أي: لا أرى قومك يضيعون مالهم وأنت تعاتبينني في حفظ مالي، وما ذكره الفراء من أن لفظة لا، لا تكون صلة إلاّ في الكلام الذي فيه معنى الجحد، فهو أغلبي لا يصح على الإطلاق، بدليل بعض الأمثلة المتقدّمة التي لا جحد فيها كهذه الآية، على القول بأنّ لا فيها صلة، وكبيت ساعدة الهذلي، وما ذكره الزمخشري من زيادة لا في أوّل الكلام دون غيره، فلا دليل عليه، انتهى محل الغرض من كتابنا "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب" .
وقرأ هذا الحرف الكسائي وحده من السبعة: {أَلاَ يَسْجُدُوا} بتخفيف اللام من قوله: {أَلاّ} ، وعلى قراءة الكسائي هذه، فلفظة {أَلاّ} حرف استفتاح، وتنبيه ويا
(6/112)
حرف نداء، والمنادى محذوف تقديره: ألا يا هؤلاء اسجدوا، واسجدوا فعل أمر ومعلوم في علم القراءات، أنك إذاقيل لك: قف على كل كلمة بانفرادها في قراءة الكسائي، أنك تقف في قوله: {أَلاَ يَسْجُدُوا} ، ثلاث وقفات، الأولى: أن تقف على ألا. والثانية: أن تقف على يا. والثالثة: أن تقف على اسجدوا، وهذا الوقف وقف اختبار لا وقف اختيار، وأمّا على قراءة الجمهور، فإنك تقف وقفتين فقط: الأولى: على {اَلاّ} ، ولا تقف على أن لأنها مدغمة في لا، والثانية: أنك تقف على {يَسْجُدُوا} .
واعلم أنه على قراءة الكسائي قد حذف في الخط ألفان، الأولى: الألف المتّصلة بياء النداء، والثانية: ألف الوصل في قوله: {اسْجُدُوا} ، ووجه بعض أهل العلم إسقاطهما في الخط، بأنهما لما سقطتا في اللفظ، سقطتا في الكتابة، قالوا: ومثل ذلك في القرءان كثير.
واعلم أن جمهور أهل العلم على ما ذكرنا في قراءة الكسائي من أن لفظة {أَلاّ} للاستفتاح والتنبيه، وأن يا حرف نداء حذف منه الألف في الخط، واسجدوا فعل أمر، قالوا: وحذف المنادى مع ذكر أداة النداء أسلوب عربي معروف، ومنه قول الأخطل:
ألا يا اسلمي يا هند هند بني بكر ... وإن كان حيّانا عدى آخر الدهر
وقول ذي الرمّة:
ألا يا سلمى يا دارمي على البلا ... ولا زال منهلاً بجرعائك القطر
فقوله في البيتين: ألا يا اسلمي، أي: يا هذه اسلمي، وقول الآخر:
لا يا اسلمي ذات الدماليج والعقد.
وقول الشمّاخ:
ألا يا اصبحاني قبل غارة سنجالي ... وقبل منايا قد حضرن وآجالي
يعني: ألا يا صحبي اصبحاني، ونظيره قول الآخر:
ألا يا اسقياني قبل خيل أبي بكر
ومنه قول الآخر:
(6/113)
فقالت ألا يا اسمع أعظك بخطبة ... فقلت سمعنا فانطقي وأصيبي
يعني: ألا يا هذا اسمع، وأنشد سيبويه لحذف المنادى مع ذكر أداته، قول الشاعر:
يا لعنة اللَّه والأقوام كلّهم ... والصالحين على سمعان من جار
بضمّ التاء من قوله: لعنة اللَّه، ثم قال: فيالغير اللعنة، يعني أن المراد: يا قوم لعنة اللَّه، إلى آخره. وأنشد صاحب اللسان لحذف المنادى، مع ذكر أداته مستشهدًا لقراءة الكسائي المذكورة، قول الشاعر:
يا قاتل اللَّه صبيانًا تجيء بهم ... أم الهنينين من زندلها وارى
ثم قال: كأنه أراد: يا قوم قاتل اللَّه صبيانًا، وقول الآخر:
يا من رأى بارقًا أكفكفه ... بين ذراعي وجبهة الأسد
ثم قال: كأنه دعا يا قوم يا إخوتي، فلمّا أقبلوا عليه قال: من رأى. وأنشد بعضهم لحذف المنادى مع ذكر أداته، قول عنترة في معلّقته:
يا شاة ما قنص لمن حلّت له ... حرمت على وليتها لم تحرم
قالوا: التقدير: يا قوم انظروا شاة ما قنص.
واعلم أن جماعة من أهل العلم، قالوا: إن يا على قراءة الكسائي، وفي جميع الشواهد التي ذكرنا ليست للنداء، وإنما هي للتنبيه فكل من ألا ويا: حرف تنبيه كرّر للتوكيد، وممّن روي عنه هذا القول: أبو الحسن بن عصفور، وهذا القول اختاره أبو حيّان في "البحر المحيط" ، قال فيه: "والذي أذهب إليه أن مثل هذا التركيب الوارد عن العرب ليست يا فيه للنداء، وحذف المنادى؛ لأن المنادى عندي لا يجوز حذفه، لأنه قد حذف الفعل العامل في النداء، وانحذف فاعله لحذفه، ولو حذف المنادى لكان في ذلك حذف جملة النداء، وحذف متعلّقه، وهو المنادى، فكان ذلك إخلالاً كبيرًا، وإذا أبقينا المنادى ولم نحذفه كان ذلك دليلاً على العامل فيه جملة النداء، وليس حرف النداء حرف جواب كنعم، ولا، وبلى، وأجل، فيجوز حذف الجمل بعدهنّ لدلالة ما سبق من السؤال على الجمل المحذوفة، فيا عندي في تلك التراكيب حرف تنبيه أكّد به إألا التي للتنبيه، وجاز ذلك لاختلاف الحرفين ولقصد المبالغة في التوكيد، وإذا كان قد وجد التوكيد في اجتماع
(6/114)
الحرفين المختلفي اللفظ، العاملين في قوله: فأصبحن لا يسألنني عن بما به، والمتفقي اللفظ العاملين في قوله:
ولا للما بهم أبدا دواء
وجاز ذلك، وإن عدوه ضرورة أو قليلاً، فاجتماع غير العاملين وهما مختلفا اللفظ يكون جائزًا، وليس يا في قوله:
يا لعنة اللَّه والأقوام كلّهم
حرف نداء عندي، بل حرف تنبيه جاء بعده المبتدأ، وليس مما حذف منه المنادى، لما ذكرناه". انتهى الغرض من كلام أبي حيان، وما اختاره له وجه من النظر.
قال مقيّده ـ عفا اللَّه عنه وغفر له ـ : وممّا له وجه من النظر عندي في قراءة الكسائي، أن يكون قوله: يا اسجدوا فعل مضارع حذفت منه نون الرفع، بلا ناصب، ولا جازم، ولا نون توكيد، ولا نون وقاية.
وقد قال بعض أهل العلم: إن حذفها لا لموجب، مما ذكر لغة صحيحة.
قال النووي في "شرح مسلم" ، في الجزء السابع عشر في صفحة 702، ما نصّه: "قوله: يا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كيف يسمعوا وأنّى يجيبوا وقد جيفوا، كذا هو في عامة النسخ، كيف يسمعوا، وأنّى يجيبوا من غير نون، وهي لغة صحيحة، وإن كانت قليلة الاستعمال، وسبق بيانها مرّات. ومنها الحديث السابق في "الإيمان" : "لا تدخلوا الجنّة حتّى تؤمنوا" "، انتهى منه. وعلى أن حذف نون الرفع لغة صحيحة، فلا مانع من أن يكون قوله تعالى: {يَسْجُدُوا} ، في قراءة الكسائي فعل مضارع، ولا شكّ أن هذا له وجه من النظر، وقد اقتصرنا في سورة "الحجر" ، على أن حذفها مقصور على السماع، وذكرنا بعد شواهده، والعلم عند اللَّه تعالى.
تنبيهان
الأول : اعلم أن التحقيق أن آية "النمل" هذه، محل سجدة على كلتا القراءتين؛ لأن قراءة الكسائي فيها الأمر بالسجود، وقراءة الجمهور فيها ذمّ تارك السجود وتوبيخه، وبه تعلم أن قول الزجاج ومن وافقه أنها ليست محل سجدة على قراءة الجمهور، وإنما هي
(6/115)
محل سجود على قراءة الكسائي خلاف التحقيق، وقد نبّه على هذا الزمخشري وغيره. التنبيه الثاني : اعلم أنه على قراءة الجمهور، لا يحسن الوقف على قوله: {لا يَهْتَدُونَ} ، وعلى قراءة الكسائي، يحسن الوقف عليه.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} ، قرأه حفص والكسائي بالتاء الفوقية على الخطاب، وقرأه الباقون: يخفون، ويعلنون بالتحتية على الغيبة، والعلم عند اللَّه تعالى.
قوله تعالى: {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} .
جاء معناه موضحًا في آيات متعدّدة؛ كقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ} ، وقوله: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} ، وقوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ} .
قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} .
جاء معناه موضحًا أيضًا في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} ، وقوله تعالى: {فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} ، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} ، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} ، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} .
ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أنه أرسل نبيّه صالحًا إلى ثمود، {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} ، ولم يبيّن هنا خصومة الفريقين، ولكنّه بيّن ذلك في سورة "الأعراف" ، في قوله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} ، فهذه خصومتهم وأعظم أنواع الخصومة، الخصومة في الكفر والإيمان.
(6/116)
قوله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} .
قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة "الرعد" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ} .
قوله تعالى: {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} .
قوله: {اطَّيَّرْنَا بِكَ} ، أي: تشاءمنا بك، وكان قوم صالح إذا نزل بهم قحط أو بلاء أو مصائب، قالوا: ما حاءنا هذا إلا من شؤم صالح، ومن آمن به. والتطيّر: التشاؤم، وأصل اشتقاقه من التشاؤم بزجر الطير.
وقد بيَّنا كيفية التشاؤم والتيامن بالطير في سورة "الأنعام" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} ، وقوله تعالى: {طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ} ، قال بعض أهل العلم: أي سببكم الذي يجيء منه خيركم وشرّكم عند اللَّه، فالشر الذي أصابكم بذنوبكم لا بشؤم صالح، ومن آمن به من قومه.
