نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}}

 نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}

Translate واقي ان

الأربعاء، 8 فبراير 2023

نفسير سورة النمل من الاية {من 23 الي 35.}


تفسر سورة النمل من 23 الي35.

إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)

 

النمل - تفسير ابن كثير

إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)

{ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24) أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) }

يقول تعالى: { فَمَكَثَ } الهدهد { غَيْرَ بَعِيدٍ } أي: غاب زمانًا يسيرًا، ثم جاء فقال لسليمان: { أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ } أي: اطلعت على ما لم تطلع عليه أنت ولا جنودك ، { وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ } أي: بخبر صدق حق يقين.

وسبأ: هم: حِمْير، وهم ملوك اليمن.

ثم قال: { إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ } ، قال الحسن البصري: وهي بلقيس بنت شَرَاحيل ملكة سبأ.

وقال قتادة: كانت أمها جنية، وكان مُؤخَّر قدميها مثل حافر الدابة، من بيت مملكة.

وقال زهير بن محمد: وهي بلقيس بنت شَرَاحيل بن مالك بن الريان، وأمها فارعة الجنية.

وقال ابن جُرَيْج: بلقيس بنت ذي شرخ، وأمها يلتقة.

وقال ابن أبى حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا مُسَدَّد، حدثنا سفيان -يعني ابن عيينة -عن عطاء بن السائب، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: كان مع صاحبة (1) سليمان ألف قَيْل، تحت كل قيل مائة ألف [مقاتل] (2) .

وقال الأعمش، عن مجاهد: كان تحت يدي ملكة سبأ اثنا عشر ألف قَيْل، تحت كل قيل: مائة ألف مقاتل.

وقال عبد الرزاق: أنبأنا (3) مَعْمَر، عن قتادة في قوله: { إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ } : كانت من بيت مملكة، وكان أولو مشورتها ثلاثمائة واثني عشر رجلا كل رجل منهم على عشرة آلاف رجل. وكانت بأرض يقال لها مأرب، على ثلاثة أميال من صنعاء.

وهذا القول هو أقرب، على أنه كثير على مملكة اليمن، والله أعلم.

وقوله: { وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } أي: من متاع الدنيا ما (4) يحتاج إليه الملك المتمكن ، { وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ }

__________

(1) في ف: "كان لصاحبه".

(2) زيادة من ف، أ.

(3) في ف: "عن".

(4) في ف: "مما".

(6/186)

يعني: سرير تجلس عليه عظيم هائل مزخرف بالذهب، وأنواع الجواهر واللآلئ.

قال زهير بن محمد: كان من ذهب صفحتاه، مرمول بالياقوت والزبرجد. [طوله ثمانون ذراعًا، وعرضه أربعون ذراعًا.

وقال محمد بن إسحاق: كان من ذهب مفصص بالياقوت والزبرجد] (1) واللؤلؤ، وكان إنما يخدمها النساء، لها ستمائة امرأة تلي الخدمة (2) .

قال علماء التاريخ: وكان هذا السرير في قصر عظيم مشيد رفيع البناء محكم، كان فيه ثلاثمائة وستون طاقة من شرقه ومثلها من غربه (3) ، قد وضع بناؤه على أن تدخل الشمس كل يوم من طاقة، وتغرب من مقابلتها، فيسجدون لها صباحًا ومساءً؛ ولهذا قال: { وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ } أي: عن طريق الحق، { فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ } .

وقوله: { أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ } [معناه: { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ } ] (4) أي: لا يعرفون سبيل الحق التي هي إخلاص السجود لله وحده دون ما خلق من شيء من الكواكب وغيرها، كما قال تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [فصلت: 37].

وقرأ بعض القراء: "ألا يا اسجدوا لله" جعلها "ألا" الاستفتاحية، و"يا" للنداء، وحذف المنادى، تقديره عنده: "ألا يا قوم، اسجدوا لله".

وقوله: { الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } : قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: يعلم كل خبيئة في السماء والأرض. وكذا قال عكرمة، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، وغير واحد.

وقال سعيد بن المسيب: الخَبْء: الماء. وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: خبء السموات والأرض: ما جعل فيها من الأرزاق: المطر من السماء، والنبات من الأرض.

وهذا مناسب من كلام الهدهد، الذي جعل الله فيه من الخاصية ما ذكره ابن عباس وغيره، من أنه يرى الماء يجري في تخوم الأرض ودواخلها.

وقوله: { وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } أي: يعلم ما يخفيه العباد، وما يعلنونه من الأقوال والأفعال. وهذا كقوله تعالى: { سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ } [الرعد: 10].

__________

(1) زيادة من ف، أ.

(2) في ف: "امرأة تليها".

(3) في ف: "من شرقية ومثلها من غربية".

(4) زيادة من ف، أ.

(6/187)

قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)

وقوله: { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } أي: هو المدعو الله، وهو الذي لا إله إلا هو رب العرش العظيم، الذي ليس في المخلوقات أعظم منه.

ولما كان الهدهد داعيا إلى الخير، وعبادة الله وحده والسجود له، نهي عن قتله، كما رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل أربع من الدواب: النملة والنحلة والهدهد والصُّرَد. وإسناده صحيح (1) .

{ قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) } .

يخبر تعالى عن قيل سليمان، عليه السلام، للهدهد حين أخبره عن أهل سبأ وملكتهم: { قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } أي: أصدقت (2) في إخبارك هذا، { أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } في مقالتك، فتتخلص (3) من الوعيد الذي أوعدتك؟.

{ اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِه إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ } : وذلك أن سليمان، عليه السلام، كتب كتابًا إلى بلقيس وقومها. وأعطاه لذلك الهدهد فحمله، قيل: في جناحه كما هي عادة الطير، وقيل: بمنقاره. وذهب إلى بلادهم فجاء إلى قصر بلقيس، إلى الخلوة التي كانت تختلي فيها بنفسها، فألقاه إليها من كُوّة هنالك (4) بين يديها، ثم تولى ناحية أدبًا ورياسة، فتحيرت مما رأت، وهالها ذلك، ثم عمدت إلى الكتاب فأخذته، ففتحت ختمه وقرأته، فإذا فيه: { إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } فجمعت عند ذلك أمراءها ووزراءها وكبراء دولتها ومملكتها، ثم قالت لهم: { يَا أَيُّهَا الْمَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ } تعني بكرمه: ما رأته من عجيب أمره، كون طائر أتى به (5) فألقاه إليها، ثم تولى عنها أدبًا. وهذا أمر لا يقدر عليه أحد من الملوك، ولا سبيل لهم إلى ذلك، ثم قرأته عليهم.

{ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } .فعرفوا أنه من نبي الله سليمان، وأنه لا قبَل لهم به. وهذا الكتاب في غاية البلاغة والوجازة والفصاحة، فإنه حَصّل المعنى بأيسر عبارة وأحسنها، قال العلماء: ولم يكتب أحد { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } قبل سليمان، عليه السلام.

وقد روى ابن أبي حاتم في ذلك حديثًا في تفسيره، حيث قال: حدثنا أبي، حدثنا هارون بن الفضل (6) أبو يعلى الحناط (7) ، حدثنا أبو يوسف، عن سلمة بن صالح، [عن عبد الكريم] (8) أبي أمية، عن ابن بُرَيدة، عن أبيه قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إني أعلم آية لم

__________

(1) لم أجده من حديث أبي هريرة إلا عند ابن ماجه في السنن برقم (3223) بلفظ: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الصرد والضفدع والنملة والهدهد". وهو بهذا اللفظ من حديث ابن عباس في مسند الإمام أحمد ( 1/332) وسنن أبي داود برقم (5267) وسنن ابن ماجه برقم (3224) .

(2) في ف: "صدقت".

(3) في ف: "لتتخلص".

(4) في ف، أ: "هناك".

(5) في ف، أ: "جاء به".

(6) في أ: "المفضل".

(7) في ف، أ: "الخياط".

(8) زيادة من ف، أ.

(6/188)

قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)

تنزل على نبي قبلي بعد سليمان بن داود" قال: قلت: يا رسول الله، أي آية؟ قال: "سأعلمكها قبل أن أخرج من المسجد". قال: فانتهى إلى الباب، فأخرج إحدى قدميه، فقلت: نسي، ثم التفت إلي وقال { إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } (1) .

هذا حديث غريب، وإسناده ضعيف.

وقال ميمون بن مِهْرَان: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب: باسمك اللهم، حتى نزلت هذه الآية، فكتب: { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } .

وقوله: { أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ } : يقول (2) قتادة: لا تجيروا علي { وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } .

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لا تمتنعوا ولا تتكبروا علي.

{ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } : قال ابن عباس: موحدين. وقال غيره: مخلصين. وقال سفيان بن عُيَيْنَة: طائعين.

{ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) } .

لما قرأت عليهم كتاب سليمان استشارتهم في أمرها، وما قد نزل بها؛ ولهذا قالت: { يَا أَيُّهَا الْمَلأ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ } أي: حتى تحضرون وتشيرون.

{ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ } أي: مَنوا إليها بعَدَدهم وعددهم وقوتهم، ثم فوضوا إليها بعد ذلك الأمر فقالوا: { وَالأمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ } أي: نحن ليس لنا عاقة [ولا بنا بأس، إن شئت أن تقصديه وتحاربيه، فما لنا عاقة] (3) عنه. وبعد هذا فالأمر (4) إليك، مري فينا برأيك (5) نمتثله ونطيعه.

قال الحسن البصري، رحمه الله: فوضوا أمرهم إلى عِلْجة تضطرب ثدياها، فلما قالوا لها ما قالوا، كانت هي أحزم رأيًا منهم، وأعلم بأمر سليمان، وأنه (6) لا قبل لها بجنوده وجيوشه، وما سُخّر له من الجن والإنس والطير، وقد شاهَدَت من قضية الكتاب مع الهدهد أمرًا عجيبًا بديعًا، فقالت لهم: إني أخشى أن نحاربه ونمتنع عليه، فيقصدنا بجنوده، ويهلكنا بمن معه، ويخلص إليّ وإليكم الهلاك والدمار دون غيرنا؛ ولهذا قالت: { إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا } .

__________

(1) ورواه أبو نعيم في تاريخ أصفهان (2/187) من طريق الحسين بن حفص عن أبي يوسف به.

(2) في ف: "قال".

(3) زيادة من ف، أ.

(4) في أ: "وبعدها فالأمر".

(5) في ف: "رأيك".

(6) في ف: "وأنها".

(6/189)

قال ابن عباس: أي إذا دخلوا بلدًا (1) عنْوَة أفسدوه، أي: خَرّبوه، { وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً } أي: وقصدوا من فيها من الولاة والجنود، فأهانوهم غاية الهوان، إما بالقتل أو بالأسر.

قال ابن عباس: قالت بلقيس: { إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً } (2) ، قال الرب، عز وجل { وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } . ثم عدلت إلى المهادنة والمصالحة والمسالمة والمخادعة والمصانعة، فقالت: { وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ } أي: سأبعث إليه بهدية تليق به (3) وأنظر ماذا يكون جوابه بعد ذلك، فلعله يقبل ذلك ويكف عنا، أو يضرب علينا خَرَاجا نحمله إليه في كل عام، ونلتزم له بذلك ويترك قتالنا ومحاربتنا. قال قتادة: رحمها الله ورضي عنها، ما كان أعقلها في إسلامها وفي شركها!! علمت أن الهدية تقع موقعًا من الناس.

وقال ابن عباس وغير واحد: قالت لقومها: إن قبل الهدية فهو ملك فقاتلوه، وإن لم يقبلها فهو نبي فاتبعوه.

__________

(1) في أ: "بلدة".

(2) في ف، أ: "أذلة وكذلك يفعلون".

(3) في ف: "بمثله".

---------------

 

النمل - تفسير القرطبي

الآية: [23] {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ}

الآية: [24] {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ}

الآية: [25] {أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}

الآية: [26] {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}

الآية: [27] {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}

الآية: [28] {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ}

فيه ثمان عشرة مسألة:

الأولى- قوله تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ} ذكر شيئا آخر مما جرى له في مسيره الذي كان فيه من النمل ما تقدم. والتفقد تطلب ما غاب عنك من شيء. والطير اسم جامع والواحد طائر، والمراد بالطير هنا جنس الطير وجماعتها. وكانت تصحبه في سفره وتظله بأجنحتها. واختلف الناس في معنى تفقده للطير؛ فقالت فرقة: ذلك بحسب ما تقتضيه العناية بأمور الملك، والتهمم بكل جزء منها؛ وهذا ظاهر الآية. وقالت فرقة: بل تفقد الطير لأن الشمس دخلت من موضع الهدهد حين غاب؛ فكان ذلك سبب تفقد الطير؛ ليتبين من أين دخلت الشمس. وقال عبدالله بن سلام: إنما طلب الهدهد لأنه احتاج إلى معرفة الماء على كم هو من وجه الأرض؛ لأنه كان نزل في مفازة عدم فيها الماء، وأن الهدهد كان يرى باطن الأرض وظاهرها؛ فكان يخبر سليمان بموضع الماء، ثم كانت الجن تخرجه في ساعة يسيرة؛ تسلخ عنه وجه الأرض كما تسلخ الشاة؛ قاله ابن عباس فيما روي عن ابن سلام. قال أبو مجلز قال ابن عباس لعبدالله بن سلام: أريد أن أسألك عن ثلاث مسائل. قال: أتسألني وأنت تقرأ القرآن؟ قال: نعم ثلاث مرات. قال: لم تفقد سليمان الهدهد دون

(13/177)

سائر الطير؟ قال: احتاج إلى الماء ولم يعرف عمقه - أو قال مسافته - وكان الهدهد يعرف ذلك دون سائر الطير فتفقده. وقال في كتاب النقاش: كان الهدهد مهندسا. وروي أن نافع بن الأزرق سمع ابن عباس يذكر شأن الهدهد فقال له: قف يا وقاف كيف يرى الهدهد باطن الأرض وهو لا يرى الفخ حين يقع فيه؟! فقال له ابن عباس: إذا جاء القدر عمي البصر. وقال مجاهد: قيل لابن عباس كيف تفقد الهدهد من الطير؟ فقال: نزل منزلا ولم يدر ما بعد الماء، وكان الهدهد مهتديا إليه، فأراد أن يسأله. قال مجاهد: فقلت كيف يهتدي والصبي يضع له الحبالة فيصيده؟ قال: إذا جاء القدر عمي البصر. قال ابن العربي: ولا يقدر على هذا الجواب إلا عالم القرآن.