وقد قدّمنا معنى طائر الإنسان في سورة "بني إسرائيل" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} ، وما دلّت عليه هذه الآية الكريمة من تشاؤم الكفار بصالح ومن معه من المؤمنين، جاء مثله موضحًا في آيات أُخر من كتاب اللَّه؛ كقوله تعالى في تشاؤم فرعون وقومه بموسى: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} ، وقوله تعالى في تطيّر كفار قريش بنبيّنا صلى الله عليه وسلم: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} ، والحسنة في الآيتين: النعمة كالرزق والخصب والعافية، والسيّئة: المصيبة بالجدب والقحط، ونقص الأموال، والأنفس، والثمرات؛ وكقوله تعالى: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} ، أي: بليتكم جاءتكم من ذنوبكم وكفركم.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} ، قال بعض العلماء:
(6/117)
تختبرون. وقال بعضهم: تعذبون؛ كقوله: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} ، وقد قدّمنا أن أصل الفتنة في اللغة، وضع الذهب في النار ليختبر بالسبك أزائف هو أم خالص؟ وأنها أطلقت في القرءان على أربعة معان:
الأول : إطلاقها على الإحراق بالنار؛ كقوله تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} ، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} ، أي: حرّقوهم بنار الأخدود على أحد التفسيرين، وقد اختاره بعض المحقّقين..
المعنى الثاني : إطلاق الفتنة على الاختبار، وهذا هو أكثرها استعمالاً؛ كقوله تعالى: {الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} ، وقوله تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} ، والآيات بمثل ذلك كثيرة.
الثالث : إطلاق الفتنة على نتيجة الاختبار إن كانت سيّئة خاصة، ومن هنا أطلقت الفتنة على الكفر والضلال؛ كقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} ، أي: لا يبقى شرك، وهذا التفسير الصحيح، دلَّ عليه الكتاب والسنّة.
أمّا الكتاب، فقد دلَّ عليه قوله بعده في "البقرة" : {وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} ، وفي "الأنفال" : {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} ، فإنه يوضح أن معنى: {لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} ، أي: لا يبقى شرك؛ لأن الدين لا يكون كلّه للَّه، ما دام في الأرض شرك، كما ترى.
وأمّا السنة: ففي قوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أُقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إلاه إلاّ اللَّه" ، الحديث. فقد جعل صلى الله عليه وسلم الغاية التي ينتهي إليها قتاله للناس، هي شهادة ألا إلاه إلاّ اللَّه، وأنّ محمّداً رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو واضح في أن معنى: {لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} : لا يبقى شرك، فالآية والحديث كلاهما دالّ على أن الغاية التي ينتهي إليها قتال الكفاء هي ألا يبقى في الأرض شرك، إلاّ أنّه تعالى في الآية عبّر عن هذا المعنى بقوله: {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} ، وقد عبّر صلى الله عليه وسلم عنه بقوله: "حتى يشهدوا ألا إلاه إلاّ اللَّه" ، فالغاية في الآية والحديث واحدة في المعنى، كما ترى.
ا لرابع : هو إطلاق الفتنة على الحجّة، في قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ
(6/118)
قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} ، أي: لم تكن حجتهم، كما قاله غير واحد، والعلم عند اللَّه تعالى. قوله تعالى: {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} . قد دلَّت هذه الآية الكريمة على أن نبيّ اللَّه صالحًا عليه وعلى نبيّنا الصّلاة والسّلام نفعه اللَّه بنصرة وليّه، أي: أوليائه؛ لأنه مضاف إلى معرفة، ووجه نصرتهم له: أن التسعة المذكورين في قوله تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا} ، أي: تحالفوا باللَّه، {لَنُبَيِّتَنَّهُ} ، أي: لنباغتنه بياتًا، أي: ليلاً فنقتله ونقتل أهله معه، {لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ} ، أي: أوليائه وعصبته، {مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ} ، أي: ولا مهلكه هو، وهذا يدلّ على أنهم لا يقدرون أن يقتلوه علنًا، لنصرة أوليائه له، وإنكارهم شهود مهلك أهله دليل على خوفهم من أوليائه، والظاهر أن هذه النصرة عصبية نسبية لا تمتّ إلى الدين بصلة، وأن أولياءه ليسوا مسلمين.
وقد قدّمنا الآيات الموضحة لهذا المعنى في سورة "هود" ، في الكلام على قوله تعالى: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} ، وفي سورة "بني إسرائيل" ، في الكلام على قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} . وقوله تعالى في هذه الآية: {تَقَاسَمُوا} ، التحقيق أنه فعل أمر محكي بالقول. وأجاز الزمخشري، وابن عطية أن يكون ماضيًا في موضع الحال، والأوّل هو الصواب إن شاء اللَّه، ونسبه أبو حيان للجمهور، وقوله في هذه الآية: {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} ، التحقيق فيه أنهم كاذبون في قولهم: {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} ، كما لا يخفى، وبه تعلم أن ما تكلفه الزمخشري في "الكشاف" ، من كونهم صادقين لا وجه له، كما نبّه عليه أبو حيان وأوضحه، وقرأ عامة السبعة غير حمزة والكسائي {لَنُبَيِّتَنَّهُ} بالنون المضمومة بعد اللام، وفتح الفوقية المثناة التي بعد التحتية المثناة، وقرأ حمزة والكسائي: {لَنُبَيِّتَنَّهُ} بالتاء الفوقية المضمومة بعد اللام، وضمّ التاء الفوقية التي بعد الياء التحتية، وقرأ عامة السبعة أيضاً غير حمزة والكسائي: {ثُمَّ لَنَقُولَنَّ} ، بالنون المفتوحة موضع التاء، وفتح اللام الثانية، وقرأ حمزة والكسائي: {ثُمَّ لَنَقُولَنَّ} ، بفتح التاء الفوقية بعد
(6/119)
اللام الأولى، وضمّ اللام الثانية، وقرأ عاصم: {مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ} بفتح الميم، والباقون بضمّها، وقرأ حفص عن عاصم: {مُهْلِكَ} بكسر اللام، والباقون بفتحها.
فتحصل أن حفصًا عن عاصم قرأ {مَهْلِكَ} بفتح الميم وكسر اللام، وأن أبا بكر -أعني شعبة- قرأ عن عاصم: {مَهْلَكَ} بفتح الميم واللام، وأن غير عاصم قرأ: {مُهْلَكَ أَهْلِهِ} ، بضم الميم وفتح اللام، فعلى قراءة من قرأ {مَهْلِكَ} بفتح الميم، فهو مصدر ميمي من هلك الثلاثي، ويحتمل أن يكون اسم زمان أو مكان، وعلى قراءة من قرأ {مُهْلِكَ} بضم الميم، فهو مصدر ميمي من أهلك الرباعي، ويحتمل أن يكون أيضًا اسم مكان أو زمان.
قوله تعالى: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} .
ذكر جلَّ وعلا في هذه الآيات الكريمة، ثلاث أمور:
الأول : أنه دمّر جميع قوم صالح، ومن جملتهم تسعة رهط الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وذلك في قوله: {أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} ، أي: وهم قوم صالح ثمود، {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} ، أي: خالية من السكان لهلاك جميع أهلها، {بِمَا ظَلَمُوا} ، أي: بسبب ظلمهم الذي هو كفرهم وتمرّدهم وقتلهم ناقة اللَّه التي جعلها آية لهم، وقال بعضهم: {خَاوِيَةً ٍ} ، أي: ساقطًا أعلاها على أسفلها.
الثاني : أنه جلَّ وعلا جعل إهلاكه قوم صالح آية، أي: عبرة يتّعظ بها من بعدهم، فيحذر من الكفر، وتكذيب الرسل، لئلا ينزل به ما نزل بهم من التدمير، وذلك في قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} .
الثالث : أنه تعالى أنجى الذين آمنوا وكانوا يتّقون من الهلاك والعذاب، وهو نبيّ اللَّه صالح ومن آمن به من قومه، وذلك في قوله تعالى: {وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} ، وهذه الأمور الثلاثة التي ذكرها جلَّ وعلا هنا، جاءت موضحة في آيات أُخر.
أما إنجاؤه نبيّه صالحًا، ومن آمن به وإهلاكه ثمود، فقد أوضحه جلَّ وعلا في
(6/120)
مواضع من كتابه؛ كقوله في سورة "هود" : {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ * وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ} . وآية "هود" هذه، قد بيَّنت أيضًا التدمير المجمل في آية "النمل" هذه، فالتدمير المذكور في قوله تعالى: {أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} ، بيّنت آية "هود" أنه الإهلاك بالصيحة، في قوله تعالى: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} ، أي: وهم موتى. وأمّا كونه جعل إهلاكه إياهم أية، فقد أوضحه أيضًا في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالى فيهم: {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ * فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} ، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} ، قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: {إِنَّا دَمَّرْنَاهُمْ} بكسرة همزة {إِنَاْ} على الاستئناف، وقرأه الكوفيون وهم: عاصم وحمزة والكسائي: {أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ} ، بفتح همزة {أَنَاْ} . وفي إعراب المصدر المنسبك من أن وصلتها على قراءة الكوفيين أوجه، منها: أنه بدل من عاقبة مكرهم، ومنها: أنه خبر مبتدأ محذوف، وتقديره هي، أي: عاقبة مكرهم تدميرنا إياهم.
وهذان الوجهان هما أقرب الأوجه عندي للصواب، ولذا تركنا غيرهما من الأوجه، والضمير في قوله: {مَكْرِهِمْ} ، وفي قوله: {دَمَّرْنَاهُمْ} ، راجع إلى التسعة المذكورين في قوله: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ} ، وقوله: {خَاوِيَةً} حال في بيوتهم، والعامل فيه الإشارة الكامنة في معنى تلك.
قوله تعالى: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} إلى قوله تعالى {فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} .
قد قدّمنا الآيات التي فيها إيضاح قصة لوط وقومه في سورة "هود" ، في الكلام على قصة لوط وقومه، وبيّنا هناك كلام أهل العلم ومناقشة أدلّتهم في عقوبة فاعل فاحشة اللواط، وذكرنا الآيات المبيّنة لها أيضًا في سورة "الحجر" ، في الكلام على قصة لوط وقومه، وذكرنا بعض ذلك في سورة "الفرقان" .
(6/121)
وقوله تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} . وقوله تعالى: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارا} .
قد أوضحنا ما تضمُّنته من البراهين على البعث في أوّل سورة "البقرة" ، وأوّل سورة "النحل" .
قوله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} .
قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة "الأنعام" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} ، وفي مواضع أُخر.
قوله تعالى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} .
أظهر أقوال أهل العلم عندي في هذه الآية الكريمة أن المعنى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ} ، أي: تكامل علمهم في الآخرة حين يعاينونها، أي: يعلمون في الآخرة علمًا كاملاً، ما كانوا يجهلونه في الدنيا، وقوله: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} ، أي: في دار الدنيا، فهذا الذي كانوا يشكّون فيه في دار الدنيا، ويعمون عنه مما جاءتهم به الرسل، يعلمونه في الآخرة علمًا كاملاً لا يخالجه شكّ، عند معاينتهم لما كانوا ينكرونه منه البعث والجزاء.
وإنما اخترنا هذا القول دون غيره من أقوال المفسّرين في الآية، لأن القرءان دلَّ عليه دلالة واضحة في آيات متعدّدة؛ كقوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} ، فقوله: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} ، بمعنى: ما أسمعهم وما أبصرهم للحق الذي كانوا ينكرونه يوم يأتوننا، أي: يوم القيامة، وهذا يوضح معنى قوله: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ} ، أي: تكامل علمهم فيها لمبالغتهم في سمع الحق وإبصاره في ذلك الوقت، وقوله: {لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} ، يوضح معنى قوله: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} ، لأن ضلالهم المبيّن اليوم، أي: في دار الدنيا، هو شكّهم في الآخرة، وعماهم عنها؛
(6/122)
عنها وكقوله تعالى: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} ، أي: علمك اليوم بما كنت تنكره في الدنيا مما جاءتك به الرسل حديد، أي: قوي كامل.
وقد بيَّنا في كتابنا "دفع إبهام الاضطراب عن آيات الكتاب" ، في سورة "الشورى" ، في الجواب عمّا يتوهم من التعارض بين قوله تعالى: {نْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} ، وقوله تعالى: {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} ، أن المراد بحدّة البصر في ذلك اليوم: كما العلم وقوّة المعرفة. وقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} ، فقوله: {إِنَّا مُوقِنُونَ} أي: يوم القيامة، يوضح معنى قوله هنا: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ} ، وكقوله تعالى: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً} ، فعرضهم على ربهم صفًّا يتدارك به علمهم، لما كانوا ينكرونه، وقوله: {بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِدًا} ، صريح في أنهم في الدنيا كانوا في شكّ وعمى عن البعث والجزاء كما ترى، إلى غير ذلك من الآيات.
واعلم أن قوله: {بَلِ ادَّارَكَ} ، فيه اثنتا عشرة قراءة اثنتان منها فقط سبعيّتان، فقد قرأه عامّة السبعة، غير ابن كثير وأبي عمرو: {بَلِ ادَّارَكَ} بكسر اللام من {بَلِ} وتشديد الدال بعدها ألف والألف التي قبل الدال همزة وصل، وأصله: تدارك بوزن: تفاعل، وقد قدّمنا وجه الإدغام، واستجلاب همزة الوصل في تفاعل وتفعل وأمثلة ذلك في القرءان، وبعض شواهده العربية في سورة "طه" ، في الكلام على قوله تعالى: {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} ، وقرأه ابن كثير وأبو عمرو: {بَلْ أدْرََكَ} بسكون اللام من {بَلْ} ، وهمزة قطع مفتوحة، مع سكون الدال على وزن: أفعل.
والمعنى على قراءة الجمهور: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ} ، أي: تدارك بمعنى تكامل؛ كقوله: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً} ، وعلى قراءة ابن كثير وأبي عمرو: {بَلْ أدْرََكَ} .
قال البغوي: "أي: بلغ ولحق، كما يقال: أدرك علمي إذا لحقه وبلغه، والإضراب في قوله تعالى: {بَلِ ادَّارَكَ} ، {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا} ، {بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} ، إضراب انتقالي، والظاهر أن من في قوله تعالى: {بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} ، بمعنى: عن،
(6/123)
و {عَمُونَ} جمع عم، وهو الوصف من عمى يعمي فهو أعمى وعم، ومنه قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً عَمِينَ} ، وقول زهير في معلّقته:
وأعلم علم اليوم والأمس قبله ... ولكنني عن علم ما في غد عم
قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} .
ومن ذلك اختلافهم في عيسى، فقد قدَّمنا في سورة "مريم" ، ادّعاءهم على أُمّه الفاحشة، مع أن طائفة منهم آمنت به؛ كما يشير إليه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ} ،والطائفة التي آمنت قالت الحق في عيسى، والتي كفرت افترت عليه وعلى أُمّه، كما تقدّم إيضاحه في سورة "مريم" .
وقد قصّ اللَّه عليهم في سورة "مريم" و سورة "النساء" وغيرهما، حقيقة عيسى ابن مريم، وهي أنه {عَبْدُ الله} ورسوله {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} ، ولمّا بيَّن لهم حقيقة أمره مفصّلة في سورة "مريم" ، قال: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} ، وذلك يبيّن بعض ما دلّ عليه قوله تعالى هنا: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} .
قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} .
قد قدّمنا الآيات الموضحة له في أوّل سورة "الكهف" ، في الكلام على قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} .
قوله تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} .
اعلم أن التحقيق الذي دلّت عليه القرائن القرءانيّة واستقراء القرءان، أن معنى قوله: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ، لا يصح فيه من أقوال العلماء، إلا تفسيران:
الأول: أن المعنى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ، أي: لا تسمع الكفار الذين أمات اللَّه قلوبهم، وكتب عليهم الشقاء في سابق علمه إسماع هدى وانتفاع؛ لأن اللَّه كتب عليهم الشقاء، فختم على قلوبهم، وعلى سمعهم، وجعل على قلوبهم الأكنة، وفي آذانهم الوقر،
(6/124)
وعلى أبصارهم الغشاوة، فلا يسمعون الحقّ سماع اهتداء وانتفاع. ومن القرائن القرءانية الدالَّة على ما ذكرنا، أنّه جلَّ وعلا قال بعده: {إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} .
فاتّضح بهذه القرينة أن المعنى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ، أي: الكفار الذين هم أشقياء في علم اللَّه إسماع هدى وقبول للحق، ما تسمع ذلك الإسماع {إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} ، فمقابلته جلَّ وعلا بالإسماع المنفي في الآية عن الموتى بالإسماع المثبت فيها، لمن يؤمن بآياته، فهو مسلم دليل واضح على أن المراد بالموت في الآية موت الكفر والشقاء، لا موت مفارقة الروح للبدن، ولو كان المراد بالموت في قوله: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ، مفارقة الروح للبدن لما قابل قوله: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ، بقوله: {إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا} ، بل لقابله بما يناسبه، كأن يقال: آن تسمع إلاّ من لم يمت، أي: يفارق روحه بدنه، كما هو واضح.
وإذا علمت أن هذه القرينة القرءانيّة دلّت على أن المراد بالموتى هنا الأشقياء، الذين لا يسمعون الحقّ سماع هدى وقبول.
فاعلم أن استقراء القرءان العظيم يدلّ على هذا المعنى؛ كقوله تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} ، وقد أجمع من يعتدّ به من أهل العلم أن المراد بالموتى في قوله: {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} : الكفّار، ويدلّ له مقابلة الموتى في قوله: {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} بالذين يسمعون، في قوله: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} ، ويوضح ذلك قوله تعالى قبله: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} ، أي: فافعل، ثم قال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ * إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} ، وهذا واضح فيما ذكرنا. ولو كان يراد بالموتى من فارقت أرواحهم أبدانهم لقابل الموتى بما يناسبهم؛ كأن يقال: إنما يستجيب الأحياء، أي: الذين لم تفارق أرواحهم أبدانهم، وكقوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
(6/125)
فقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً} ، أي: كافرًا فأحييناه، أي: بالإيمان والهدى، وهذا لا نزاع فيه، وفيه إطلاق الموت وإرادة الكفر بلا خلاف؛ وكقوله: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} ، وكقوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ} ، أي: لا يستوي المؤمنون والكافرون.
ومن أوضح الأدلّة على هذا المعنى، أن قوله تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} الآية، وما في معناها من الآيات كلّها، تسلية له صلى الله عليه وسلم، لأنه يحزنه عدم إيمانهم، كما بيّنه تعالى في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} ، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} ، وقوله: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} ، وقوله تعالى: {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} ، وكقوله تعالى: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} ، وقوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} ، وقوله تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} ، إلى غير ذلك من الآيات، كما تقدّم إيضاحه. ولما كان يحزنه كفرهم وعدم إيمانهم، أنزل اللَّه آيات كثيرة تسلية له صلى الله عليه وسلم بيّن له فيها أنه لا قدرة له صلى الله عليه وسلم على هدي من أضلّه اللَّه، فإن الهدى والإضلال بيده جلَّ وعلا وحده، وأوضح له أنه نذير، وقد أتى بما عليه فأنذرهم على أَكمل الوجوه وأبلغها، وأن هداهم وإضلالهم بيد من خلقهم.
ومن الآيات النازلة تسلية له صلى الله عليه وسلم، قوله هنا: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ، أي: لا تسمع من أضلّه اللَّه إسماع هدى وقبول، {إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا} ، يعني: ما تسمع إسماع هدى وقبول، إلاّ من هديناهم للإيمان بآياتنا {فَهُمْ مُسْلِمُونَ} .
والآيات الدالَّة على هذا المعنى كثيرة؛ كقوله تعالى: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} ، وقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ، وقوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} ، وقوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} ، إلى غير
(6/126)
ذلك من الآيات. ولو كان معنى الآية وما شابهها: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ، أي: الذين فارقت أرواحهم أبدانهم لما كان في ذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم، كما ترى.
واعلم: أن آية "النمل" هذه، حاءت آيتان أُخريان بمعناها:
الأولى منهما : قوله تعالى في سورة "الروم" : {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} ، ولفظ آية "الروم" هذه، كلفظ آية "النمل" التي نحن بصددها، فيكفي في بيان آية "الروم" ، ما ذكرنا في آية "النمل" .
والثانية منهما : قوله تعالى في سورة "فاطر" : {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} ، وآية "فاطر" هذه كآية "النمل" و "الروم" المتقدمتين، لأن المراد بقوله فيها: {مَنْ فِي الْقُبُورِ} الموتى، فلا فرق بي قوله: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ، وبين قوله: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} ؛ لأن المراد بالموتى ومن في القبور واحد؛ كقوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} ، أي: يبعث جميع الموتى من قُبِر منهم ومن لم يقبر، وقد دلَّت قرائن قرءانيّة أيضًا على أن معنى آية "فاطر" هذه كمعنى? آية "الروم" ، منها قوله تعالى قبلها: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} ، لأن معناها: لا ينفع إنذارك إلا من هداه اللَّه ووفّقه فصار ممن يخشى ربّه بالغيب ويقيم الصلاة، {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} ، أي: الموتى، أي: الكفار الذين سبق لهم الشقاء، كما تقدّم. ومنها قوله تعالى أيضًا: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} ، أي: المؤمن والكافر. وقوله تعالى (بعدها): {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ} ، أي: المؤمنون والكفار. ومنها قوله تعالى بعده: {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} (52/32)، أي: ليس الإضلال والهدى بيدك ما أنت إلا نذير، أي: وقد بلّغت.
التفسير الثاني: هو أن المراد بالموتى الذين ماتوا بالفعل، ولكن المراد بالسماع المنفي في قوله: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} خصوص السماع المعتاد الذي ينتفع صاحبه به، وأن هذا مثل ضرب للكفار، والكفار يسمعون الصوت، لكن لا يسمعون سماع قبول بفقه واتّباع؛ كما قال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً
(6/127)
وَنِدَاءً} ، فهكذا الموتى الذين ضرب بهم المثل لا يجب أن ينفى عنهم جميع أنواع السماع، كما لم ينف ذلك عن الكفار، بل قد انتفى عنهم السماع المعتاد الذين ينتفعون به، وأمّا سماع آخر فلا، وهذا التفسير الثاني جزم به واقتصر عليه أبو العباس ابن تيمية، كما سيأتي إيضاحه إن شاء اللَّه في هذا المبحث.