قلت: هذا الجواب قد قاله الهدهد لسليمان كما تقدم. وأنشدوا:

إذا أراد الله أمرا بامرئ ... وكان ذا عقل ورأي ونظر

وحيلة يعملها في دفع ما ... يأتي به مكروه أسباب القدر

غطى عليه سمعه وعقله ... وسله من ذهنه سل الشعر

حتى إذا أنفذ فيه حكمه ... رد عليه عقله ليعتبر

قال الكلبي: لم يكن له في مسيره إلا هدهد واحد. والله أعلم.

الثانية- في هذه الآية دليل على تفقد الإمام أحوال رعيته؛ والمحافظة عليهم. فانظر إلى الهدهد مع صغره كيف لم يخف على سليمان حاله، فكيف بعظام الملك. ويرحم الله عمر فإنه كان على سيرته؛ قال: لو أن سخلة على شاطئ الفرات أخذها الذئب ليسأل عنها عمر. فما ظنك بوال تذهب على يديه البلدان، وتضيع الرعية ويضيع الرعيان. وفي الصحيح عن عبدالله بن عباس أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام، حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد: أبو عبيدة وأصحابه فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام. الحديث؛ قال علماؤنا: كان هذا الخروج من عمر بعد ما فتح بيت المقدس سنة سبع عشرة على ما ذكره خليفة بن خياط.

(13/178)

كان يتفقد أحوال رعيته وأحوال أمرائه بنفسه، فقد دل القرآن والسنة وبينا ما يجب على الإمام من تفقد أحوال رعيته، ومباشرة ذلك بنفسه، والسفر إلى ذلك وإن طال. ورحم الله ابن المبارك حيث يقول:

وهل أفسد الدين إلا الملوك ... وأحبار سوء ورهبانها

الثالثة- قوله تعالى: {مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ} أي ما للهدهد لا أراه؛ فهو من القلب الذي لا يعرف معناه. وهو كقولك: ما لي أراك كئيبا. أي مالك. والهدهد طير معروف وهدهدته صوته. قال ابن عطية: إنما مقصد الكلام الهدهد غاب لكنه أخذ اللازم عن مغيبه وهو أن لا يراه، فاستفهم على جهة التوقف على اللازم وهذا ضرب من الإيجاز. والاستفهام الذي في قوله: {مَا لِيَ} ناب مناب الألف التي تحتاجها أم. وقيل: إنما قال: {مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ} ؛ لأنه اعتبر حال نفسه، إذ علم أنه أوتي الملك العظيم، وسخر له الخلق، فقد لزمه حق الشكر بإقامة الطاعة وإدامة العدل، فلما فقد نعمة الهدهد توقع أن يكون قصر في حق الشكر، فلأجله سلبها فجعل يتفقد نفسه؛ فقال: {مَا لِيَ} . قال ابن العربي: وهدا يفعله شيوخ الصوفية إذا فقدوا مالهم، تفقدوا أعمالهم؛ هذا في الآداب، فكيف بنا اليوم ونحن نقصر في الفرائض!. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وعاصم والكسائي وهشام وأيوب: {مَا لِيَ} بفتح الياء وكذلك في {يس} {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} [يس: 22]. وأسكنها حمزة ويعقوب. وقرأ الباقون المدنيون وأبو عمرو: بفتح التي في {يس} وإسكان هذه. قال أبو عمرو: لأن هذه التي في {النمل} استفهام، والأخرى انتفاء. واختار أبو حاتم وأبو عبيد الإسكان {فقال مالي} . وقال أبو جعفر النحاس: زعم قوم أنهم أرادوا أن يفرقوا بين ما كان مبتدأ، وبين ما كان معطوفا على ما قبله، وهذا ليس بشيء؛ وإنما هي ياء النفس، من العرب من يفتحها ومنهم من يسكنها، فقرؤوا باللغتين؛ واللغة الفصيحة في ياء النفس أن تكون مفتوحة؛ لأنها اسم وهي على حرف واحد، وكان الاختيار ألا تسكن فيجحف الاسم. {أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} بمعنى بل.

(13/179)

الرابعة- قوله تعالى: {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ} دليل على أن الحد على قدر الذنب لا على قدر الجسد، أما أنه يرفق بالمحدود في الزمان والصفة. روي عن ابن عباس ومجاهد وابن جريج أن تعذيبه للطير كان بأن ينتف ريشه. قال ابن جريج: ريشه أجمع. وقال يزيد بن رومان: جناحاه. فعل سليمان هذا بالهدهد إغلاظا على العاصين، وعقابا على إخلاله بنوبته ورتبته؛ وكأن الله أباح له ذلك، كما أباح ذبح البهائم والطير للأكل وغيره من المنافع. والله أعلم. وفي "نوادر الأصول" قال: حدثنا سليمان بن حميد أبو الربيع الإيادي، قال حدثنا عون بن عمارة، عن الحسين الجعفي، عن الزبير بن الخريت، عن عكرمة، قال: إنما صرف الله شر سليمان عن الهدهد لأنه كان بارا بوالديه. وسيأتي. وقيل: تعذيبه أن يجعل مع أضداده. وعن بعضهم: أضيق السجون معاشرة الأضداد وقيل: لألزمنه خدمة أقرانه. وقيل: إيداعه القفص. وقيل: بأن يجعله للشمس بعد نتفه. وقيل: بتبعيده عن خدمتي، والملوك يؤدبون بالهجران الجسد بتفريق إلفه. وهو مؤكد بالنون الثقيلة، وهي لازمة هي أو الخفيفة. قال أبو حاتم: ولو قرئت " لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه " جاز. {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} أي بحجة بينة. وليست اللام في {لَيَأْتِيَنِّي} لام القسم لأنه لا يقسم سليمان على فعل الهدهد؛ ولكن لما جاء في أثر قوله: {لأُعَذِّبَنَّهُ} وهو مما جاز به القسم أجراه مجراه. وقرأ ابن كثير وحده: {لَيَأْتِيَنِّي} بنونين.

الخامسة- قوله تعالى: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} أي الهدهد. والجمهور من القراء على ضم الكاف، وقرأ عاصم وحده بفتحها. ومعناه في القراءتين أقام. قال سيبويه: مكث يمكث مكوثا كما قالوا قعد يقعد قعودا. قال: ومكث مثل ظرف. قال غيره: والفتح أحسن لقوله تعالى: {مَاكِثِينَ} [الكهف: 3] إذ هو من مكث؛ يقال: مكث يمكث فهو ماكث؛ ومكث يمكث مثل عظم يعظم فهو مكيث؛ مثل عظيم. ومكث يمكث فهو ماكث؛ مثل حمض يحمض فهو حامض. والضمير في {مَكَثَ} يحتمل أن يكون لسليمان؛ والمعنى: بقي سليمان بعد التفقد والوعيد غير طويل أي غير وقت طويل. ومحتمل أن يكون للهدهد وهو الأكثر. فجاء: {فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} وهي:

(13/180)

السادسة- أي علمت ما لم تعلمه من الأمر فكان في هذا رد على من قال: إن الأنبياء تعلم الغيب. وحكى الفراء "أحط" يدغم التاء في الطاء. وحكى "أحت" بقلب الطاء تاء وتدغم.

السابعة- قوله تعالى: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ} أعلم سليمان ما لم يكن يعلمه، ودفع عن نفسه ما توعده من العذاب والذبح. وقرأ الجمهور: {سَبَأٍ} بالصرف. وابن كثير وأبو عمرو: {سَبَأ} بفتح الهمزة وترك الصرف؛ فالأول على أنه اسم رجل نسب إليه قوم، وعليه قول الشاعر:

الواردون وتيم في ذرى سبأ ... قد عض أعناقهم جلد الجواميس

وأنكر الزجاج أن يكون اسم رجل، وقال {سَبَأٍ} اسم مدينة تعرف بمأرب باليمن بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام.

قلت: وقع في عيون المعاني للغزنوي ثلاثة أميال. قتادة والسدي بعث إليه اثنا عشر نبيا. وأنشد للنابغة الجعدي:

من سبأ الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون سيله العرما

قال: فمن لم يصرف قال إنه اسم مدينة، ومن صرف وهو الأكثر فلأنه اسم البلد فيكون مذكرا سمي به مذكر. وقيل: اسم امرأة سميت بها المدينة. والصحيح أنه اسم رجل، كذلك في كتاب الترمذي من حديث فروة بن مسيك المرادي عن النبي صلى الله عليه وسلم: وسيأتي إن شاء الله تعالى. قال ابن عطية: وخفي هذا الحديث على الزجاج فخبط عشواء. وزعم الفراء أن الرؤاسي سأل أبا عمرو بن العلاء عن سبأ فقال: ما أدري ما هو. قال النحاس: وتأول الفراء على أبي عمرو أنه منعه من الصرف لأنه مجهول، وأنه إذا لم يعرف الشيء لم ينصرف. وقال النحاس: وأبو عمر وأجل من أن يقول مثل هذا، وليس في حكاية الرؤاسي عنه دليل أنه إنما منعه من الصرف لأنه لم يعرفه، وإنما قال لا أعرفه، ولو سئل نحوي عن اسم فقال لا أعرفه لم يكن في هذا دليل على أنه يمنعه من الصرف، بل الحق على غير هذا؛ والواجب إذا لم يعرفه أن يصرفه؛ لأن أصل الأسماء الصرف؛ وإنما يمنع الشيء من الصرف لعلة داخلة عليه؛ فالأصل ثابت بيقين فلا يزول بما لا يعرف. وذكر كلاما كثيرا

(13/181)

عن النحاة وقال في آخره: والقول في {سَبَأ} ما جاء التوقيف فيه أنه في الأصل اسم رجل، فإن صرفته فلأنه قد صار اسما للحي، وإن لم تصرفه جعلته اسما للقبيلة مثل ثمود إلا أن الاختيار عند سيبويه الصرف وحجته في ذلك قاطعة؛ لأن هذا الاسم لما كان يقع له التذكير والتأنيث كان التذكير أولى؛ لأنه الأصل والأخف.

الثامنة- وفي الآية دليل على أن الصغير يقول للكبير والمتعلم للعالم عندي ما ليس عندك إذا تحقق ذلك وتيقنه. هذا عمر بن الخطاب مع جلالته رضي الله عنه وعلمه لم يكن عنده علم بالاستئذان. وكان علم التيمم عند عمار وغيره، وغاب عن عمر وابن مسعود حتى قالا: لا يتيمم الجنب. وكان حكم الإذن في أن تنفر الحائض عند ابن عباس ولم يعلمه عمر ولا زيد بن ثابت. وكان غسل رأس المحرم معلوما عند ابن عباس وخفي عن المسور بن مخرمة. ومثله كثير فلا يطول به.

التاسعة- قوله تعالى: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} لما قال الهدهد: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ} قال سليمان: وما ذلك الخبر؟ قال: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} يعني بلقيس بنت شراحيل تملك أهل سبأ. ويقال: كيف وخفي على سليمان مكانها وكانت المسافة بين محطه وبين بلدها قريبة، وهي من مسيرة ثلاث بين صنعاء ومأرب ؟ والجواب أن الله تعالى أخفى ذلك عنه لمصلحة، كما أخفى على يعقوب مكان يوسف. ويروى أن أحد أبويها كان من الجن. قال ابن العربي: وهذا أمر تنكره الملحدة، ويقولون: الجن لا يأكلون ولا يلدون؛ كذبوا لعنهم الله أجمعين؛ ذلك صحيح ونكاحهم جائز عقلا فإن صح نقلا فبها ونعمت.