وهذا التفسير الأخير دلَّت عليه أيضًا آيات من كتاب اللَّه، جاء فيها التصريح بالبكم والصمم والعمى مسندًا إلى قوم يتكلّمون ويسمعون ويبصرون، والمراد بصممهم، صممهم عن سماع ما ينفعهم دون غيره، فهم يسمعون غيره، وكذلك في البصر والكلام، وذلك كقوله تعالى في المنافقين: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} ، فقد قال فيهم: {صُمٌّ بُكْمٌ} مع شدّة فصاحتهم وحلاوة ألسنتهم، كما صرّح به في قوله تعالى فيهم: {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} ، أي: لفصاحتهم، وقوله تعالى: {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} ، فهؤلاء الذين إن يقولوا تسمع لقولهم، وإذا ذهب الخوف سلقوا المسلمين بألسنة حداد، هم الذين قال اللَّه فيهم: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} ، وما ذلك إلاَّ أن صممهم وبكمهم وعماهم بالنسبة إلى شىء خاص، وهو ما ينتفع به من الحقّ، فهذا وحده هو الذي صمّوا عنه فلم يسمعوه، وبكموا عنه فلم ينطقوا به، وعموا عنه فلم يروه مع أنهم يسمعون غيره ويبصرونه، وينطقون به؛ كما قال تعالى: {َجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ} ، وهذا واضح كما ترى.
وقد أوضحنا هذا غاية الإيضاح مع شواهده العربية في كتابنا "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب" ، في سورة "البقرة" ، في الكلام على وجه الجمع بين قوله في المنافقين: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} ، مع قوله فيهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} ، وقوله فيهم: {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} ، وقوله فيهم أيضًا: {وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} ، وقد أوضحنا هناك أن العرب تطلق الصمم وعدم السماع على السماع، الذي لا فائدة فيه، وذكرنا بعض الشواهد العربية على ذلك.
مسألة تتعلق بهذه الآية الكريمة
اعلم أن الذي يقتضي الدليل رجحانه هو أن الموتى في قبورهم يسمعون كلام من
(6/128)
كلّمهم، وأن قول عائشة رضي اللَّه عنها ومن تبعها: إنهم لا يسمعون، استدلالاً بقوله تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ، وما جاء بمعناها من الآيات غلط منها رضي اللَّه عنها، وممن تبعها.
وإيضاح كون الدليل يقتضي رجحان ذلك، مبني على مقدّمتين:
الأولى منهما: أن سماع الموتى ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في أحاديث متعدّدة، ثبوتًا لا مطعن فيه، ولم يذكر صلى الله عليه وسلم أن ذلك خاص بإنسان ولا بوقت.
والمقدمة الثانية: هي أن النصوص الصحيحة عنه صلى الله عليه وسلم في سماع الموتى لم يثبت في الكتاب، ولا في السنة شىء يخالفها، وتأويل عائشة رضي اللَّه عنها بعض الآيات على معنى يخالف الأحاديث المذكورة، لا يجب الرجوع إليه؛ لأن غيره في معنى الآيات أولى بالصواب منه، فلا ترد النصوص الصحيحة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بتأوّل بعض الصحابة بعض الآيات، وسنوضح هنا إن شاء اللَّه صحة المقدمتين المذكورتين، وإذا ثبت بذلك أن سماع الموتى ثابت عنه صلى الله عليه وسلم من غير معارض صريح، علم بذلك رجحان ما ذكرنا، أن الدليل يقتضي رجحانه.
أمّا المقدمة الأولى، وهي ثبوت سماع الموتى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد قال البخاري في صحيحه: "حدّثني عبد اللَّه بن محمد، سمع روح بن عبادة، حدّثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، قال: ذكر لنا أنس بن مالك عن أبي طلحة أن نبيّ اللَّه صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلاً من صناديد قريش، فقذفوا في طوى من أطواء بدر خبيث مخبث، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال، فلمّا كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشدّ عليها رحلها، ثم مشى واتّبعه أصحابه، وقالوا: ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته، حتى قام على شفة الركي، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: "يا فلان ابن فلان، ويا فلان ابن فلان، أيسرّكم أنكم أطعتم اللَّه ورسوله، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربّنا حقًا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًا" ؟ قال: فقال عمر: يا رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- ما تكلم من أجساد لا أرواح لها?! فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمّد بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم" ، قال قتادة: "أحياهم اللَّه له، حتى أسمعهم توبيخًا وتصغيرًا ونقمة وحسرة وندمًا" ، فهذا الحديث الصحيح أقسم فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم أن الأحياء الحاضرين ليسوا بأسمع لما يقول صلى الله عليه وسلم من أولئك الموتى بعد ثلاث، وهو نص صحيح صريح في سماع الموتى، ولم يذكر صلى الله عليه وسلم في ذلك
(6/129)
تخصيصًا، وكلام قتادة الذي ذكره عنه البخاري اجتهاد منه، فيما يظهر.
وقال البخاري في "صحيحه" أيضًا: "حدثني عثمان، حدّثني عبدة عن هشام عن أبيه، عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما، قال: وقف النبيّ صلى الله عليه وسلم على قليب بدر، فقال: "هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً" ؟ ثم قال: "إنهم الآن يسمعون ما أقول" ، فذكر لعائشة، فقالت: إنما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق" ، ثم قرأت: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ، حتى قرأت الآية"، انتهى من صحيح البخاري. وقد رأيته أخرج عن صحابيين جليلين، هما: ابن عمر، وأبو طلحة، تصريح النبيّ صلى الله عليه وسلم بأن أُولئك الموتى يسمعون ما يقول لهم، وردّ عائشة لرواية ابن عمر بما فهمت من القرءان مردود، كم سترى إيضاحه إن شاء اللَّه تعالى.
وقد أوضحنا في سورة "بني إسرائيل" ، في الكلام على قوله تعالى: {لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ، أن ردّها على ابن عمر أيضًا روايته عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أن الميّت يعذّب ببكاء أهله بما فهمت من الآية مردود أيضًا، وأوضحنا أن الحقّ مع ابن عمر في روايته لا معها، فيما فهمت من القرءان. وقال البخاري في "صحيحه" أيضًا: "حدّثنا عياش، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا سعيد، قال: وقال لي خليفة: حدثنا ابن زريع، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس رضي اللَّه عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إن العبد إذ وضع في قبره وتولّى عنه أصحابه، وإنه ليسمع قرع نعالهم، أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل محمّد صلى الله عليه وسلم؟ فيقول: أشهد أنه عبد اللَّه ورسوله، فيقال: أنظر إلى مقعدك من النار أبدلك اللَّه به مقعدًا في الجنّة" الحديث، وقد رأيت في هذا الحديث الصحيح تصريح النبيّ صلى الله عليه وسلم بأن الميّت في قبره، يسمع قرع نعال من دفنوه إذا رجعوا، وهو نص صحيح صريح في سماع الموتى، ولم يذكر صلى الله عليه وسلم فيه تخصيصًا.
وقال مسلم بن الحجاج رحمه اللَّه في "صحيحه" : "حدّثني إسحاق بن عمر بن سليط الهذلي، حدّثنا سليمانبن المغيرة، عن ثابت، قال: قال أنس: كنت مع عمر (ح)، وحدثنا شيبان بن فروخ، واللفظ له: حدّثنا سليمانبن المغيرة بن ثابت، عن أنس بن مالك، قال: كنّا مع عمر بين مكّة والمدينة فتراءينا الهلال، الحديث. وفيه: فقال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس، يقول: "هذا مصرع فلان غدًا إن شاء اللَّه" ، قال: فقال عمر: فوالذي بعثه بالحقّ ما أخطأوا الحدود التي حدّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فجعلوا في بئر
(6/130)
بعضهم على بعض، فانطلق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إليهم، فقال: "يا فلان ابن فلان، ويا فلان ابن فلان، هل وجدتم ما وعدكم اللَّه ورسوله حقًّا؟ فإني قد وجدت ما وعدني اللَّه حقًّا" قال عمر: يا رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- كيف تكلّم أجسادًا لا أرواح فيها؟ قال:
"ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا عليّ شيئًا" . حدّثنا هداب بن خالد، حدّثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ترك قتلى بدر ثلاثًا ثم أتاهم، فقام عليهم فناداهم، فقال: "يا أبا جهل بن هشام، يا أُميّة بن خلف، يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، أليس قد وجدتم ما وعدكم اللَّه حقًّا، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقًّا" ، فسمع عمر قول النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه? كيف يسمعوا وأنّى يجيبوا، وقد جيفوا؟ قال: "والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا" ، ثم أمر بهم فسحبوا، فألقوا في قليب بدر". ثم ذكر مسلم بعد هذا رواية أنس عن أبي طلحة، التي ذكرناها عن البخاري، فترى هذه الأحاديث الثابتة في الصحيح عن عمر وابنه، وأنس، وأبي طلحة رضي اللَّه عنهم، فيها التصريح من النبيّ صلى الله عليه وسلم بأن الأحياء الحاضرين ليسوا بأسمع من أولئك الموتى لما يقوله صلى الله عليه وسلم، وقد أقسم صلى الله عليه وسلم على ذلك ولم يذكر تخصيصًا، وقال مسلم رحمه اللَّه في "صحيحه" أيضًا: "حدّثنا عبد بن حميد، حدّثنا يونس بن محمد، حدّثنا شيبان بن عبد الرحمن، عن قتادة، حدّثنا أنس بن مالك، قال: قال نبيّ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن العبد إذا وُضع في قبره وتولّى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم" ، قال: "يأتيه ملكان فيعقدانه" الحديث، وفيه تصريح النبيّ صلى الله عليه وسلم بسماع الميّت في قبره قرع النعال، وهو نصّ صحيح صريح في سماع الموتى، وظاهره العموم في كل من دفن وتولّى عنه قومه، كما ترى.
ومن الأحاديث الدالَّة على عموم سماع الموتى، ما رواه مسلم في صحيحه: "حدّثنا يحيبن يحي التميمي، ويحيبن أيوب، وقتيبة بن سعيد، قال يحيى بن يحيى?: أخبرنا، وقال الآخران: حدّثنا إسماعيلبن جعفر عن شريك، وهو ابن أبي نمر، عن عطاء بن يسار، عن عائشة رضي اللَّه عنها، أنّها قالت: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كلّما كان ليلتها من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يخرج من آخر الليل إلى البقيع، فيقول: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون غدًا مؤجلون، وإنا إن شاء اللَّه بكم لاحقون، اللَّهمّ اغفر لأهل بقيع الفرقد" ، ولم يقم قتيبة قوله: "وأتاكم ما توعدون" ، وفي رواية في صحيح مسلم عنها، قالت: كيف أقول لهم يا رسول اللَّه ــ صلى الله عليه وسلم ــ ؟ قال: "قولي: السلام على أهل
(6/131)
الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم اللَّه المستقدمين منّا والمستأخرين، وإنّا إن شاء اللَّه بكم للاحقون" ، ثم قال مسلم رحمه اللَّه: حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب، قالا: حدّثنا محمد بن عبد اللَّه الأسدي عن سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمانبن بريدة، عن أبيه، قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعلّمهم إذا خرجوا إلى المقابر، فكان قائلهم يقول في رواية أبي بكر: "السلام على أهل الديار" ، وفي رواية زهير: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء اللَّه بكم للاحقون، نسأل اللَّه لنا ولكم العافية" ، انتهى من "صحيح مسلم" .
وخطابه صلى الله عليه وسلم لأهل القبور بقوله: "السلام عليك" ، وقوله: "وإنا إن شاء اللَّه بكم" ، ونحو ذلك يدلّ دلالة واضحة على أنهم يسمعون سلامه لأنهم لو كانوا لا يسمعون سلامه وكلامه لكان خطابه لهم من جنس خطاب المعدوم، ولا شكّ أن ذلك ليس من شأن العقلاء، فمن البعيد جدًّا صدوره منه صلى الله عليه وسلم، وسيأتي إن شاء اللَّه ذكر حديث عمرو بن العاص الدالّ على أن الميّت في قبره يستأنس بوجود الحيّ عنده.
وإذا رأيت هذه الأدلّة الصحيحة الدالَّة على سماع الموتى، فاعلم أن الآيات القرءانية؛ كقوله تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ، وقوله: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} لا تخالفها، وقد أوضحنا الصحيح من أوجه تفسيرها، وذكرنا دلالة القرائن القرءانية عليه، وأن استقراء القرءان يدلّ عليه.
وممّن جزم بأن الآيات المذكورة لا تنافي الأحاديث الصحيحة التي ذكرنا أبو العباس ابن تيمية، فقد قال في الجزء الرابع من "مجموع الفتاوى" من صحيفة خمس وتسعين ومائتين، إلى صحيفة تسع وتسعين ومائتين، ما نصّه: "وقد تعاد الروح إلى البدن في غير وقت المسألة، كما في الحديث الذي صححه ابن عبد البرّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنّه قال: "ما من رجل يمرّ بقبر الرجل الذي كان يعرفه في الدنيا فيسلّم عليه، إلاّ ردّ اللَّه عليه روحه حتى يردّ عليه السّلام" . وفي سنن أبي داود وغيره عن أوس بن أبي أوس الثقفي، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "إن خير أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا عليَّ من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة، فإن صلاتكم معروضة عليّ" ، قالوا: يا رسول اللَّه? كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ فقال: "إن اللَّه حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء" ، وهذا الباب فيه من الأحاديث والآثار، ما يضيق هذا الوقت عن استقصائه، مما يبيّن أن الأبدان التي في القبور تنعم وتعذّب إذا شاء اللَّه ذلك كما يشاء، وأن الأرواح باقية بعد مفارقة البدن ومنعمة أو معذّبة، ولذا أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالسّلام على الموتى، كما ثبت في الصحيح والسنن أنه كان يعلّم
(6/132)
أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: "السّلام عليكم أهل الديار من المؤمنين، وإنّا إن شاء اللَّه بكم لاحقون، يرحم اللَّه المستقدمين منّا ومنكم والمستأخرين، نسأل اللَّه لنا ولكم العافية، اللَّهمّ لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم" . وقد انكشف لكثير من الناس ذلك حتى سمعوا صوت المعذّبين في قبورهم، ورأوهم بعيونهم يعذّبون في قبورهم في آثار كثيرة معروفة، ولكن لا يجب أن يكون دائمًا على البدن في كل وقت، بل يجوز أن يكون في حال.
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ترك قتلى بدر ثلاثًا ثمّ أتاهم فقام عليهم، فقال: "يا أبا جهل بن هشام، يا أُميّة بن خلف، يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة أليس قد وجدتم ما وعدكم ربّكم حقًّا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقًّا" ، فسمع عمر رضي اللَّه عنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول اللَّه كيف يسمعون وقد جيفوا؟ فقال: "والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا" ثم أمر بهم فسحبوا فألقوا في قليب بدر، وقد أخرجاه في الصحيحين عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم وقف على قليب بدر، فقال: "هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًّا" ؟ وقال: "إنهم ليسمعون الآن ما أقول" ، فذكر ذلك لعائشة فقالت: وَهِم ابن عمر، إنما قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنهم ليعلمون الآن أن الذي قلت لهم هو الحق" ، ثم قرأت قوله تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ، حتى قرأت الآية.
وأهل العلم بالحديث اتّفقوا على صحة ما رواه أنس وابن عمر، وإن كانا لم يشهدا بدرًا، فإن أنسًا روى ذلك عن أبي طلحة، وأبو طلحة شهد بدرًا كما روى أبو حاتم في صحيحه، عن أنس، عن أبي طلحة رضي اللَّه عنه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلاً من صناديد قريش، فقذفوا في طوى من أطواء بدر، وكان إذا ظهر على قوم أحبّ أن يقيم في عرصتهم ثلاث ليال، فلمّا كان اليوم الثالث أمر براحلته فشدّ عليها فحركها، ثم مشى وتبعه أصحابه، وقالوا: ما نراه ينطلق إلا لبعض حاجته، حتى قام على شفاء الركي، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: "يا فلان بن فلان، أيسرّكم أنكم أطعتم اللَّه ورسوله، فإنّا قد وجدنا ما وعدنا ربّنا حقًّا، فهل وجدتم ما وعدكم ربّكم حقًّا" ، قال عمر بن الخطاب: يا رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- ما تكلم من أجساد ولا أرواح فيها، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم :"والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم" ، قال قتادة: أحياهم اللَّه
(6/133)
حتى أسمعهم توبيخًا، وتصغيرًا، ونقمة، وحسرة، وتنديمًا، وعائشة قالت فيما ذكرته كما تأوّلت.
والنص الصحيح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مقدّم على تأويل من تأوّل من أصحابه وغيره، وليس في القرءان ما ينفى ذلك، فإن قوله تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ، إنما أراد به السماع المعتاد الذي ينفع صاحبه، فإن هذا مثل ضربه اللَّه للكفار، والكفار تسمع الصوت، لكن لا تسمع سماع قبول بفقه واتّباع؛ كما قال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} ، فهكذا الموتى الذين ضرب بهم المثل لا يجب أن ينفى عنهم جميع أنواع السماع، بل السماع المعتاد كما لم ينف ذلك عن الكفّار، بل انتفى عنهم السماع المعتاد الذي ينتفعون به. وأمّا سماع آخر فلا ينفى عنهم، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن الميّت يسمع خفق نعالهم، إذا ولّوا مدبرين، فهذا موافق لهذا فكيف يرفع ذلك"، انتهى محل الغرض من كلام أبي العباس ابن تيمية. وقد تراه صرّح فيه بأن تأوّل عائشة لا يردّ به النصّ الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم، وأنه ليس في القرءان ما ينفي السماع الثابت للموتى في الأحاديث الصحيحة.
وإذا علمت به أن القرءان ليس فيه ما ينفي السماع المذكور، علمت أنه ثابت بالنصّ الصحيح، من غير معارض.
والحاصل أن تأوّل عائشة رضي اللَّه عنها بعض آيات القرءان، لا تردّ به روايات الصحابة العدول الصحيحة الصريحة عنه صلى الله عليه وسلم، ويتأكّد، ذلك بثلاثة أمور:
الأول : هو ما ذكرناه الآن من أن رواية العدل لا تردّ بالتأويل.
الثاني : أن عائشة رضي اللَّه عنها لما أنكرت رواية ابن عمر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إنهم ليسمعون الآن ما أقول" ، قالت: إن الذي قاله صلى الله عليه وسلم: " إنهم ليعلمون الآن أن الذي كنت أقول لهم هو الحق" ، فأنكرت السماع ونفته عنهم، وأثبتت لهم العلم، ومعلوم أن من ثبت له العلم صحّ منه السماع، كما نبّه عليه بعضهم.
الثالث : هو ما جاء عنها مما يقتضي رجوعها عن تأويلها، إلى الروايات الصحيحة.
قال ابن حجر في "فتح الباري" : "ومن الغريب أن في المغازي لابن إسحاق رواية يونس بن بكير بإسناد جيّد، عن عائشة مثل حديث أبي طلحة، وفيه: "ما أنتمع بأسمع لما
(6/134)
لما أقول منهم" ، وأخرجه أحمد بإسناد حسن، فإن كان محفوظًا فكأنها رجعت عن الإنكار لما ثبت عندها من رواية هؤلاء الصحابة؛ لكونها لم تشهد القصّة"، انتهى منه. واحتمال رجوعها لما ذكر قوي، لأن ما يقتضي رجوعها ثبت بإسنادين.
قال ابن حجر: "إن أحدهما جيّد، والآخر حسن. ثم قال ابن حجر: قال الإسمعيلي: كان عند عائشة من الفهم والذكاء وكثرة الرواية والغوص على غوامض العلم، ما لا مزيد عليه، لكن لا سبيل إلى ردّ رواية الثقة إلا بنصّ مثله يدلّ على نسخه أو تخصيصه، أو استحالته"، انتهى محل الغرض من كلام ابن حجر.
وقال ابن القيّم في أوّل "كتاب الروح" : "المسألة الأولى: وهي هل تعرف الأموات زيارة الأحياء وسلامهم أم لا؟ قال ابن عبد البرّ: ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنّه قال: "ما من مسلم يمرّ على قبر أخيه كان يعرفه في الدنيا فيسلّم عليه، إلاّ ردّ اللَّه عليه روحه حتى يردّ عليه السّلام" ، فهذا نصّ في أنه يعرفه بعينه، ويردّ عليه السلام.
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم من وجوه متعدّدة: أنه أمر بقتلى بدر فألقوا في قليب، ثم جاء حتى وقف عليهم وناداهم بأسمائهم: "يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًّا، فإني وجدت ما وعدني ربّي حقًّا" ، فقال له عمر: يا رسول اللَّه ما تخاطب من أقوام قد جيفوا، فقال: "والذي بعثني بالحق، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنّهم لا يستطيعون جوابًا" ، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم: أن الميّت يسمع قرع نعال المشيّعين له إذا انصرفوا عنه، وقد شرّع النبيّ صلى الله عليه وسلم لأُمّته إذا سلّموا على أهل القبور، أن يسلّموا عليهم سلام من يخاطبونه، فيقول: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين" ، وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل، ولولا ذلك لكان هذا الخطاب بمنزلة خطاب المعدوم والجماد، والسلف مجمعون على هذا، وقد تواترت الآثار عنهم أن الميّت يعرف زيارة الحي له، ويستبشر له، قال أبو بكر عبد اللَّه بن محمّد بن عبيد بن أبي الدنيا في "كتاب القبور" :
باب في معرفة الموتى بزيارة الأحياء
حدّثنا محمّد بن عون، حدّثنا يحيبن يمان، عن عبد اللَّه بن سمعان، عن زيد بن أسلم، عن عائشة رضي اللَّه عنها، قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلاّ استأنس به وردّ عليه، حتى يقوم" . حدّثنا محمّد بن قدامة الجوهري، حدّثنا معن بن عيسى القزاز، أخبرنا هشام بن سعد، حدّثنا زيد بن أسلم، عن أبي هريرة
(6/135)
رضي اللَّه تعالى عنه، قال: إذا مرّ الرجل بقبر أخيه يعرفه فسلّم عليه ردّ عليه السلام وعرفه، وإذا مرّ بقبر لا يعرفه فسلّم عليه ردّ عليه السلام.