قلت: خرج أبو داود من حديث عبدالله بن مسعود أنه قال: قدم وفد من الجن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد انه أمتك أن يستنجوا بعظم أو روثة أو جمجمة فإن الله جاعل لنا فيها رزقا. وفي صحيح مسلم: فقال: "لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما وكل بعرة علف لدوابكم" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(13/182)

"فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم الجن" وفي البخاري من حديث أبي هريرة قال فقلت: ما بال العظم والروثة؟ فقال: "هما من طعام الجن وإنه أتاني وفد جن نصيبين ونعم الجن فسألوني الزاد فدعوت الله تعالى ألا يمروا بعظم ولا روثة إلا وجدوا عليها طعاما" وهذا كله نص في أنهم يطعمون. وأما نكاحهم فقد تقدمت الإشارة إليه في {سُبْحَانَ} "الإسراء" عند قوله: {وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} [الإسراء: 64]. وروى وهيب بن جرير بن حازم عن الخليل بن أحمد عن عثمان بن حاضر قال: كانت أم بلقيس من الجن يقال لها بلعمة بنت شيصان. وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

العاشرة- روى البخاري من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن أهل فارس قد ملكوا بنت كسرى قال: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" قال القاضي أبو بكر بن العربي: هذا نص في أن المرأة لا تكون خليفة ولا خلاف فيه؛ ونقل عن محمد بن جرير الطبري أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية، ولم يصح ذلك عنه، ولعله نقل عنه كما نقل عن أبي حنيفة أنها إنما تقضي فيما تشهد فيه وليس بأن تكون قاضية على الإطلاق؛ ولا بأن يكتب لها مسطور بأن فلانة مقدمة على الحكم، وإنما سبيل ذلك التحكيم والاستنابة في القضية الواحدة، وهذا هو الظن بأبي حنيفة وابن جرير. وقد روي عن عمر أنه قدم امرأة على حسبة السوق. ولم يصح فلا تلتفتوا إليه، فإنما هو من دسائس المبتدعة في الأحاديث. وقد تناظر في هذه المسألة القاضي أبو بكر بن الطيب المالكي الأشعري مع أبي الفرج بن طرار شيخ الشافعية، فقال أبو الفرج: الدليل على أن المرأة يجوز أن تحكم أن الغرض من الأحكام تنفيذ القاضي لها، وسماع البينة عليها، والفصل بين الخصوم فيها، وذلك ممكن من المرأة كإمكانه من الرجل. فاعترض عليه القاضي أبو بكر ونقض كلامه بالإمامة الكبرى؛ فإن الغرض منه حفظ الثغور، وتدبير الأمور وحماية البيضة، وقبض الخراج ورده على مستحقه، وذلك لا يتأتى من المرأة كتأتيه من الرجل. قال ابن العربي: وليس

(13/183)

كلام الشيخين في هذه المسألة بشيء؛ فإن المرأة لا يتأتى منها أن تبرز إلى المجلس، ولا تخالط الرجال، ولا تفاوضهم مفاوضة النظير للنظير؛ لأنها إن كانت فتاة حرم النظر إليها وكلامها، لأن كانت بَرْزَة لم يجمعها والرجال مجلس واحد تزدحم فيه معهم، وتكون مناظرة لهم؛ ولن يفلح قط من تصور هذا ولا من اعتقده.

الحادية عشرة- قوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} مبالغة؛ أي مما تحتاجه المملكة. وقيل: المعنى أوتيت من كل شيء في زمانها شيئا فحذف المفعول؛ لأن الكلام دل عليه. {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} أي سرير؛ ووصفه بالعظم في الهيئة ورتبة السلطان. قيل: كان من ذهب تجلس عليه. وقيل: العرش هنا الملك؛ والأول أصح؛ لقوله تعالى: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} [النمل: 38]. الزمخشري: فإن قلت كيف سوى الهدهد بين عرش بلقيس وعرش الله في الوصف بالعظيم؟

قلت: بين الوصفين بون عظيم؛ لأن وصف عرشها بالعظيم تعظيم له بالإضافة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك، ووصف عرش الله بالعظيم تعظيم له بالنسبة إلى ما خلق من السماوات والأرض. قال ابن عباس: كان طول عرشها ثمانين ذراعا، وعرضه أربعين ذراعا، وارتفاعه في السماء ثلاثين ذراعا، مكلل بالدر والياقوت الأحمر، والزبرجد الأخضر. قتادة: وقوائمه لؤلؤ وجوهر، وكان مسترا بالديباج والحرير، عليه سبعة مغاليق. مقاتل: كان ثمانين ذراعا في ثمانين ذراعا، وارتفاعه من الأرض ثمانون ذراعا، وهو مكلل بالجواهر. ابن إسحاق: وكان يخدمها النساء، وكان معها لخدمتها ستمائة امرأة. قال ابن عطية: واللازم من الآية أنها امرأة ملكت على مدائن اليمن، ذات ملك عظيم، وسرير عظيم، وكانت كافرة من قوم كفار.

الثانية عشرة- قوله تعالى: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} قيل: كانت هذه الأمة ممن يعبد الشمس؛ لأنهم كانوا زنادقة فيما يروى. وقيل: كانوا مجوسا يعبدون الأنوار. وروي عن نافع أن الوقف على {عرش} . قال الهدوي:

(13/184)

فعظيم على هذا متعلق بما بعده، وكان ينبغي على هذا أن يكون عظيم أن وجدتها؛ أي وجودي إياها كافرة. وقال ابن الأنباري: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} وقف حسن، ولا يجوز أن يقف على {عَرْش} ويبتدئ {عظيم وجدتها} إلا على من فتح؛ لأن عظيما نعت لعرش فلو كان متعلقا بـ {وجدتها} لقلت عظيمة وجدتها؛ وهذا محال من كل وجه. وقد حدثني أبو بكر محمد بن الحسين بن شهريار، قال: حدثنا أبو عبدالله الحسين بن الأسود العجلي، عن بعض أهل العلم أنه قال: الوقف على {عرش} والابتداء {عظيم} على معنى عظيم عبادتهم الشمس والقمر. قال: وقد سمعت من يؤيد هذا المذهب، ويحتج بأن عرشها أحقر وأدق شأنا من أن يصفه الله بالعظيم. قال ابن الأنباري: والاختيار عندي ما ذكرته أولا؛ لأنه ليس على إضمار عبادة الشمس والقمر دليل. وغير منكر أن يصف الهدهد عرشها بالعظيم إذا رآه متناهي الطول والعرض؛ وجريه على إعراب {عرش} دليل على أنه نعته. {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} أي ما هم فيه من الكفر. {فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} أي عن طريق التوحيد. وبين يهذا أن ما ليس بسبيل التوحيد فليس بسبيل ينتفع به على التحقيق. {فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ } إلى الله وتوحيده.

الثالثة عشرة- قوله تعالى: {أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ} قرأ أبو عمرو ونافع وعاصم وحمزة: {أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ} بتشديد {أَلاَّ} قال ابن الأنباري: {فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} غير تام لمن شدد {أَلاَّ} لأن المعنى: وزين لهم الشيطان ألا يسجدوا. قال النحاس: هي {أَنَّ} دخلت عليها {لا} و {أَنَّ} في موضع نصب؛ قال الأخفش: بـ {َزَيَّنَ} أي وزين لهم لئلا يسجدوا لله. وقال الكسائي: بـ {فَصَدَّهُمْ} أي فصدهم ألا يسجدوا. وهو في الوجهين مفعول له.

وقال اليزيدي وعلي بن سليمان: {أَنَّ} بدل من {أَعْمَالَهُمْ} في موضع نصب. وقال أبو عمرو: و {أَنَّ} في موضع حفض على البدل من السبيل وقيل: العامل فيها {لا يَهْتَدُونَ} أي فهم لا يهتدون أن يسجدوا لله؛ أي لا يعلمون أن ذلك واجب عليهم. وعلى هذا القول {لا} زائدة؛ كقوله: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} [الأعراف: 12] أي ما منعك أن تسجد. وعلى هذه القراءة

(13/185)

فليس بموضع سجدة؛ لأن ذلك خبر عنهم بترك السجود، إما بالتزيين، أو بالصد، أو بمنع الاهتداء. وقرأ الزهري والكسائي وغيرهما: {ألا يسجدوا لله} بمعنى يا هؤلاء اسجدوا؛ لأن {يا} ينادي بها الأسماء دون الأفعال. وأنشد سيبويه:

يا لعنة الله والأقوام كلهم ... والصالحين على سمعان من جار

قال سيبويه: {يا} لغير اللعنة، لأنه لو كان للعنة لنصبها، لأنه كان يصير منادى مضافا، ولكن تقديره يا هؤلاء لعنة الله والأقوام على سمعان. وحكى بعضهم سماعا عن العرب: ألا يا ارحموا ألا يا اصدقوا. يريدون ألا يا قوم ارحموا اصدقوا، فعلى هذه القراءة {اسْجُدُوا} في موضع جزم بالأمر والوقف على {ألا يا} ثم تبتدئ فتقول: {اسْجُدُوا} . قال الكسائي: ما كنت أسمع الأشياخ يقرؤونها إلا بالتخفيف على نية الأمر. وفي قراءة عبدالله: {أَلا هَلْ تَسْجُدُون لِلَّهِ} بالتاء والنون. وفي قراءة أبي {أَلا تَسْجُدُون لِلَّهِ} فهاتان القراءتان حجة لمن خفف. الزجاج: وقراءة التخفيف تقتضي وجوب السجود دون التشديد. واختار أبو حاتم وأبو عبيدة قراءة التشديد. وقال: التخفيف وجه حسن إلا أن فيه انقطاع الخبر من أمر سبأ، ثم رجع بعد إلى ذكرهم، والقراءة بالتشديد خبر يتبع بعضه بعضا لا انقطاع في وسطه. ونحوه قال النحاس. قال: قراءة التخفيف بعيدة؛ لأن الكلام يكون معترضا، وقراءة التشديد يكون الكلام بها متسقا، وأيضا فإن السواد على غير هذه القراءة، لأنه قد حذف منه ألفان، وإنما يختصر مثل هذا بحذف ألف واحدة نحو يا عيسى بن مريم. ابن الأنباري: وسقطت ألف {اسْجُدُوا} كما تسقط مع هؤلاء إذا ظهر، ولما سقطت ألف {يا} واتصلت بها ألف {اسْجُدُوا} سقطت، فعد سقوطها دلالة على الاختصار وإيثارا لما يخف وتقل ألفاظه. وقال الجوهري في آخر كتابه: قال بعضهم: إن {يا} في هذا الموضع إنما هو للتنبيه كأنه قال: ألا اسجدوا لله، فلما أدخل عليه {يا} للتنبيه سقطت الألف التي في {اسْجُدُوا} لأنها

(13/186)

ألف وصل، وذهبت الألف التي في {يا} لاجتماع الساكنين؛ لأنها والسين ساكنتان. قال ذو الرمة:

ألا يا اسلمي يا دارمي على البلى ... ولا زال منهلا بجرعائك القطر

وقال الجرجاني: هو كلام معترض من الهدهد أو سليمان أو من الله. أي ألا ليسجدوا؛ كقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية: 14] قيل: إنه أمر أي ليغفروا. وتنتظم على هذا كتابة المصحف؛ أي ليس ها هنا نداء. قال ابن عطية: قيل هو من كلام الهدهد إلى قوله {الْعَظِيمِ} وهو قول ابن زيد وابن إسحاق؛ ويعترض بأنه غير مخاطب فكيف يتكلم في معنى شرع. ويحتمل أن يكون من قول سليمان لما أخبره الهدهد عن القوم. ويحتمل أن يكون من قول الله تعالى فهو اعتراض بين الكلامين وهو الثابت مع التأمل، وقراءة التشديد في {ألا} تعطي أن الكلام للهدهد، وقراءة التخفيف تمنعه، والتخفيف يقتضي الأمر بالسجود لله عز وجل للأمر على ما بيناه. وقال الزمخشري: فإن قلت أسجدة التلاوة واجبة في القراءتين جميعا أم في إحداهما؟ قلت هي واجبة فيهما جميعا؛ لأن مواضع السجدة إما أمر بها، أو مدح لمن أتى بها، أو ذم لمن تركها، وإحدى القراءتين أمر بالسجود والأخرى ذم للتارك.