وذكر ابن القيّم في كلام أبي الدنيا وغيره آثارًا تقتضي سماع الموتى، ومعرفتهم لمن يزورهم، وذكر في ذلك مرائي كثيرًا جدًا، ثم قال: وهذه المرائي، وإن لم تصلح بمجرّدها لإثبات مثل ذلك، فهي على كثرتها، وأنها لا يحصيها إلا اللَّه قد تواطأت على هذا المعنى، وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أرى رؤياكم قد تواطأت على أنها في العشر الأواخر" ، يعني ليلة القدر، فإذا تواطأت رؤيا المؤمنين على شىء، كان كتواطىء روايتهم له، ومما قاله ابن القيّم في كلامه الطويل المذكور، وقد ثبت في الصحيح أن الميّت يستأنس بالمشيعين لجنازته بعد دفنه، فروى مسلم في صحيحه من حديث عبد الرحمن بن شماسة المهري، قال: حضرنا عمرو بن العاص، وهو في سياق الموت، فبكى طويلاً وحول وجهه إلى الجدار.. الحديث، وفيه: فإذا أنا متّ فلا تصحبني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني فسنّوا عليّ التراب سنًّا، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر الجزور، ويقسم لحمها، حتى أستأنس بكم وأنظر ماذا أراجع به رسل ربّي، فدلَّ على أن الميّت يستأنس بالحاضرين عند قبره ويسرّ بهم"، اهـ.
ومعلوم أن هذا الحديث له حكم الرفع، لأن استئناس المقبور بوجود الأحياء عند قبره لا مجال للرأي فيه. ومما قاله ابن القيم في كلامه الطويل المذكور: ويكفي في هذا تسمية المسلم عليهم زائرًا، ولولا أنهم يشعرون به لما صحّ تسميته زائرًا، فإن المزور إن لم يعلم بزيارة من زاره، لم يصح أن يقال: زاره، وهذا هو المعقول من الزيارة عند جميع الأُمم، وكذلك السلام عليهم أيضًا، فإن السلام على من لا يشعر ولا يعلم بالمسلم محال، وقد علّم النبيّ صلى الله عليه وسلم أُمته إذا زاروا القبور أن يقولوا: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنّا إن شاء اللَّه بكم لاحقون، يرحم اللَّه المستقدمين منّا ومنكم والمستأخرين، نسأل اللَّه لنا ولكم العافية" ، وهذا السلام والخطاب والنداء لموجود يسمع، ويخاطب، ويعقل، ويردّ، وإن لم يسمع المسلم الردّ.
ومما قاله ابن القيم في كلامه الطويل، قوله: وقد ترجم الحافظ أبو محمد عبد الحقّ الأشبيلي على هذا، فقال: ذكر ما جاء أن الموتى يسألون عن الأحياء، ويعرفون أقوالهم وأعمالهم، ثم قال: ذكر أبو عمر بن عبد البرّ من حديث ابن عباس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "ما من
(6/136)
رجل يمرّ بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه فيسلم عليه، إلاّ عرفه وردّ عليه السّلام" .
ويروى من حديث أبي هريرة مرفوعًا، قال: "فإن لم يعرفه وسلّم عليه ردّ عليه السلام" ، قال: ويروى من حديث عائشة رضي اللَّه عنها، أنّها قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما من رجل يزور قبر أخيه فيجلس عنده، إلاّ استأنس به حتى يقوم" ، واحتجّ الحافظ أبو محمد في هذا الباب بما رواه أبو داود في سننه، من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: " ما من أحد يسلّم عليّ إلاّ ردّ اللَّه عليّ روحي حتى أردّ عليه السّلام" . ثم ذكر ابن القيّم عن عبد الحق وغيره مرائي وآثارًا في الموضوع، ثم قال في كلامه الطويل: "ويدلّ على هذا أيضًا ما جرى عليه عمل الناس قديمًا وإلى الآن، من تلقين الميت في قبره ولولا أنه يسمع ذلك وينتفع به لم يكن فيه فائدة، وكان عبثًا. وقد سئل عنه الإمام أحمد رحمه اللَّه، فاستحسنه واحتجّ عليه بالعمل.
ويروى فيه حديث ضعيف: ذكر الطبراني في معجمه من حديث أبي أُمامة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا مات أحدكم فسوّيتم عليه التراب، فليقم أحدكم على رأس قبره، فيقول: يا فلان ابن فلانة" ، الحديث. وفيه: "اذكر ما خرجت عليه من الدنيا شهادة ألا إله إلا اللَّه، وأن محمّدًا رسول اللَّه، وأنك رضيت باللَّه ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمّد نبيًّا، وبالقرءان إمامًا" ، الحديث. ثم قال ابن القيّم: فهذا الحديث وإن لم يثبت، فاتّصال العمل به في سائر الأمصار والأعصار من غير إنكار كاف في العمل به، وما أجرى اللَّه سبحانه العادة قطّ، بأن أُمة طبقت مشارق الأرض ومغاربها، وهي أكمل الأُمم عقولاً، وأوفرها معارف تطبق على مخاطبة من لا يسمع، وتستحسن ذلك لا ينكره منها منكر بل سنه الأول للآخر، ويقتدي فيه الآخر بالأوّل، فلولا أن الخطاب يسمع لكان ذلك بمنزلة الخطاب للتراب، والخشب والحجر والمعدوم، وهذا وإن استحسنه واحد فالعلماء قاطبة على استقباحه واستهجانه.
وقد روى أبو داود في سننه بإسناد لا بأس به: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم حضر جنازة رجل، فلمّا دفن قال: "سلوا لأخيكم التثبيت، فإنه الآن يسأل" ، فأخبر أنه يسأل حينئذ، وإذا كان يسأل فإنه يسمع التلقين، وقد صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أن الميّت يسمع قرع نعالهم إذا ولّوا مدبرين. ثم ذكر ابن القيّم قصة الصعب بن جثامة، وعوف بن مالك، وتنفيذ عوف لوصية الصعب له في المنام بعد موته، وأثنى على عوف بن مالك بالفقه في تنفيذه وصية الصعب بعد موته، لما
(6/137)
علم صحة ذلك بالقرائن، وكان في الوصية التي نفذها عوف إعطاء عشرة دنانير ليهودي من تركة الصعب كانت دينًا له عليه، ومات قبل قضائها.
قال ابن القيّم: "وهذا من فقه عوف بن مالك رضي اللَّه عنه، وكان من الصحابة حيث نفذ وصية الصعب بن جثامة بعد موته، وعلم صحة قوله بالقرائن التي أخبره بها، من أن الدنانير عشرة وهي في القرن، ثم سأل اليهودي فطابق قوله ما في الرؤيا فجزم عوف بصحة الأمر، فأعطى اليهودي الدنانير، وهذا فقه إنما يليق بأفقه الناس وأعلمهم، وهم أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولعلّ أكثر المتأخرين ينكر ذلك، ويقول: كيف جاز لعوف أن ينقل الدنانير من تركة صعبة، وهي لأيتامه وورثته إلى يهودي بمنام. ثم ذكر ابن القيم تنفيذ خالد وأبي بكر الصديق رضي اللَّه عنهما، وصية ثابت بن قيس بن شماس رضي اللَّه عنه بعد موته، وفي وصيّته المذكورة قضاء دين عينه لرجل في المنام، وعتق بعض رقيقه، وقد وصف للرجل الذي رآه في منامه الموضع الذي جعل فيه درعه الرجل الذي سرقها، فوجدوا الأمر كما قال، وقصّته مشهورة.
وإذا كانت وصية الميّت بعد موته قد نفذها في بعض الصور أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك يدلّ على أنه يدرك ويعقل ويسمع، ثم قال ابن القيم في خاتمه كلامه الطويل: والمقصود جواب السائل وأن الميّت إذا عرف مثل هذه الجزئيات وتفاصيلها، فمعرفته بزيارة الحي له وسلامه عليه ودعائه له أولى وأحرى"، اهـ.
فكلام ابن القيم هذا الطويل الذي ذكرنا بعضه جملة وبعضه تفصيلاً، فيه من الأدلّة المقنعة ما يكفي في الدلالة على سماع الأموات، وكذلك الكلام الذي نقلنا عن شيخه أبي العباس بن تيمية، وفي كلامهما الذي نقلنا عنهما أحاديث صحيحة، وآثار كثيرة، ومرائي متواترة وغير ذلك، ومعلوم أن ما ذكرنا في كلام ابن القيّم من تلقين الميّت بعد الدفن، أنكره بعض أهل العلم، وقال: إنه بدعة، وأنه لا دليل عليه، ونقل ذلك عن الإمام أحمد وأنه لم يعمل به إلاّ أهل الشام، وقد رأيت ابن القيم استدلّ له بأدلّة، منها: أن الإمام أحمد رحمه اللَّه سئل عنه فاستحسنه. واحتجّ عليه بالعمل. ومنها: أن عمل المسلمين اتّصل به في سائر الأمصار والأعصار من غير إنكار. ومنها: أن الميّت يسمع قرع نعال الدافنين إذا ولّوا مدبرين، واستدلاله بهذا الحديث الصحيح استدلال قوي جدًّا؛ لأنه إذا كان في ذلك الوقت يسمع قرع النعال، فلأن يسمع الكلام الواضح بالتلقين من أصحاب النعال أولى
(6/138)
وأحرى، واستدلاله لذلك بحديث أبي داود: "سلوا لأخيكم التثبيت فإنه الآن يسأل" ، له وجه من النظر؛ لأنه إذا كان يسمع سؤال السائل فإنه يسمع تلقين الملقن، واللَّه أعلم.