قلت: وقد أخبر الله عن الكفار بأنهم يسجدون كما في {الانشقاق} وسجد النبي صلى الله عليه وسلم فيها، كما ثبت في البخاري وغيره فكذلك {النمل}. والله أعلم. الزمخشري: وما ذكره الزجاج من وجوب السجدة مع التخفيف دون التشديد فغير مرجوع إليه.{الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ} خبء السماء قطرها، وخبء الأرض كنوزها ونباتها. وقال قتادة: الخبء السر. النحاس: وهذا أولى. أي ما غاب في السماوات والأرض، ويدل عليه {مَا يُخْفُونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} . وقرأ عكرمة ومالك بن دينار: {الْخَبَ} بفتح الباء من غير همز. قال المهدوي: وهو التخفيف القياسي؛ وذكر من يترك الهمز في الوقف. وقال النحاس:

(13/187)

وحكى أبو حاتم أن عكرمة قرأ: {الَّذِي يُخْرِجُ الْخَباَ} بألف غير مهموزة، وزعم أن هذا لا يجوز في العربية، واعتل بأنه إن خفف الهمزة ألقى حركتها على الباء فقال: {الْخَبَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وأنه إن حول الهمزة قال: الخبي بإسكان الباء وبعدها ياء. قال النحاس: وسمعت علي بن سليمان يقول سمعت محمد بن يزيد يقول: كان أبو حاتم دون أصحابه في النحو ولم يلحق بهم إلا أنه إذا خرج من بلده لم يلق أعلم منه. وحكى سيبويه عن العرب أنها تبدل من الهمزة ألفا إذا كان قبلها ساكن وكانت مفتوحة، وتبدل منها واوا إذا كان قبلها ساكن وكانت مضمومة، وتبدل منها ياء إذا كان قبلها ساكن وكانت مكسورة؛ فتقول: هذا الوثو وعجبت من الوثي ورأيت الوثا؛ وهذا من وثئت يده؛ وكذلك هذا الخبو وعجبت من الخبي، ورأيت الخبا؛ وإنما فعل هذا لأن الهمزة خفيفة فأبدل منها هذه الحروف. وحكى سيبويه عن قوم من بني تميم وبني أسد أنهم يقولون: هذا الخبؤ؛ يضمون الساكن إذا كانت الهمزة مضمومة، ويثبتون الهمزة ويكسرون الساكن إذا كانت الهمزة مكسورة، ويفتحون الساكن إذا كانت الهمزة مفتوحة. وحكى سيبويه أيضا أنهم يكسرون وإن كانت الهمزة مضمومة، إلا أن هذا عن بني تميم؛ فيقولون: الرديء؛ وزعم أنهم لم يضموا الدال لأنهم كرهوا ضمة قبلها كسرة؛ لأنه ليس في الكلام فعل. وهذه كلها لغات داخلة على اللغة التي قرأ بها الجماعة؛ وفي قراءة عبدالله {الَّذِي يُخْرِجُ الْخَباَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} و {من} و {في} يتعاقبان؛ تقول العرب: لأستخرجن العلم فيكم يريد منكم؛ قاله الفراء. {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} قراءة العامة فيهما بياء الغائب، وهذه القراءة تعطي أن الآية من كلام الهدهد، وأن الله تعالى خصه من المعرفة بتوحيده ووجوب السجود له، وإنكار سجودهم للشمس، وإضافته للشيطان، وتزيينه لهم، ما خص به غيره من الطيور وسائر الحيوان؛ من المعارف اللطيفة التي لا تكاد العقول الراجحة تهتدي لها. وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر وحفص والكسائي: {تُخْفُونَ} و{تُعْلِنُونَ} بالتاء على الخطاب؛ وهذه القراءة تعطي أن الآية

(13/188)

من خطاب الله عز وجل لأمة محمد صلى الله عليه وسلم {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} قرأ ابن محيصن {الْعَظِيمِ}: رفعا نعتا لله. الباقون بالخفض نعتا للعرش. وخص بالذكر لأنه أعظم المخلوقات وما عداه في ضمنه وقبضته.

الرابعة عشرة- قوله تعالى: {سَنَنْظُرُ} من النظر الذي هو التأمل والتصفح. {أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} في مقالتك. و {كُنْتَ} بمعنى أنت. وقال: {سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ} ولم يقل سننظر في أمرك؛ لأن الهدهد لما صرح بفخر العلم في قوله: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} صرح له سليمان بقوله: سننظر أصدقت أم كذبت، فكان ذلك كفاء لما قاله.

الخامسة عشرة قوله: {أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} دليل على أن الإمام يجب عليه أن يقبل عذر رعيته، ويدرأ العقوبة عنهم في ظاهر أحوالهم بباطن أعذارهم؛ لأن سليمان لم يعاقب الهدهد حين اعتذر إليه. وإنما صار صدق الهدهد عذرا لأنه أخبر بما يقتضي الجهاد، وكان سليمان عليه السلام حبب إليه الجهاد. وفي الصحيح: "ليس أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل". وقد قبل عمر عذر النعمان بن عدي ولم يعاقبه. ولكن للإمام أن يمتحن ذلك إذا تعلق به حكم من أحكام الشريعة. كما فعل سليمان؛ فإنه لما قال الهدهد: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} لم يستفزه الطمع، ولا استجره حب الزيادة في الملك إلى أن يعرض له حتى قال: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} فغاظه حينئذ ما سمع، وطلب الانتهاء إلى ما أخبر، وتحصيل علم ما غاب عنه من ذلك، فقال: {سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} ونحو منه ما رواه الصحيح عن المسور بن مخرمة، حين استشار عمر الناس في إملاص المرأة وهي التي يضرب بطنها فتلقي جنينها؛ فقال المغيرة ابن شعبة: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة عبد أو أمة. قال فقال عمر: ايتني بمن يشهد معك؛ قال: فشهد له محمد بن مسلمة وفي رواية فقال: لا تبرح حتى تأتي بالمخرج

(13/189)

من ذلك؛ فخرجت فوجدت محمد بن سلمة فجئت به فشهد. ونحوه حديث أبي موسى في الاستئذان وغيره.

السادسة عشرة- قوله تعالى: {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} قال الزجاج: فيها خمسة أوجه {فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} بإثبات الياء في اللفظ. وبحذف الياء وإثبات الكسرة دالة عليها {فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} . وبضم الهاء وإثبات الواو على الأصل {فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} . وبحذف الواو وإثبات الضمة {فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} . واللغة الخامسة قرأ بها حمزة بإسكان الهاء {فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} . قال النحاس: وهذا عند النحويين لا يجوز إلا على حيلة بعيدة تكون: يقدر الوقف؛ وسمعت علي بن سليمان يقول: لا تلتفت إلى هذه العلة، ولو جاز أن يصل وهو ينوي الوقف لجاز أن يحذف الإعراب من الأسماء. وقال: {إِلَيْهِمْ} على لفظ الجمع ولم يقل إليها؛ لأنه قال: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ} فكأنه قال: فألقه إلى الذين هذا دينهم؛ اهتماما منه بأمر الدين، واشتغالا به عن غيره، وبنى الخطاب في الكتاب على لفظ الجمع لذلك. وروي في قصص هذه الآية أن الهدهد وصل فألفى دون هذه الملكة حجب جدران؛ فعمد إلى كوة كانت بلقيس صنعتها لتدخل منها الشمس عند طلوعها لمعنى عبادتها إياها، فدخل منها ورمى الكتاب على بلقيس وهي - فيما يروى - نائمة؛ فلما انتبهت وجدته فراعها، وظنت أنه قد دخل عليها أحد، ثم قامت فوجدت حالها كما عهدت، فنظرت إلى الكوة تهمما بأمر الشمس، فرأت الهدهد فعلمت. وقال وهب وابن زيد: كانت لها كوة مستقبلة مطلع الشمس، فإذا طلعت سجدت، فسدها الهدهد بجناحه، فارتفعت الشمس ولم تعلم، فلما استبطأت الشمس قامت تنظر فرمى الصحيفة إليها، فلما رأت الخاتم ارتعدت وخضعت، لأن ملك سليمان عليه السلام كان في خاتمه؛ فقرأته فجمعت الملأ من قومها فخاطبتهم بما يأتي بعد. وقال مقاتل: حمل الهدهد الكتاب بمنقاره، وطار حتى وقف على رأس المرأة وحولها الجنود والعساكر، فرفرف ساعة والناس ينظرون إليه، فرفعت المرأة رأسها فألقى الكتاب في حجرها.

(13/190)

السابعة عشرة- في هذه الآية دليل على إرسال الكتب إلى المشركين وتبليغهم الدعوة، ودعائهم إلى الإسلام. وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر وإلى كل جبار؛ كما تقدم في {آل عمران}:

الثامنة عشرة- قوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ} أمره بالتولي حسن أدب ليتنحى حسب ما يتأدب به مع الملوك. بمعنى: وكن قريبا حتى ترى مراجعتهم؛ قال وهب بن منبه. وقال ابن زيد: أمره بالتولي بمعنى الرجوع إليه؛ أي ألقه وارجع. {فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} في معنى التقديم على قوله: {ثُمَّ تَوَلَّ} واتساق رتبة الكلام أظهر؛ أي ألقه ثم تول، وفي خلال ذلك فانظر أي انتظر. وقيل: فاعلم؛ كقوله: {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [النبأ: 40] أي اعلم ماذا يرجعون أي يجيبون وماذا يردون من القول. وقيل: {فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} يتراجعون بينهم من الكلام.

الآية: [29] {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ}

الآية: [30] {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}

الآية: [31] {أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}

فيه ست مسائل:

الأولى- قوله تعالى: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ} في الكلام حذف؛ والمعنى: فذهب فألقاه إليهم فسمعها وهي تقول: {يَا أَيُّهَا الْمَلأُ} ثم وصفت الكتاب بالكريم إما لأنه من عند عظيم في نفسها ونفوسهم فعظمته إجلالا لسليمان عليه السلام؛ وهذا قول ابن زيد. وإما أنها أشارت إلى أنه مطبوع عليه بالخاتم، فكرامة الكتاب ختمه؛ وروي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل: لأنه بدأ فيه بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وقد قال صلى الله عليه وسلم: "كل كلام لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أجذم" . وقيل: لأنه بدأ

(13/191)

فيه بنفسه، ولا يفعل ذلك إلا الجلة. وفي حديث ابن عمر أنه كتب إلى عبدالملك بن مروان يبايعه. من عبدالله لعبدالملك بن مروان أمير المؤمنين؛ إني أقر لك بالسمع والطاعة ما استطعت، وإن بني قد أقروا لك بذلك. وقيل: توهمت أنه كتاب جاء من السماء إذ كان الموصل طيرا. وقيل: {كَرِيمٌ} حسن؛ كقول: {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الشعراء: 58] أي مجلس حسن. وقيل: وصفته بذلك؛ لما تضمن من لين القول والموعظة في الدعاء إلى عبادة الله عز وجل، وحسن الاستعطاف والاستلطاف من غير أن يتضمن سبا ولا لعنا، ولا ما يغير النفس، ومن غير كلام نازل ولا مستغلق؛ على عادة الرسل في الدعاء إلى الله عز وجل؛ ألا ترى إلى قول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125] وقوله لموسى وهرون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]. وكلها وجوه حسان وهذا أحسنها. وقد روي أنه لم يكتب بسم الله الرحمن الرحيم أحد قبل سليمان. وفي قراءة عبدالله {وإِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ} بزيادة واو.

الثانية- الوصف بالكريم في الكتاب غاية الوصف؛ ألا ترى قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة: 77] وأهل الزمان يصفون الكتاب بالخطير وبالأثير وبالمبرور؛ فإن كان لملك قالوا: العزيز وأسقطوا الكريم غفلة، وهو أفضلها خصلة. فأما الوصف بالعزيز فقد وصف به القرآن في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:41 - 42] فهذه عزته وليست لأحد إلا له، فاجتنبوها في كتبكم، واجعلوا بدلها العالي؛ توفية لحق الولاية، وحياطة للديانة؛ قال القاضي أبو بكر بن العربي.

الثالثة- كان رسم المتقدمين إذا كتبوا أن يبدؤوا بأنفسهم من فلان إلى فلان، وبذلك جاءت الآثار. وروى الربيع عن أنس قال: ما كان أحد أعظم حرمة من النبي صلى الله عليه وسلم: وكان أصحابه إذا كتبوا بدؤوا بأنفسهم. وقال ابن سيرين قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أهل فارس إذا كتبوا بدؤوا بعظمائهم فلا يبدأ الرجل إلا بنفسه"

(13/192)

قال أبو الليث في كتاب "البستان" له: ولو بدأ بالمكتوب إليه لجاز؛ لأن الأمة قد اجتمعت عليه وفعلوه لمصلحة رأوا في ذلك، أو نسخ ما كان من قبل؛ فالأحسن في زماننا هذا أن يبدأ بالمكتوب إليه، ثم ينفسه؛ لأن البداية بنفسه تعد منه استخفافا بالمكتوب إليه وتكبرا عليه؛ إلا أن يكتب إلى عبد من عبيده، أو غلام من غلمانه.

الرابعة- وإذا ورد على إنسان كتاب بالتحية أو نحوها ينبغي أن يرد الجواب؛ لأن الكتاب من الغائب كالسلام من الحاضر. وروي عن ابن عباس أنه كان يرى رد الكتاب واجبا كما يرى رد السلام. والله أعلم.

الخامسة- اتفقوا على كتب {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في أول الكتب والرسائل، وعلى ختمها؛ لأنه أبعد من الريبة، وعلى هذا جرى الرسم، وبه جاء الأثر عن عمر بن الخطاب أنه قال: أيما كتاب لم يكن مختوما فهو أغلف. وفي الحديث: "كرم الكتاب ختمه". وقال بعض الأدباء؛ هو ابن المقفع: من كتب إلى أخيه كتابا ولم يختمه فقد استخف به؛ لأن الختم ختم. وقال أنس: لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى العجم فقيل له: إنهم لا يقبلون إلا كتابا عليه ختم؛ فاصطنع خاتما ونقش على فصه: "لا إله إلا الله محمد رسول الله" وكأني أنظر إلى وبيصه وبياضه في كفه.

السادسة قوله تعالى: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} {إِنَّهُ} بالكسر فيهما أي وإن الكلام، أو إن مبتدأ الكلام {وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . وأجاز الفراء {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ} بفتحهما جميعا على أن يكونا في موضع رفع بدل من الكتاب؛ بمعنى ألقي إلي أنه من سليمان. وأجاز أن يكونا في موضع نصب على حذف الخافض؛ أي لأنه من سليمان ولأنه؛ كأنها عللت كرمه بكونه من سليمان وتصديره بسم الله. وقرأ الأشهب العقيلي ومحمد بن السميقع: {أَلا تَغْلُوا} بالغين المعجمة، وروي عن وهب بن منبه؛ من غلا يغلو إذا تجاوز وتكبر. وهي راجعة إلى معنى قراءة الجماعة. {وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} أي منقادين طائعين مؤمنين.

(13/193)

الآية: [32] {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ}

الآية: [33] {قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ}

الآية: [34] {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}

فيه ست مسائل:

الأولى- قوله تعالى: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي} الملأ أشراف القوم وقد مضى في سورة {البقرة} القول فيه. قال ابن عباس: كان معها ألف قيل. وقيل: اثنا عشر ألف قيل مع كل قيل مائة ألف. والقيل الملك دون الملك الأعظم. لأخذت في حسن الأدب مع قومها، ومشاورتهم في أمرها، وأعلمتهم أن ذلك مطرد عندها في كل أمر يعرض، {مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ} فكيف في هذه النازلة الكبرى. فراجعها الملا بما يقر عينها، من إعلامهم إياها بالقوة والبأس، ثم سلموا الأمر إلى نظرها؛ وهذه محاورة حسنة من الجميع. قال قتادة: ذكر لنا أنه كان لها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا هم أهل مشورتها، كل رجل منهم على عشرة آلاف.

الثانية- في هذه الآية دليل على صحة المشاورة. وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] في إما استعانة بالآراء، وإما مداراة للأولياء. وقد مدح الله تعالى الفضلاء بقوله: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]. والمشاورة من الأمر القديم وخاصة في الحرب؛ فهذه بلقيس امرأة جاهلية كانت تعبد الشمس: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ} لتختبر عزمهم على مقاومة عدوهم، وحزمهم فيما يقيم أمرهم، وإمضائهم على الطاعة لها، بعلمها بأنهم إن لم يبذلوا أنفسهم وأموالهم ودماءهم دونها لم يكن لها طاقة بمقاومة عدوها، وإن لم يجتمع أمرهم وحزمهم وجدهم كان ذلك عونا لعدوهم عليهم، وإن لم تختبر ما عندهم، وتعلم قدر عزمهم لم تكن على بصيرة

(13/194)

من أمرهم، وربما كان في استبدادها برأيها وهن في طاعتها، ودخيلة في تقدير أمرهم، وكان في مشاورتهم وأخذ رأيهم عون على ما تريده من قوة شوكتهم، وشدة مدافعتهم؛ ألا ترى إلى قولهم في جوابهم: {قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ} قال ابن عباس: كان من قوة أحدهم أنه يركض فرسه حتى إذا احتد ضم فخذيه فحبسه بقوته.

الثالثة- قوله تعالى: {وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} سلموا الأمر إلى نظرها مع ما أظهروا لها من القوة والبأس والشدة؛ فلما فعلوا ذلك أخبرت عند ذلك بفعل الملوك بالقرى التي يتغلبون عليها. وفي هذا الكلام خوف على قومها، وحيطة واستعظام لأمر سليمان عليه السلام. {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} قيل: هو من قول بلقيس تأكيدا للمعنى الذي أرادته. وقال ابن عباس: هو من قول الله عز وجل معرفا لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته بذلك ومخبرا به. وقال وهب: لما قرأت عليهم الكتاب لم تعرف اسم الله، فقالت: ما هذا؟! فقال بعض القوم: ما نظن هذا إلا عفريتا عظيما من الجن يقتدر به هذا الملك على ما يريده؛ فسكتوه. وقال الآخر: أراهم ثلاثة من العفاريت؛ فسكتوه؛ فقال شاب قد علم: يا سيدة الملوك! إن سليمان ملك قد أعطاه ملك السماء ملكا عظيما فهو لا يتكلم بكلمة إلا بدأ فيها بتسمية إلهه، والله اسم مليك السماء، والرحمن الرحيم نعوته؛ فعندها قالت: {أَفْتُونِي فِي أَمْرِي} فقالوا: {نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ} في القتال {وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ} قوة في الحرب واللقاء {وَالأَمْرُ إِلَيْكِ} ردوا أمرهم إليها لما جربوا على رأيها من البركة {فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} فـ {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} أهانوا شرفاءها لتستقيم لهم الأمور، فصدق الله قولها. {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} قال ابن الأنباري: {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} هذا وقف تام؛ فقال الله عز وجل تحقيقا لقولها: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} وشبيه به في سورة {لأعراف} {قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ. يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ} [الأعراف: 109 - 110] تم الكلام، فقال فرعون: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الأعراف: 110]. وقال ابن شجرة. هو قول بلقيس، فالوقف {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} أي وكذلك يفعل سليمان إذا دخل بلادنا.

(13/195)

الآية: [35] {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ}

فيه ست مسائل:

الأولى- قوله تعالى: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} هذا من حسن نظرها وتدبيرها؛ أي إني أجرب هذا الرجل بهدية، وأعطيه فيها نفائس من الأموال، وأغرب عليه بأمور المملكة: فإن كان ملكا دنياويا أرضاه المال وعملنا معه بحسب ذلك، وإن كان نبيا لم يرضه المال ولازمنا في أمر الدين، فينبغي لنا أن نؤمن به ونتبعه على دينه، فبعثت إليه بهدية عظيمة أكثر الناس في تفصيلها، فقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: أرسلت إليه بلبنة من ذهب، فرأت الرسل الحيطان من ذهب فصغر عندهم ما جاؤوا به. وقال مجاهد: أرسلت إليه بمائتي غلام ومائتي جارية. وروي عن ابن عباس: باثنتي عشرة وصيفة مذكرين قد ألبستهم زي الغلمان، واثني عشر غلاما مؤنثين قد ألبستهم زي النساء، وعلى يد الوصائف أطباق مسك وعنبر، وباثنتي عشرة نجيبة تحمل لبن الذهب، وبخرزتين إحداهما غير مثقوبة، والأخرى مثقوبة ثقبا معوجا، وبقدح لا شيء فيه، وبعصا كان يتوارثها ملوك حمير، وأنفذت الهدية مع جماعة من قومها. وقيل: كان الرسول واحدا ولكن كان في صحبته أتباع وخدم. وقيل: أرسلت رجلا من أشراف قومها يقال له المنذرين عمرو، وضمت إليه رجالا ذوي رأي وعقل، والهدية مائة وصيف ومائة وصيفة، وقد خولف بينهم في اللباس، وقالت للغلمان: إذا كلمكم سليمان فكلموه بكلام فيه تأنيث يشبه كلام النساء، وقالت للجواري: كلمنه بكلام فيه غلظ يشبه كلام الرجال؛ فيقال: إن الهدهد جاء وأخبر سليمان بذلك كله. وقيل: إن الله أخبر سليمان بذلك، فأمر سليمان عليه السلام أن يبسط من موضعه إلى تسع فراسخ بلبنات الذهب والفضة، ثم قال: أي الدواب رأيتم أحسن في البر والبحر؟ قالوا: يا نبي الله رأينا في بحر كذا دواب منقطة مختلفة ألوانها، لها أجنحة وأعراف ونواصي؛ فأمر بها فجاءت فشدت على يمين الميدان وعلى يساره، وعلى لبنات الذهب والفضة، وألقوا لها علوفاتها؛ ثم قال: للجن علي بأولادكم؛ فأقامهم - أحسن ما يكون من الشباب - عن يمين

(13/196)

الميدان ويساره. ثم قعد سليمان عليه السلام على كرسيه في مجلسه، ووضع له أربعة آلاف كرسي من ذهب عن يمينه ومثلها عن يساره، وأجلس عليها الأنبياء والعلماء، وأمر الشياطين والجن والإنس أن يصطفوا صفوفا فراسخ، وأمر السباع والوحوش والهوام والطير فاصطفوا فراسخ عن يمينه وشماله، فلما دنا القوم من الميدان ونظروا إلى ملك سليمان، ورأوا الدواب التي لم تر أعينهم أحسن منها تروث على لبنات الذهب والفضة، تقاصرت إليهم أنفسهم، ورموا ما معهم من الهدايا. وفي بعض الروايات: إن سليمان لما أمرهم بفرش الهيدان بلبنات الذهب والفضة أمرهم أن يتركوا على طريقهم موضعا على قدر موضع بساط من الأرض غير مفروش، فلما مروا به خافوا أن يتهموا بذلك فطرحوا ما معهم في ذلك المكان، فلما رأوا الشياطين رأوا منظرا هائلا فظيعا ففزعوا وخافوا، فقالت لهم الشياطين: جوزوا لا بأس عليكم؛ فكانوا يمرون على كردوس كردوس من الجن والإنس والبهائم والطير والسباع والوحوش حتى وقفوا بين يدي سليمان، فنظر إليهم سليمان نظرا حسنا بوجه طلق، وكانت قالت لرسولها: إن نظر إليك نظر مغضب فاعلم أنه ملك فلا يهولنك منظره فأنا أعز منه، وإن رأيت الرجل بشا لطيفا فاعلم أنه نبي مرسل فتفهم قول ورد الجواب، فأخبر الهدهد سليمان بذلك على ما تقدم.

وكانت عمدت إلى حقه من ذهب فجعلت فيها درة يتيمة غير مثقوبة، وخرزة معوجة الثقب، وكتبت كتابا مع رسولها تقول فيه: إن كنت نبيا فميز بين الوصفاء والوصائف، وأخبر بما في الحقة، وعرفني رأس العصا من أسفلها، واثقب الدرة ثقبا مستويا، وأدخل خيط الخرزة، واملأ القدح ماء من ندى ليس من الأرض ولا من السماء؛ فلما وصل الرسول ووقف بين يدي سليمان أعطاه كتاب الملكة فنظر فيه، وقال: أين الحقة؟ فأتى بها فحركها؛ فأخبره جبريل بما فيها، ثم أخبرهم سليمان. فقال له الرسول: صدقت؛ فاثقب الدرة، وأدخل الخيط في الخرزة؛ فسأل سليمان الجن والإنس عن ثقبها فعجزوا؛ فقال للشياطين: ما الرأي فيها؟ فقالوا: ترسل إلى الأرضة، فجاءت الأرضة فأخذت شعرة في فيها حتى خرجت من الجانب الآخر؛ فقال لها سليمان: ما حاجتك؟ قالت: تصير رزقي في الشجرة؛

(13/197)

فقال لها: لك ذلك. ثم قال سليمان: من لهذه الخرزة يسلكها الخيط؟ فقالت دودة بيضاء: أنا لها يا نبي الله؛ فأخذت الدودة الخيط في فيها ودخلت الثقب حتى خرجت من الجانب الآخر؛ فقال لها سليمان: ما حاجتك؟ قالت تجعل رزقي في الفواكه؛ قال: ذلك لك. ثم ميز بين الغلمان والجواري. قال السدي: أمرهم بالوضوء، فجعل الرجل يحدر الماء على اليد والرجل حدرا، وجعل الجواري يصببن من اليد اليسرى على اليد اليمنى، ومن اليمنى على اليسرى، فميز بينهم بهذا. وقيل: كانت الجارية تأخذ الماء من الآنية بإحدى يديها، ثم تحمله على الأخرى، ثم تضرب به على الوجه؛ والغلام كان يأخذ الماء من الآنية يضرب به في الوجه، والجارية تصب على بطن ساعدها، والغلام على ظهر الساعد، والجارية تصب الماء صبا، والغلام يحدر على يديه؛ فميز بينهم بهذا. وروى يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير قال: أرسلت بلقيس بمائتي وصيفة ووصيف، وقالت: إن كان نبيا فسيعلم الذكور من الإناث، فأمرهم فتوضؤوا؛ فمن توضأ منهم فبدأ بمرفقه قبل كفه قال هو من الإناث، ومن بدأ بكفه قبل مرفقه قال هو من الذكور؛ ثم أرسل العصا إلى الهواء فقال: أي الرأسين سبق إلى الأرض فهو أصلها، وأمر بالخيل فأجريت حتى عرقت وملأ القدح من عرقها، ثم رد سليمان الهدية؛ فروي أنه لما صرف الهدية إليها وأخبرها رسولها بما شاهد؛ قالت لقومها: هذا أمر من السماء.

الثانية كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثبت عليها ولا يقبل الصدقة، وكذلك كان سليمان عليه السلام وسائر الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين. وإنما جعلت بلقيس قبول الهدية أو ردها علامة على ما في نفسها؛ على ما ذكرناه من كون سليمان ملكا أو نبيا؛ لأنه قال لها في كتابه: {أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 31] وهذا لا تقبل فيه فدية، ولا يؤخذ عنه هدية، وليس هذا من الباب الذي تقرر في الشريعة عن قبول الهدية بسبيل، وإنما هي رشوة وبيع الحق بالباطل، وهي الرشوة التي لا تحل. وأما الهدية المطلقة للتحبب والتواصل فإنها جائزة من كل أحد وعلى كل حال، وهذا ما لم يكن من مشرك.