والفرق بين سماعه سؤال الملك وسماعه التلقين من الدافنين محتمل احتمالاً قويًّا، وما ذكره بعضهم من أن التلقين بعد الموت لم يفعله إلا أهل الشام، يقال فيه: إنهم هم أول من فعله، ولكن الناس تبعوهم في ذلك، كما هو معلوم عند المالكية والشافعية. قال الشيخ الحطاب في كلامه على قول خليل بن إسحاق المالكي في مختصره: "وتلقينه الشهادة، وجزم النووي باستحباب التلقين بعد الدفن". وقال الشيخ زروق في شرح "الرسالة والإرشاد" ، وقد سئل عنه أبو بكر بن الطلاع من المالكية، فقال: "هو الذي نختاره ونعمل به، وقد روينا فيه حديثًا عن أبي أُمامة ليس بالقوي، ولكنه اعتضد بالشواهد، وعمل أهل الشام قديمًا"، إلى أن قال: "وقال في المدخل: ينبغي أن يتفقده بعد انصراف الناس عنه، من كان من أهل الفضل والدين، ويقف عند قبره تلقاء وجهه ويلقنه؛ لأن الملكين عليهما السلام، إذ ذاك يسألانه وهو يسمع قرع نعال المنصرفين".
وقد روى أبو داود في سننه عن عثمن رضي اللَّه عنه، قال: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميّت وقف عليه، وقال: "استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل" ، إلى أن قال: "وقد كان سيّدي أبو حامد بن البقال، وكان من كبار العلماء والصلحاء، إذا حضر جنازة عزى وليّها بعد الدفن، وانصرف مع من ينصرف، فيتوارى هنيهة حتى ينصرف الناس، ثم يأتي إلى القبر، فيذكرّ الميّت بما يجاوب به الملكين عليهما السلام، انتهى محل الغرض من كلام الحطاب. وما ذكره من كلام أبي بكر بن الطلاع المالكي له وجه قوي من النظر، كما سترى إيضاحه إن شاء اللَّه تعالى. ثم قال الحطاب: واستحب التلقين بعد الدفن أيضًا القرطبي والثعالبي وغيرهما، ويظهر من كلام الأبي في أوّل كتاب الجنائز يعني من صحيح مسلم، وفي حديث عمرو بن العاص في كتاب "الإيمان" ميل إليه"، انتهى من الحطاب. وحديث عمرو بن العاص المشار إليه، هو الذي ذكرنا محل الغرض منه في كلام ابن القيم الطويل المتقدّم.
قال مسلم في "صحيحه" : حدّثنا محمّد بن المثنى العنزي، وأبو معن الرقاشي، وإسحاق بن منصور، كلّهم عن أبي عاصم. واللفظ لابن المثنى: حدّثنا الضحاك، يعني أبا عاصم، قال: أخبرنا حيوة بن شريح، قال: حدّثني يزيد بن أبي حبيب، عن ابن شماسة
(6/139)
المهري، قال: حضرنا عمرو بن العاص، وهو في سياقة الموت، فبكى طويلاً وحوّل وجهه إلى الجدار"، الحديث. وقد قدّمنا محل الغرض منه بلفظه في كلام ابن القيّم المذكور، وقدّمنا أن حديث عمرو هذا له حكم الرفع، وأنه دليل صحيح على استئناس الميّت بوجود الأحياء عند قبره.
وقال النووي في "روضة الطالبين" ، ما نصّه: "ويستحبّ أن يلقن الميّت بعد الدفن، فيقال: يا عبد اللَّه ابن أمة اللَّه اذكر ما خرجت عليه من الدنيا: شهادة ألا إله إلاّ اللَّه، وأنّ محمّدًا رسول اللَّه، وأنَّ الجنّة حقّ، وأن النار حقّ، وأن البعث حقّ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن اللَّه يبعث من في القبور، وأنت رضيت باللَّه ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا، وبالقرءان إمامًا، وبالكعبة قبلة، وبالمؤمنين إخوانًا، وردّ به الخبر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
قلت: هذا التلقين استحبّه جماعات من أصحابنا، منهم القاضي حسين، وصاحب التتمة، والشيخ نصر المقدسي في كتابه "التهذيب" وغيرهم، ونقله القاضي حسين عن أصحابنا مطلقًا، والحديث الوارد فيه ضعيف، لكن أحاديث الفضائل يتسامح فيها عند أهل العلم من المحدثين وغيرهم، وقد اعتضد هذا الحديث بشواهد من الأحاديث الصحيحة؛ كحديث: "اسألوا له التثبيت" ، ووصية عمرو بن العاص: أقيموا عند قبري قدر ما تنحر جزور، ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم وأعلم ماذا أراجع به رسل ربّي، رواه مسلم في صحيحه، ولم يزل أهل الشام على العمل بهذا التلقين، من العصر الأول، وفي زمن من يقتدى به"، اهـ محل الغرض من كلام النووي.
وبما ذكر ابن القيّم وابن الطلاع، وصاحب المدخل من المالكية، والنووي من الشافعية، كما أوضحنا كلامهم تعلم أن التلقين بعد الدفن له وجه قوي من النظر؛ لأنه جاء فيه حديث ضعيف، واعتضد بشواهد صحيحة، وبعمل أهل الشام قديمًا، ومتابعة غيرهم لهم.
وبما علم في علم الحديث من التساهل في العمل بالضعيف، في أحاديث الفضائل، ولا سيّما المعتضد منها بصحيح، وإيضاح شهادة الشواهد له أن حقيقة التلقين بعد الدفن، مركبة من شيئين:
أحدهما : سماع الميّت كلام ملقنه بعد دفنه.
(6/140)
والثاني : انتفاعه بذلك التلقين، وكلاهما ثابت في الجملة، أما سماعه لكلام الملقن فيشهد له سماعه لقرع نعل الملقن الثابت في الصحيحين، وليس سماع كلامه بأبعد من سماع قرع نعله؛ كما ترى. وأمّا انتفاعه بكلام الملقن، فيشهد له انتفاعه بدعاء الحي وقت السؤال في حديث: "سلوا لأخيكم التثبيت فإنه يسأل الآن" ، واحتمال الفرق بين الدعاء والتلقين قوى جدًا كما ترى، فإذا كان وقت السؤال ينتفع بكلام الحي الذي هو دعاؤه له، فإن ذلك يشهد لانتفاعه بكلام الحي الذي هو تلقينه إياه، وإرشاده إلى جواب الملكين، فالجميع في الأول سماع من الميت لكلام الحي، وفي الثاني انتفاع من الميت بكلام الحي وقت السؤال، وقد علمت قوة احتمال الفرق بين الدعاء والتلقين.
وفي ذلك كله دليل على سماع الميّت كلام الحي، ومن أوضح الشواهد للتلقين بعد الدفن السّلام عليه، وخطابه خطاب من يسمع، ويعلم عند زيارته، كما تقدّم إيضاجه؛ لأن كلاًّ منهما خطاب له في قبره، وقد انتصر ابن كثير رحمه اللَّه في تفسير سورة "الروم" ، في كلامه على قوله تعالى: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} ، إلى قوله: {فَهُمْ مُسْلِمُونَ} ، لسماع الموتى، وأورد في ذلك كثيرًا من الأدلّة التي قدمنا في كلام ابن القيّم، وابن أبي الدنيا وغيرهما، وكثيرًا من المرائي الدالَّة على ذلك، وقد قدّمنا الحديث الدالّ على أن المرائي إذا تواترت أفادت الحجّة، ومما قال في كلامه المذكور: وقد استدلّت أُمّ المؤمنين عائشة رضي اللَّه عنها بهذه الآية: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ، على توهيم عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما، في روايته مخاطبة النبيّ صلى الله عليه وسلم القتلى الذين ألقوا في قليب بدر بعد ثلاثة أيام، إلى أن قال: "والصحيح عند العلماء رواية عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما، لما لها من الشواهد على صحتها، من أشهر ذلك ما رواه ابن عبد البرّ مصحّحًا له عن ابن عباس مرفوعًا: "ما من أحد يمرّ بقبر أخيه المسلم كان يعرفه" ، الحديث.
وقد قدّمناه في هذا المبحث مرارًا، وبجميع ما ذكرنا في هذا المبحث، في الكلام على آية "النمل" هذه، تعلم أن الذي يرجّحه الدليل: أن الموتى يسمعون سلام الأحياء وخطابهم سواء قلنا: إن اللَّه يردّ عليهم أرواحهم حتى يسمعوا الخطاب ويردّوا الجواب، أو قلنا: إن الأرواح أيضًا تسمع وتردّ بعد فناء الأجسام، لأنا قد قدّمنا أن هذا ينبني على مقدّمتين، ثبوت سماع الموتى بالسنة الصحيحة، وأن القرءان لا يعارضها على التفسير
(6/141)
الصحيح الذي تشهد له القرائن القرءانيّة، واستقراء القرءان، وإذا ثبت ذلك بالسنة الصحيحة من غير معارض من كتاب، ولا سنّة ظهر بذلك رجحانه على تأوّل عائشة رضي اللَّه عنها، ومن تبعها بعض آيات القرءان، كما تقدّم إيضاحه. وفي الأدلّة التي ذكرها ابن القيّم في كتاب الروح على ذلك مقنع للمنصف، وقد زدنا عليها ما رأيت، والعلم عند اللَّه تعالى.
قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ} .
ظاهر هذه الآية الكريمة خصوص الحشر بهذه الأفواج المكذبة بآيات اللَّه، ولكنه قد دلَّت آيات كثيرة على عموم الحشر لجميع الخلائق؛ كقوله تعالى بعد هذا بقليل: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} ، وقوله تعالى: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} ، وقوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} ، وقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} ، إلى غير ذلك من الآيات.
وقد أوضحنا في كتابنا "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب" ، في آية "النمل" هذه، في الكلام على وجه الجمع بين قوله تعالى فيها: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً} الآية، وبين قوله تعالى: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دخِرِينَ} ، ونحوها من الآيات، وذكرنا قول الألوسي في تفسيره أن قوله: {كُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} في الحشر العام لجميع الناس للحساب والجزاء. وقوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً} ، في الحشر الخاص بهذه الأفواج المكذبة؛ لأجل التوبيخ المنصوص عليه في قوله هنا: {حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْماً} ، وهذا يدلّ عليه القرءان، كما ترى.
وقال بعضهم: هذه الأفواج التي تحشر حشرًا خاصًّا هي رؤساء أهل الضلال وقادتهم، وعليه فالآية كقوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً * ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً} ، والفوج: الجماعة من الناس. ومنه قوله تعالى: {يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً} ، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {فَهُمْ يُوزَعُونَ} ، أي: يردّ أوّلهم على
(6/142)
آخرهم حتى يجتمعوا، ثم يدفعون جميعًا، كما قاله غير واحد.
قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْماً أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة: "أي يسألون عن اعتقادهم وأعمالهم، ومقصوده بسؤالهم عن اعتقادهم قوله تعالى: {أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي} ، لأن التصديق بآيات اللَّه التي هي هذا القرءان من عقائد الإيمان التي لا بدّ منها، كما هو معلوم في حديث جبريل وغيره، ومقصوده بسؤالهم عن أعمالهم قوله تعالى: {أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ، والسؤال المذكور سؤال توبيخ وتقريع، فقد وبّخهم تعالى فيه على فساد الاعتقاد، وفساد الأعمال، والتوبيخ عليهما معًا المذكور هنا جاء مثله في قوله تعالى: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} ، كما أشار له ابن كثير رحمه اللَّه، فقوله تعالى: {فَلا صَدَّقَ} ، وقوله: {وَلَكِنْ كَذَّبَ} ، توبيخ على فساد الاعتقاد. وقوله: {وَلا صَلَّى} : توبيخ على إضاعة العمل.