(13/198)

الثالثة- فإن كانت من مشرك ففي الحديث: "نهيت عن زبد المشركين" يعني رفدهم وعطاياهم. وروي عنه عليه السلام أنه قبلها كما في حديث مالك عن ثور بن زيد الدبلي وغيره، فقال جماعة من العلماء بالنسخ فيهما، وقال آخرون: ليس فيها ناسخ ولا منسوخ، والمعنى فيها: أنه كان لا يقبل هدية من يطمع بالظهور عليه وأخذ بلده ودخوله في الإسلام، وبهذه الصفة كانت حالة سليمان عليه السلام، فعن مثل هذا نهى أن تقبل هديته حملا على الكف عنه؛ وهذا أحسن تأويل للعلماء في هذا؛ فإنه جمع بين الأحاديث. وقيل غير هذا.

الرابعة- الهدية مندوب إليها، وهي مما تورث المودة وتذهب العداوة؛ روى مالك عن عطاء بن عبدالله الخراساني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تصافحوا يذهب الغل وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء" . وروى معاوية بن الحكم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تهادوا فإنه يضعف الود ويذهب بغوائل الصدر" . وقال الدارقطني: تفرد به ابن بجير عن أبيه عن مالك، ولم يكن بالرضي، ولا يصح عن مالك ولا عن الزهري. وعن ابن شهاب قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تهادوا بينكم فإن الهدية تذهب السخيمة" قال ابن وهب: سألت يونس عن السخيمة ما هي فقال: الغل. وهذا الحديث وصله الوقاصي عثمان عن الزهري وهو ضعيف. وعلى الجملة: فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية، وفيه الأسوة الحسنة. ومن فضل الهدية مع اتباع السنة أنها تزيل حزازات النفوس، وتكسب المهدي والمهدى إليه رنة في اللقاء والجلوس. ولقد أحسن من قال:

هدايا الناس بعضهم لبعض ... تولد في قلوبهم الوصالا

وتزرع في الضمير هوى وودا ... وتكسبهم إذا حضروا جمالا

آخر:

إن الهدايا لها حظ إذا وردت ... أحظى من الابن عند الوالد الحدب

الخامسة- روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "جلساؤكم شركاؤكم في الهدية" واختلف في معناه؛ فقيل: هو محمول على ظاهره. وقيل: يشاركهم على وجه

(13/199)

الكرم والمروءة، فإن لم يفعل فلا يجبر عليه. وقال أبو يوسف: ذلك في الفواكه ونحوها. وقال بعضهم: هم شركاؤه في السرور لا في الهدية. والخبر محمول في أمثال أصحاب الصفة والخوانق والرباطات؛ أما إذا كان فقيها من الفقهاء اختص بها فلا شركة فيها لأصحابه، فإن أشركهم فذلك كرم وجود منه.

السادسة- قوله تعالى: {فَنَاظِرَةٌ} أي منتظرة {بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} قال قتادة: يرحمها الله أن كانت لعاقلة في إسلامها وشركها؛ قد علمت أن الهدية تقع موقعا من الناس. وسقطت الألف في {بِمَ} للفرق بين {ما} الخبرية. وقد يجوز إثباتها؛ قال:

على ما قام يشتمني لئيم ... كخنزير تمرغ في رماد

-----------------

 

النمل - تفسير الطبري

إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24)

القول في تأويل قوله تعالى : { إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24) }

يقول تعالى مخبرا عن قيل الهدهد لسليمان مخبرا بعذره في مغيبه عنه:(إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ ) يعني تملك سبأ، وإنما صار هذا الخبر للهدهد عذرا وحجة عند سليمان، درأ به عنه ما كان أُوعد به؛ لأن سليمان كان لا يرى أن في الأرض أحدا له مملكة معه، وكان مع ذلك صلى الله عليه وسلم رجلا حبِّب إليه الجهاد والغزو، فلما دله الهدهد على ملك بموضع من الأرض هو لغيره، وقوم كفرة يعبدون غير الله، له في جهادهم وغزوهم الأجر الجزيل، والثواب العظيم في الآجل، وضمّ مملكة لغيره إلى ملكه، حقَّت للهدهد المعذرة، وصحّت له الحجة في مغيبه عن سليمان.

وقوله:(وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ) يقول: وأوتيت من كلّ شيء يؤتاه الملك في عاجل الدنيا مما يكون عندهم من العتاد والآلة.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

(19/446)

أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)

*ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي عُبيدة الباجي، عن الحسن، قوله:(وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ) يعني: من كل أمر الدنيا.

وقوله(وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ) يقول: ولها كرسي عظيم. وعني بالعظيم في هذا الموضع: العظيم في قدره، وعظم خطره، لا عظمه في الكبر والسعة.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

*ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس، قوله:(وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ) قال: سرير كريم، قال: حَسن الصنعة، وعرشها: سرير من ذهب قوائمه من جوهر ولؤلؤ.

قال: ثني حجاج، عن أبي عبيدة الباجي، عن الحسن قوله:(وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ) يعني سرير عظيم.

وقوله:(وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) يقول: وجدت هذه المرأة ملكة سبأ، وقومها من سبأ، يسجدون للشمس فيعبدونها من دون الله. وقوله:(وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ) يقول: وحسَّن لهم إبليس عبادتهم الشمس، وسجودهم لها من دون الله، وحبَّب ذلك إليهم(فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ) يقول: فمنعهم بتزيينه ذلك لهم أن يتبعوا الطريق المستقيم، وهو دين الله الذي بعث به أنبياءه، ومعناه: فصدّهم عن سبيل الحقّ(فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ ) يقول: فهم لما قد زين لهم الشيطان ما زين من السجود للشمس من دون الله والكفر به لا يهتدون لسبيل الحقّ ولا يسلكونه، ولكنهم في ضلالهم الذي هم فيه يتردّدون.

القول في تأويل قوله تعالى : { أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) }

اختلف القرّاء في قراءة قوله(أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ ) فقرأ بعض المكيين وبعض المدنيين والكوفيين "ألا" بالتخفيف، بمعنى: ألا يا هؤلاء اسجدوا، فأضمروا "هؤلاء"اكتفاء

(19/447)

بدلالة "يا"عليها. وذكر بعضهم سماعا من العرب: ألا يا ارحمنا، ألا يا تصدّق علينا; واستشهد أيضا ببيت الأخطل:

ألا يا اسْلَمي يا هِنْدَ هنْدَ بَنِي بَدرٍ... وَإنْ كان حَيَّانا عِدًا آخِرَ الدَّهْر (1)

فعلى هذه القراءة اسجدوا في هذا الموضع جزم، ولا موضع لقوله "ألا"في الإعراب. وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والكوفة والبصرة(أَلا يَسْجُدُوا ) بتشديد ألا بمعنى: وزيَّن لهم الشيطان أعمالهم لئلا يسجدوا لله "ألا" في موضع نصب لما ذكرت من معناه أنه لئلا(ويسجدوا) في موضع نصب بأن.

والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار قد قرأ بكلّ واحدة منهما علماء من القراء مع صحة معنييهما.

واختلف أهل العربية في وجه دخول "يا" في قراءة من قرأه على وجه الأمر، فقال بعض نحوييِّ البصرة: من قرأ ذلك كذلك، فكأنه جعله أمرا، كأنه قال لهم: اسجدوا، وزاد "يا" بينهما التي تكون للتنبيه، ثم أذهب ألف الوصل التي في اسجدوا، وأذهبت الألف التي في "يا"؛ لأنها ساكنة لقيت السين، فصار ألا يسجدوا. وقال بعض نحويي الكوفة: هذه "يا"التي تدخل للنداء يكتفى بها من الاسم، ويكتفى بالاسم منها، فتقول: يا أقبل، وزيد أقبل، وما سقط من السواكن فعلى هذا.

ويعني بقوله:(يُخْرِجُ الْخَبْءَ ) يخرج المخبوء في السموات والأرض من غيث في السماء، ونبات في الأرض ونحو ذلك.

وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، وإن اختلفت عبارتهم عنه.

__________

(1) البيت: نسبه في (اللسان: عدا) إلى الأخطل التغلبي الشاعر الأموي. قال: وقد جاء في الشعر العدى: بمعنى الأعداء. وقال ابن الأعرابي في قول الأخطل: "ألا يا اسلمي.." البيت: العدى: التباعد. وقوم عدى: إذا كانوا متباعدين لا أرحام بينهم ولا حلف. وقوم عدى: إذا كانوا حربًا. وقد روى البيت بالكسر والضم، مثل سوى وسوى. الأصمعي: يقال: هؤلاء قوم عدى مقصور، يكون للأعداء وللغرباء. ولا يقال: قوم عدى (بضم العين) إلا أن تدخل الهاء، فتقول: عداة، في وزن قضاة. قال أبو زيد: طالت عدواءهم، أي تباعدهم وتفرقهم. وشاهد المؤلف في هذا البيت: أن حرف النداء يا، داخل على منادي محذوف. تقديره: ألا يا هذه اسلمي. وهو نظير قول الله عز وجل: "ألا يا اسجدوا" تقديره: ألا يا هؤلاء اسجدوا. فأضمر هؤلاء، اكتفاء بدلالة "يا" عليها.

(19/448)

*ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا ابن المبارك، عن ابن جُرَيج، قراءة عن مجاهد:(يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ ) قال: الغيث.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله:(يُخْرِجُ الْخَبْءَ ) قال: الغيث.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:(الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) قال: خبء السماء والأرض ما جعل الله فيها من الأرزاق، والمطر من السماء، والنبات من الأرض، كانتا رتقا لا تمطر هذه، ولا تنبت هذه، ففتق السماء، وأنزل منها المطر، وأخرج النبات.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا عيسى بن يونس، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن حكيم بن جابر، في قوله:(أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) ويعلم كل خفية في السموات والأرض.

حدثني محمد بن عمارة، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا أسامة بن زيد، عن معاذ بن عبد الله، قال: رأيت ابن عباس على بغلة يسأل تبعا ابن امرأة كعب: هل سألت كعبا عن البذر تنبت الأرضُ العامَ لم يصب العام الآخر؟ قال: سمعت كعبا يقول: البذر ينزل من السماء ويخرج من الأرض، قال: صدقت.

قال أبو جعفر: إنما هو تبيع، ولكن هكذا قال محمد: وقيل: يخرج الخبء في السموات والأرض، لأن العرب تضع "من" مكان "في" و "في" مكان "من" في الاستخراج(وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ) يقول: ويعلم السرّ من أمور خلقه، هؤلاء الذين زين لهم الشيطان أعمالهم والعلانية منها، وذلك على قراءة من قرأ ألا بالتشديد. وأما على قراءة من قرأ بالتخفيف فإن معناه: ويعلم ما يسره خلقه الذين أمرهم بالسجود بقوله: "ألا يا هؤلاء اسجدوا". وقد ذكر أن ذلك في قراءة أُبيّ: "ألا تَسْجُدُوا لِلهِ الَّذِي يَعْلَمُ سرَّكُمْ وما تُعْلِنُون".

وقوله:(اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ ) يقول تعالى ذكره: الله الذي لا تصلح العبادة إلا له، لا إله إلا هو، لا معبود سواه تصلح له العبادة، فأخلصوا له

(19/449)

قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)

العبادة، وأفردوه بالطاعة، ولا تشركوا به شيئا(رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) يعني بذلك: مالك العرش العظيم الذي كل عرش، وإن عظم، فدونه، لا يُشبهه عرش ملكة سبأ ولا غيره.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد; في قوله:(أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ) إلى قوله(لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) هذا كله كلام الهدهد.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق بنحوه.

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) }

يقول تعالى ذكره:( قَالَ ) سليمان للهدهد:( سَنَنظُرُ ) فيما اعتذرت به من العذر، واحتججت به من الحجة لغيبتك عنا، وفيما جئتنا به من الخير( أَصَدَقْتَ ) في ذلك كله(أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ) فيه(اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ )

فاختلف أهل التأويل في تأويل ذلك; فقال بعضهم: معناه: اذهب بكتابي هذا، فألقه إليهم، فانظر ماذا يَرْجِعونَ، ثم تول عنهم منصرفا إليّ، فقال: هو من المؤخَّر الذي معناه التقديم.

*ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: فأجابه سليمان، يعني أجاب الهدهد لما فرغ:( سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ) وانظر ماذا يرجعون، ثم تول عنهم منصرفا إلي. وقال: وكانت لها كوّة مستقبلة الشمس، ساعة تطلع الشمس تطلع فيها فتسجد لها، فجاء الهدهد حتى وقع فيها فسدها، واستبطأت الشمس، فقامت تنظر، فرمى بالصحيفة إليها من تحت جناحه، وطار حتى قامت تنظر الشمس.

قال أبو جعفر: فهذا القول من قول ابن زيد يدلّ على أن الهدهد تولى إلى سليمان راجعا بعد إلقائه الكتاب، وأن نظره إلى المرأة ما الذي ترجع وتفعل كان قبل إلقائه كتاب سليمان إليها.

(19/450)

قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)

وقال آخرون: بل معنى ذلك: اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم، ثم تولّ عنهم، فكن قريبا منهم، وانظر ماذا يرجعون; قالوا: وفعل الهدهد، وسمع مراجعة المرأة أهل مملكتها، وقولها لهم:(إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) وما بعد ذلك من مراجعة بعضهم بعضا.

*ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه، قوله:(فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ ) أي كن قريبا(فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ )وهذا القول أشبه بتأويل الآية؛ لأن مراجعة المرأة قومها، كانت بعد أن ألقي إليها الكتاب، ولم يكن الهدهد لينصرف وقد أمر بأن ينظر إلى مراجعة القوم بينهم ما يتراجعونه قبل أن يفعل ما أمره به سليمان.

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) }

يقول تعالى ذكره: فذهب الهدهد بكتاب سليمان إليها، فألقاه إليها فلما قرأته قالت لقومها:(يَاأَيُّهَا الْمَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ).

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

*ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه، قال: كتب -يعني سليمان بن داود- مع الهدهد: بسم الله الرحمن الرحيم من سليمان بن داود، إلى بلقيس بنت ذي سرح وقومها، أما بعد، فلا تعلو عليّ، وأتوني مسلمين، قال: فأخذ الهدهد الكتاب برجله، فانطلق به حتى أتاها، وكانت لها كوّة في بيتها إذا طلعت الشمس نظرت إليها، فسجدت لها، فأتى الهدهد الكوّة فسدّها بجناحيه حتى ارتفعت الشمس ولم تعلم، ثم ألقى الكتاب من الكوّة، فوقع عليها في مكانها الذي هي فيه، فأخذته.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن

(19/451)

قتادة، قال: بلغني أنها امرأة يقال لها بلقيس، أحسبه قال: ابنة شراحيل، أحد أبويها من الجنّ، مؤخر أحد قدميها كحافر الدابة، وكانت في بيت مملكة، وكان أولو مشورتها ثلاث مائة واثني عشر كلّ رجل منهم على عشرة آلاف، وكانت بأرض يقال لها مأرب، من صنعاء على ثلاثة أيام; فلما جاء الهدهد بخبرها إلى سليمان بن داود، كتب الكتاب وبعث به مع الهدهد، فجاء الهدهد وقد غَلقت الأبواب، وكانت تغلِّق أبوابها وتضع مفاتيحها تحت رأسها، فجاء الهدهد فدخل من كوّة، فألقى الصحيفة عليها، فقرأتها، فإذا فيها:( إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ) وكذلك كانت تكتب الأنبياء لا تطنب، إنما تكتب جملا.

قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: لم يزد سليمان على ما قصّ الله في كتابه إنه وإنه.

حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:(اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ) فمضى الهدهد بالكتاب، حتى إذا حاذى الملكة وهي على عرشها ألقى إليها الكتاب.

وقوله:(قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ) والملأ أشراف قومها، يقول تعالى ذكره: قالت ملكة سبأ لأشراف قومها:(يَاأَيُّهَا الْمَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ).

واختلف أهل العلم في سبب وصفها الكتاب بالكريم، فقال بعضهم: وصفته بذلك لأنه كان مختوما.

وقال آخرون: وصفته بذلك لأنه كان من ملك فوصفته بالكرم لكرم صاحبه. وممن قال ذلك ابن زيد.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:(إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ) قال: هو كتاب سليمان حيث كتب إليها.

وقوله(إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) كُسِرت إنَّ الأولى والثانية على الردّ على "إني" من قوله:(إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ). ومعنى الكلام: قالت: يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب، وإنه من سليمان.

وقوله(أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ) يقول: ألقي إليّ كتاب كريم

(19/452)

قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)

ألا تعلوا عليّ.

ففي "أنْ" وجهان من العربية: إن جعلت بدلا من الكتاب كانت رفعا بما رفع به الكتاب بدلا منه; وإن جعل معنى الكلام: إني ألقي إليّ كتاب كريم ألا تعلوا علي كانت نصبا بتعلق الكتاب بها.

وعنى بقوله:(أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ ) ألا تتكبروا ولا تتعاظموا عما دعوتكم إليه.

كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:(أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ ) ألا تمتنعوا من الذي دعوتكم إليه إن امتنعتم جاهدتكم، فقلت لابن زيد:(أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ ) ألا تتكبروا علي؟ قال: نعم; قال: وقال ابن زيد:(أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ) ذلك في كتاب سليمان إليها. وقوله:(وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ) يقول: وأقبلوا إليّ مذعنين لله بالوحدانية والطاعة.

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) }

يقول تعالى ذكره: قالت ملكة سبأ لأشراف قومها:(يَاأَيُّهَا الْمَلأ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ) تقول: أشيروا عليّ في أمري الذي قد حضرني من أمر صاحب هذا الكتاب الذي ألقي إليّ، فجعلت المشورة فتيا.

وقوله:(مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ ) تقول: ما كنت قاضية أمرا في ذلك حتى تشهدون، فأشاوركم فيه.

كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: دعت قومها تشاورهم(يَاأَيُّهَا الْمَلأ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ ) يقول في الكلام: ما كنت لأقطع أمرا دونك ولا كنت لأقضي أمرا، فلذلك قالت:(مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا ) بمعنى: قاضية.

وقوله:(قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ ) يقول تعالى ذكره: قال الملأ من قوم ملكة سبأ، إذ شاورتهم في أمرها وأمر سليمان: نحن ذوو القوّة على القتال، والبأس

(19/453)

قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34)

الشديد في الحرب، والأمر أيتها الملكة إليك في القتال وفي تركه، فانظري من الرأي ما ترين، فَمُرينا نأتمر لأمرك.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

*ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد:(قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ ) عرضوا لها القتال، يقاتلون لها، والأمر إليك بعد هذا،(فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ ).

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، قال: كان مع ملكة سبأ اثنا عشر ألف قيول (1) مع كل قيول مئة ألف.

حدثنا عمرو بن عليّ، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: كان مع بلقيس مائة ألف قيل، مع كل قيل مائة ألف.

قال: ثنا وكيع، قال: ثنا الأعمش، قال: سمعت مجاهدا يقول: كانت تحت يد ملكة سبأ اثنا عشر ألف قيول، والقيول بلسانهم: الملك تحت يد كلّ ملك مائة ألف مقاتل.

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) }

يقول تعالى ذكره: قالت صاحبة سبأ للملأ من قومها، إذ عرضوا عليها أنفسهم لقتال سليمان، إن أمرتهم بذلك:(إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً ) عنوة وغلبة( أفْسَدُوها ) يقول: خرّبوها(وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ) وذلك باستعبادهم الأحرار، واسترقاقهم إياهم; وتناهى الخبر منها عن الملوك في هذا الموضع فقال الله:(وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ) يقول تعالى ذكره: وكما قالت صاحبة سبأ تفعل الملوك، إذا دخلوا قرية عنوة.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

__________

(1) القَيْل بفتح فسكون: الملك الصغير في اليمن، وجمعه: أقيال وقيول. وأما القيول، ولعله بفتح القاف، للملك الواحد، فلم أجده بالمعاجم، ولعله لفظ عام عند اليمن.

(19/454)

وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)

*ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا أبو بكر، في قوله:(وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ) قال أبو بكر: هذا عنوة.

حدثنا أبو هشام الرفاعي، قال: ثنا أبو بكر، قال: ثنا الأعمش، عن مسلم، عن ابن عباس، في قوله:(إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا ) قال: إذا دخلوها عنوة خرّبوها.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قال ابن عباس:(قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ) قال ابن عباس: يقول الله:(وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ).

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) }

-------------

 

النمل - تفسير أضواء البيان

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة النمل

قوله تعالى: {هُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} .

تقدم إيضاحه بالآيات القرءانيّة في أوّل سورة "البقرة" ، في الكلام على قوله تعالى: {فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} .

قوله تعالى: {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً} .

إلى آخر القصة، تقدّم إيضاحه في "مريم" و "طه" ، و "الأعراف" .

قوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} .

قد قدّمنا أنها وراثة علم ودين، لا وراثة مال في سورة "مريم" ، في الكلام على قوله تعالى: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} ، وبيّنا هناك الأدلّة على أن الأنبياء صلوات اللَّه وسلامه عليهم لا يورث عنهم المال.

قوله تعالى: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} .

تقدّم إيضاحه بالآيات القرءانية في أوّل سورة "هود" ، في الكلام على قوله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ، وقوله: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ} ، كقوله تعالى: {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} ، وقوله تعالى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} ، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ} ، قال بعض أهل العلم: {الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ} : المطر، والخبء في الأرض: النبات، والمعادن، والكنوز، وهذا المعنى ملائم لقوله: {يُخْرِجُ الْخَبْءَ} ، وقال بعض أهل العلم: الْخَبْءَ: السرّ والغيب، أي:

(6/109)

يعلم ما غاب في السماواتوالأرض؛ كما يدلّ عليه قوله بعده: {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} ، وكقوله في هذه السورة الكريمة: {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} ، وقوله: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} ، كما أوضحناه في سورة "هود" ، وقرأ هذا الحرف عامّة القرّاء السبعة غير الكسائي: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ} بتشديد اللام في لفظة {أَلاّ} ، ولا خلاف على هذه القراءة أن يسجدوا فعل مضارع منصوب بأن المدغمة في لفظة لا، فالفعل المضارع على هذه القراءة، وأن المصدرية المدغمة في لا ينسبك منهما مصدر في محل نصب على الأظهر، وقيل في محل جرّ وفي إعرابه أوجه:

الأوّل: أنه منصوب على أنه مفعول من أجله، أي: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} ، من أجل {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ} ، أي: من أجل عدم سجودهم للَّه، أو {فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} ، لأجل {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ} ، وبالأوّل قال الأخفش. وبالثاني قال الكسائي، وقال اليزيدي وغيره: هو منصوب على أنه بدل من {أَعْمَالَهُمْ} ، أي: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} {أَلَّا يَسْجُدُوا} ، أي: عدم سجودهم، وعلى هذا فأعمالهم هي عدم سجودهم للَّه، وهذا الإعراب يدلّ على أن الترك عمل؛ كما أوضحناه في سورة "الفرقان" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} ، وقال بعضهم: إن المصدر المذكور في محل خفض على أنه بدل من {السَّبِيلِ} ، أو على أن العامل فيه {فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} ، وعلى هذين الوجهين فلفظة لا صلة، فعلى الأول منهما. فالمعنى: {فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} سجودهم للَّه، وعلى هذا فسبيل الحقّ الذي صدّوا عنه هو السجود للَّه، ولا زائدة للتوكيد. وعلى الثاني، فالمعنى: {فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} لأن يسجدوا للَّه، أي: للسجود له، ولا زائدة أيضًا للتوكيد، ومعلوم في علم العربية أن المصدر المنسبك من فعل، وموصول حرفي إن كان الفعل منفيًّا ذكرت لفظة عدم قبل المصدر، ليؤدى بها معنى النفي الداخل على الفعل، فقولك مثلاً: عجبت من أن لا تقوم، إذا سبكت مصدره لزم أن تقول: عجبت من عدم قيامك، وإذا كان الفعل مثبتًا لم تذكر مع المصدر لفظة عدم، فلو قلت: عجبت من أن تقوم، فإنك تقول في سبك مصدره: عجبت من قيامك؛ كما لا يخفى. وعليه: فالمصدر

(6/110)

المنسبك من قوله: {أَلَّا يَسْجُدُوا} يلزم أن يقال فيه عدم السجود إلا إذا اعتبرت لفطة لا زائدة، وقد أشرنا في سورة "الأعراف" ، في الكلام على قوله تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} ، إلى أنّا أوضحنا الكلام على زيادة لا لتوكيد الكلام في كتابنا "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب" ، في أوّل سورة "البلد" ، في الكلام على قوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} ، وسنذكر طرفًا من كلامنا فيه هنا.

فقد قلنا فيه: الأول وعليه الجمهور: أن لا هنا صلة على عادة العرب، فإنها ربما لفظت بلفظة لا من غير قصد معناها الأصلي بل لمجرّد تقوية الكلام وتوكيده؛ كقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ} ، يعني أن تتبّعني، وقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} ،أي: أن تسجد على أحد القولين. ويدلّ له قوله تعالى في سورة "ص?" : {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ، وقوله تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} ، وقوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} ، أي: فوربّك، وقوله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} ، أي: والسيّئة، وقوله تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} ، على أحد القولين. وقوله تعالى: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} ، على أحد القولين. وقوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا} ، على أحد الأقوال الماضية؛ وكقول أبي النجم:

فما ألوم البيض ألا تسخرا ... لما رأين الشمط القفندر

يعني: أن تسخر، وقول الآخر:

وتلحينني في اللهو ألا أحبه ... وللهو داع دائب غير غافل

يعني: أن أحبه، ولا زائدة. وقول الآخر:

أبى جوده لا البخل واستعجلت به ... نعم من فتى لا يمفع الجود قاتله

يعني: أبا جوده البخل، ولا زائدة على خلاف في زيادتها في هذا البيت الأخير، ولا سيّما على رواية البخل بالجرّ؛ لأن لا عليها مضاف بمعنى لفظة لا، فليست زائدة على رواية الجرّ، وقول امرىء القيس:

(6/111)

فلا وأبيك أنبت العامري ... لا يدعي القوم أني أفر

يعني: وأبيك، وأنشد الفراء لزيادة لا في الكلام الذي فيه معنى الجحد، قول الشاعر:

ما كان يرضى رسول اللَّه دينهم ... والأطيبان أبو بكر ولا عمر

يعني: عمر ولا صلة، وأنشد الجوهري لزيادتها قول العجاج:

في بئر لا حور سرى وما شعر ... بإفكه حتى رأى الصبح جشر

والحور: الهلكة، يعني: في بئر هلكة ولا صلة، قاله أبو عبيدة وغيره. وأنشد الأصمعي لزيادتها قول ساعدة الهذلي:

أفعنك لا برق كان وميضه ... غاب تسنمه ضرام مثقب

ويروى: أفمنك، وتشيمه بدل أفعنك وتسنمه، يعني: أفعنك برق، ولا صلة، ومن شواهد زيادتها قول الشاعر:

تذكرت ليلى فاعترتني صبابة ... وكاد صميم القلب لا يتقطع

يعني: كاد يتقطع، وأمّا استدلال أبي عبيدة لزيادتها بقول الشماخ:

أعائش ما لقومك لا أراهم ... يضيعون الهجان مع المضيع

فغلط منه، لأن لا في بيت الشماخ هذا نافية لا زائدة، ومقصوده أنها تنهاه عن حفظ ماله، مع أن أهلها يحفظون مالهم، أي: لا أرى قومك يضيعون مالهم وأنت تعاتبينني في حفظ مالي، وما ذكره الفراء من أن لفظة لا، لا تكون صلة إلاّ في الكلام الذي فيه معنى الجحد، فهو أغلبي لا يصح على الإطلاق، بدليل بعض الأمثلة المتقدّمة التي لا جحد فيها كهذه الآية، على القول بأنّ لا فيها صلة، وكبيت ساعدة الهذلي، وما ذكره الزمخشري من زيادة لا في أوّل الكلام دون غيره، فلا دليل عليه، انتهى محل الغرض من كتابنا "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب" .