قوله تعالى: {وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ} .
الظاهر أن القول الذي وقع عليهم هو كلمة العذاب، كما يوضحه قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} ، ونحو ذلك من الآيات.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ} ، ظاهره أن الكفار لا ينطقون يوم القيامة؛ كما يفهم ذلك من قوله تعالى: {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} ، وقوله تعالى: {نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً} ، مع أنه بيّنت آيات أُخر من كتاب اللَّه أنهم ينطقون يوم القيامة ويعتذرون؛ كقوله تعالى عنهم: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} ، وقوله تعالى عنهم: {فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} ، وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً} ، وقوله تعالى عنهم: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} ،وقوله تعالى: {وَنَادَوْا يَا
(6/143)
مَالِكُ} ، إلى غير ذلك من الآيات الدالَّة على كلامهم يوم القيامة.
وقد بيَّنا الجواب عن هذا في كتابنا "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب" ، في سورة "المرسلات" ، في الكلام على قوله تعالى: {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ} ، وما ذكرنا من الآيات. فذكرنا أن من أوجه الجواب عن ذلك أن القيامة مواطن، ففي بعضها ينطقون، وفي بعضها لا ينطقون، فإثبات النطق لهم ونفيه عنهم كلاهما منزل على حال ووقت غير حال الآخر ووقته. ومنها أن نطقهم المثبت لهم خاص بما لا فائدة لهم فيه، والنطق المنفي عنهم خاص بما لهم فيه فائدة ومنها غير ذلك، وقد ذكرنا شيئًا من أجوبة ذلك في "الفرقان" و "طه" ، و "الإسراء" قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .
قد قدَّمنا الآيات الموضحة له في سورة "بني إسرائيل" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ} .
قوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} .
قد قدّمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمّنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولاً، ويكون في الآية قرينة تدلّ على بطلان ذلك القول، وذكرنا في ترجمته أيضًا أن من أنواع البيان التي تضمّنها الاستدلال على المعنى، بكونه هو الغالب في القرءان؛ لأن غلبته فيه، تدلّ على عدم خروجه من معنى الآية، ومثلنا لجميع ذلك أمثلة متعدّدة في هذا الكتاب المبارك، والأمران المذكوران من أنواع البيان قد اشتملت عليهما معًا آية "النمل" هذه.
وإيضاح ذلك أن بعض الناس قد زعم أن قوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} ، يدلّ على أن الجبال الآن في دار الدنيا يحسبها رائيها جامدة، أي: واقفة ساكنة غير متحركة، وهي تمرّ مر السحاب، ونحوه قول النابغة يصف جيشًا:
بأرعن مثل الطود تحسب أنهم ... وقوف لحاج والركاب تهملج
والنوعان المذكوران من أنواع البيان، يبينان عدم صحة هذا القول.
(6/144)
أمّا الأول منهما: وهو وجود القرينة الدالَّة على عدم صحته، فهو أن قوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ} معطوف على قوله: {فَفَزِعَ} ، وذلك المعطوف عليه مرتّب بالفاء على قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} ، أي: ويوم ينفخ في الصور، فيفزع من في السماواتوترى الجبال، فدلّت هذه القرينة القرءانية الواضحة على أن مرّ الجبال مرّ السحاب كائن يوم ينفخ في الصور، لا الآن.
وأمّا الثاني: وهو كون هذا المعنى هو الغالب في القرءان فواضح؛ لأن جميع الآيات التي فيها حركة الجبال كلّها في يوم القيامة؛ كقوله تعالى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً} ، وقوله تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} ، وقوله تعالى: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً} ، وقوله تعالى: {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} ، جاء نحوه في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} ، وقوله تعالى: {طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} ، وتسيير الجبال وإيجادها ونصبها قبل تسييرها، كل ذلك صنع متقن.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} ، قد قدّمنا الآيات التي بمعناه في أوّل سورة "هود" ، في الكلام على قوله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} ، إلى قوله: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} .
قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} .
اعلم: أن الحسنة في هذه الآية الكريمة، تشمل نوعين من الحسنات:
الأول: حسنة هي فعل خير من أفعال العبد، كالإنفاق في سبيل اللَّه، وبذل النفس والمال في إعلاء كلمة اللَّه، ونحو ذلك، ومعنى قوله تعالى: {فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} ، بالنسبة إلى هذا النوع من الحسنات، أن الثواب مضاعف، فهو خير من نفس العمل؛ لأن من أنفق درهمًا واحدًا في سبيل اللَّه فأعطاه اللَّه ثواب هو سبعمائة درهم فله عند اللَّه ثواب هو سبعمائة درهم مثلاً، خير من الحسنة التي قدمها التي هي إنفاق درهم واحد، وهذا لا إشكال فيه كما ترى.
(6/145)
وهذا المعنى توضحه آيات من كتاب اللَّه؛ كقوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} ، ومعلوم أن عشر أمثال الحسنة خير منها هي وحدها؛ وكقوله تعالى: {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} ، وقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} .
وأمّا النوع الثاني من الحسنة: فكقول من قال من أهل العلم: إن المراد بالحسنة في هذه الآية: لا إله إلاّ اللَّه، ولا يوجد شىء خير من لا إله إلا اللَّه، بل هي أساس الخير كلّه، والذي يظهر على هذا المعنى أن لفظة {خَيْرٌ} ليست صيغة تفضيل.
وأن المعنى: {فَلَهُ خَيْرٌ} عظيم عند اللَّه حاصل له منها، أي: من قبلها ومن أجلها، وعليه فلفظة {مَنْ} في الآية؛ كقوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً} ، أي: من أجل خطيآتهم أغرقوا، فأدخلوا نارًا. وأمّا على الأول فخير صيغة تفضيل، ويحتمل عندي أن لفظة {خَيْرٌ} على الوجه الثاني صيغة تفضيل أيضًا، ولا يراد بها تفضيل شىء على لا إله إلاّ اللَّه، بل المراد أن كلمة لا إله إلاّ اللَّه تعبَّد بها العبد في دار الدنيا، وتعبُّده بها فعله المحض، وقد أثابه اللَّه في الآخرة على تعبُّدِهِ بها، وإثابة اللَّه فعله جلَّ وعلا، ولا شكّ أن فعل اللَّه خير من فعل عبده، والعلم عند اللَّه تعالى.
قوله تعالى: {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} .
دلَّت على معناه آيات من كتاب اللَّه؛ كقوله تعالى في أمنهم من الفزع: {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} ، وقوله تعالى في أمنهم: {فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} ، وقوله تعالى: {عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمَّنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِى} ، وقوله تعالى: {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ} ، قرأه عاصم، وحمزة، والكسائي بتنوين {فَزَعٍ} ، وفتح ميم {يَوْمَئِذٍ} ، وقرأه الباقون بغير تنوين، بل بالإضافة إلى {يَوْمَئِذٍ} ، إلاّ أن نافعًا قرأ بفتح ميم {يَوْمَئِذٍ} مع إضافة {فَزَعٍ} إليه، وقرأ ابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو بإضافة {فَزَعٍ} إلى {يَوْمئِذٍ} مع كسر ميم {يَوْمئِذٍ} ، وفتح الميم وكسرها من نحو {يَوْمَئِذٍ} ، قد أوضحناه بلغاته وشواهده العربية مع بيان المختار من اللغات في سورة
(6/146)
"مريم" ،في الكلام على قوله تعالى: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ} .
قوله تعالى: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
قال ابن كثير رحمه اللَّه في تفسير هذه الآية: "وقال ابن مسعود، وابن عباس، وأبو هريرة، وأنس بن مالك رضي اللَّه عنهم، وعطاء، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد، وإبراهيم النخعي، وأبو وائل، وأبو صالح، ومحمد بن كعب، وزيد بن أسلم، والزهري، والسدي، والضحاك، والحسن، وقتادة، وابن زيد، في قوله تعالى: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} ، يعني: الشرك.
وهذه الآية الكريمة تضمّنت أمرين:
الأول : أن من جاء ربّه يوم القيامة بالسيئة كالشرك يكبّ وجهه في النار.
والثاني : أن السيّئة إنما تجزى بمثلها من غير زيادة، وهذان الأمران جاءا موضحين في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالى في الأوّل منهما: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} ، وكقوله تعالى في الثاني منهما: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} ، وقوله تعالى: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، وقوله تعالى: {جَزَاءً وِفَاقاً} .
وإذا علمت أن السيئات لا تضاعف، فاعلم أن السيئة قد تعظم فيعظم جزاؤها بسبب حرمة المكان؛ كقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} ، أو حرمة الزمان؛ كقوله تعالى في الأشهر الحرام: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} .
وقد دلَّت آيات من كتاب اللَّه أن العذاب يعظم بسبب عظم الإنسان المخالف؛ كقوله تعالى في نبيّنا صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} ، وقوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ *
(6/147)
لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} ، وكقوله تعالى في أزواجه صلى الله عليه وسلم: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} ، وقد قدّمنا طرفًا من الكلام على هذا، في الكلام على قوله تعالى: {إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} ، مع تفسير الآية، ومضاعفة السيّئة المشار إليها في هاتين الآيتين، إن كانت بسبب عظم الذنب، حتى صار في عظمه كذنبين، فلا إشكال، وإن كانت مضاعفة جزاء السيّئة كانت هاتان الآيتان مخصّصتين للآيات المصرّحة، بأن السيئة لا تجزى إلا بمثلها، والجميع محتمل، والعلم عند اللَّه تعالى.
قوله تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ} .
جاء معناه موضحًا في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} ، وقوله تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} ، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} .
قد قدّمنا الآيات التي فيها زيادة إيضاح لقوله: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ،في سورة "الأنعام" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} .
وقد قدّمنا الآيات الموضحة لقوله تعالى هنا: {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} ، في سورة "الكهف" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ} .
قوله تعالى: {وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ} جاء معناه مبيّنًا في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} ، وقوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} ، وقوله تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} ، إلى غير ذلك من الآيات.
(6/148)
قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} .
جاء معناه في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} .
قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} .
جاء معناه موضحًا في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} ، إلى غير ذلك من الآيات.
وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عامص: {عَمَّا تَعْمَلُونَ} بتاء الخطاب، وقرأ الباقون {عَمَّا يَعْمَلُونَ} بياء الغيبة.
تم بحمد الله تفسير سورة النمل من آية14 الي22. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مدونة قانون الحق مكررة مشمولة

قال الشَّيْخ أَبُو عَمْرو بْن الصَّلَاح رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى فِي الظَّوَاهِر الْوَارِدَة بِدُخُولِ الْجَنَّة بِمُجَرَّدِ الشَّهَادَة ...