وقرأ هذا الحرف الكسائي وحده من السبعة: {أَلاَ يَسْجُدُوا} بتخفيف اللام من قوله: {أَلاّ} ، وعلى قراءة الكسائي هذه، فلفظة {أَلاّ} حرف استفتاح، وتنبيه ويا

(6/112)

حرف نداء، والمنادى محذوف تقديره: ألا يا هؤلاء اسجدوا، واسجدوا فعل أمر ومعلوم في علم القراءات، أنك إذاقيل لك: قف على كل كلمة بانفرادها في قراءة الكسائي، أنك تقف في قوله: {أَلاَ يَسْجُدُوا} ، ثلاث وقفات، الأولى: أن تقف على ألا. والثانية: أن تقف على يا. والثالثة: أن تقف على اسجدوا، وهذا الوقف وقف اختبار لا وقف اختيار، وأمّا على قراءة الجمهور، فإنك تقف وقفتين فقط: الأولى: على {اَلاّ} ، ولا تقف على أن لأنها مدغمة في لا، والثانية: أنك تقف على {يَسْجُدُوا} .

واعلم أنه على قراءة الكسائي قد حذف في الخط ألفان، الأولى: الألف المتّصلة بياء النداء، والثانية: ألف الوصل في قوله: {اسْجُدُوا} ، ووجه بعض أهل العلم إسقاطهما في الخط، بأنهما لما سقطتا في اللفظ، سقطتا في الكتابة، قالوا: ومثل ذلك في القرءان كثير.

واعلم أن جمهور أهل العلم على ما ذكرنا في قراءة الكسائي من أن لفظة {أَلاّ} للاستفتاح والتنبيه، وأن يا حرف نداء حذف منه الألف في الخط، واسجدوا فعل أمر، قالوا: وحذف المنادى مع ذكر أداة النداء أسلوب عربي معروف، ومنه قول الأخطل:

ألا يا اسلمي يا هند هند بني بكر ... وإن كان حيّانا عدى آخر الدهر

وقول ذي الرمّة:

ألا يا سلمى يا دارمي على البلا ... ولا زال منهلاً بجرعائك القطر

فقوله في البيتين: ألا يا اسلمي، أي: يا هذه اسلمي، وقول الآخر:

لا يا اسلمي ذات الدماليج والعقد.

وقول الشمّاخ:

ألا يا اصبحاني قبل غارة سنجالي ... وقبل منايا قد حضرن وآجالي

يعني: ألا يا صحبي اصبحاني، ونظيره قول الآخر:

ألا يا اسقياني قبل خيل أبي بكر

ومنه قول الآخر:

(6/113)

فقالت ألا يا اسمع أعظك بخطبة ... فقلت سمعنا فانطقي وأصيبي

يعني: ألا يا هذا اسمع، وأنشد سيبويه لحذف المنادى مع ذكر أداته، قول الشاعر:

يا لعنة اللَّه والأقوام كلّهم ... والصالحين على سمعان من جار

بضمّ التاء من قوله: لعنة اللَّه، ثم قال: فيالغير اللعنة، يعني أن المراد: يا قوم لعنة اللَّه، إلى آخره. وأنشد صاحب اللسان لحذف المنادى، مع ذكر أداته مستشهدًا لقراءة الكسائي المذكورة، قول الشاعر:

يا قاتل اللَّه صبيانًا تجيء بهم ... أم الهنينين من زندلها وارى

ثم قال: كأنه أراد: يا قوم قاتل اللَّه صبيانًا، وقول الآخر:

يا من رأى بارقًا أكفكفه ... بين ذراعي وجبهة الأسد

ثم قال: كأنه دعا يا قوم يا إخوتي، فلمّا أقبلوا عليه قال: من رأى. وأنشد بعضهم لحذف المنادى مع ذكر أداته، قول عنترة في معلّقته:

يا شاة ما قنص لمن حلّت له ... حرمت على وليتها لم تحرم

قالوا: التقدير: يا قوم انظروا شاة ما قنص.

واعلم أن جماعة من أهل العلم، قالوا: إن يا على قراءة الكسائي، وفي جميع الشواهد التي ذكرنا ليست للنداء، وإنما هي للتنبيه فكل من ألا ويا: حرف تنبيه كرّر للتوكيد، وممّن روي عنه هذا القول: أبو الحسن بن عصفور، وهذا القول اختاره أبو حيّان في "البحر المحيط" ، قال فيه: "والذي أذهب إليه أن مثل هذا التركيب الوارد عن العرب ليست يا فيه للنداء، وحذف المنادى؛ لأن المنادى عندي لا يجوز حذفه، لأنه قد حذف الفعل العامل في النداء، وانحذف فاعله لحذفه، ولو حذف المنادى لكان في ذلك حذف جملة النداء، وحذف متعلّقه، وهو المنادى، فكان ذلك إخلالاً كبيرًا، وإذا أبقينا المنادى ولم نحذفه كان ذلك دليلاً على العامل فيه جملة النداء، وليس حرف النداء حرف جواب كنعم، ولا، وبلى، وأجل، فيجوز حذف الجمل بعدهنّ لدلالة ما سبق من السؤال على الجمل المحذوفة، فيا عندي في تلك التراكيب حرف تنبيه أكّد به إألا التي للتنبيه، وجاز ذلك لاختلاف الحرفين ولقصد المبالغة في التوكيد، وإذا كان قد وجد التوكيد في اجتماع

(6/114)

الحرفين المختلفي اللفظ، العاملين في قوله: فأصبحن لا يسألنني عن بما به، والمتفقي اللفظ العاملين في قوله:

ولا للما بهم أبدا دواء

وجاز ذلك، وإن عدوه ضرورة أو قليلاً، فاجتماع غير العاملين وهما مختلفا اللفظ يكون جائزًا، وليس يا في قوله:

يا لعنة اللَّه والأقوام كلّهم

حرف نداء عندي، بل حرف تنبيه جاء بعده المبتدأ، وليس مما حذف منه المنادى، لما ذكرناه". انتهى الغرض من كلام أبي حيان، وما اختاره له وجه من النظر.

قال مقيّده ـ عفا اللَّه عنه وغفر له ـ : وممّا له وجه من النظر عندي في قراءة الكسائي، أن يكون قوله: يا اسجدوا فعل مضارع حذفت منه نون الرفع، بلا ناصب، ولا جازم، ولا نون توكيد، ولا نون وقاية.

وقد قال بعض أهل العلم: إن حذفها لا لموجب، مما ذكر لغة صحيحة.

قال النووي في "شرح مسلم" ، في الجزء السابع عشر في صفحة 702، ما نصّه: "قوله: يا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كيف يسمعوا وأنّى يجيبوا وقد جيفوا، كذا هو في عامة النسخ، كيف يسمعوا، وأنّى يجيبوا من غير نون، وهي لغة صحيحة، وإن كانت قليلة الاستعمال، وسبق بيانها مرّات. ومنها الحديث السابق في "الإيمان" : "لا تدخلوا الجنّة حتّى تؤمنوا" "، انتهى منه. وعلى أن حذف نون الرفع لغة صحيحة، فلا مانع من أن يكون قوله تعالى: {يَسْجُدُوا} ، في قراءة الكسائي فعل مضارع، ولا شكّ أن هذا له وجه من النظر، وقد اقتصرنا في سورة "الحجر" ، على أن حذفها مقصور على السماع، وذكرنا بعد شواهده، والعلم عند اللَّه تعالى.

تنبيهان

الأول : اعلم أن التحقيق أن آية "النمل" هذه، محل سجدة على كلتا القراءتين؛ لأن قراءة الكسائي فيها الأمر بالسجود، وقراءة الجمهور فيها ذمّ تارك السجود وتوبيخه، وبه تعلم أن قول الزجاج ومن وافقه أنها ليست محل سجدة على قراءة الجمهور، وإنما هي

(6/115)

محل سجود على قراءة الكسائي خلاف التحقيق، وقد نبّه على هذا الزمخشري وغيره. التنبيه الثاني : اعلم أنه على قراءة الجمهور، لا يحسن الوقف على قوله: {لا يَهْتَدُونَ} ، وعلى قراءة الكسائي، يحسن الوقف عليه.

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} ، قرأه حفص والكسائي بالتاء الفوقية على الخطاب، وقرأه الباقون: يخفون، ويعلنون بالتحتية على الغيبة، والعلم عند اللَّه تعالى.

قوله تعالى: {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} .

جاء معناه موضحًا في آيات متعدّدة؛ كقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ} ، وقوله: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} ، وقوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ} .

قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} .

جاء معناه موضحًا أيضًا في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} ، وقوله تعالى: {فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} ، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} ، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} ، إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} .

ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أنه أرسل نبيّه صالحًا إلى ثمود، {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} ، ولم يبيّن هنا خصومة الفريقين، ولكنّه بيّن ذلك في سورة "الأعراف" ، في قوله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} ، فهذه خصومتهم وأعظم أنواع الخصومة، الخصومة في الكفر والإيمان.

(6/116)

قوله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} .

قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة "الرعد" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ} .

قوله تعالى: {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} .

قوله: {اطَّيَّرْنَا بِكَ} ، أي: تشاءمنا بك، وكان قوم صالح إذا نزل بهم قحط أو بلاء أو مصائب، قالوا: ما حاءنا هذا إلا من شؤم صالح، ومن آمن به. والتطيّر: التشاؤم، وأصل اشتقاقه من التشاؤم بزجر الطير.

وقد بيَّنا كيفية التشاؤم والتيامن بالطير في سورة "الأنعام" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} ، وقوله تعالى: {طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ} ، قال بعض أهل العلم: أي سببكم الذي يجيء منه خيركم وشرّكم عند اللَّه، فالشر الذي أصابكم بذنوبكم لا بشؤم صالح، ومن آمن به من قومه.

وقد قدّمنا معنى طائر الإنسان في سورة "بني إسرائيل" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} ، وما دلّت عليه هذه الآية الكريمة من تشاؤم الكفار بصالح ومن معه من المؤمنين، جاء مثله موضحًا في آيات أُخر من كتاب اللَّه؛ كقوله تعالى في تشاؤم فرعون وقومه بموسى: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} ، وقوله تعالى في تطيّر كفار قريش بنبيّنا صلى الله عليه وسلم: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} ، والحسنة في الآيتين: النعمة كالرزق والخصب والعافية، والسيّئة: المصيبة بالجدب والقحط، ونقص الأموال، والأنفس، والثمرات؛ وكقوله تعالى: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} ، أي: بليتكم جاءتكم من ذنوبكم وكفركم.

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} ، قال بعض العلماء:

(6/117)

تختبرون. وقال بعضهم: تعذبون؛ كقوله: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} ، وقد قدّمنا أن أصل الفتنة في اللغة، وضع الذهب في النار ليختبر بالسبك أزائف هو أم خالص؟ وأنها أطلقت في القرءان على أربعة معان:

الأول : إطلاقها على الإحراق بالنار؛ كقوله تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} ، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} ، أي: حرّقوهم بنار الأخدود على أحد التفسيرين، وقد اختاره بعض المحقّقين..

المعنى الثاني : إطلاق الفتنة على الاختبار، وهذا هو أكثرها استعمالاً؛ كقوله تعالى: {الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} ، وقوله تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} ، والآيات بمثل ذلك كثيرة.

الثالث : إطلاق الفتنة على نتيجة الاختبار إن كانت سيّئة خاصة، ومن هنا أطلقت الفتنة على الكفر والضلال؛ كقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} ، أي: لا يبقى شرك، وهذا التفسير الصحيح، دلَّ عليه الكتاب والسنّة.

أمّا الكتاب، فقد دلَّ عليه قوله بعده في "البقرة" : {وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} ، وفي "الأنفال" : {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} ، فإنه يوضح أن معنى: {لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} ، أي: لا يبقى شرك؛ لأن الدين لا يكون كلّه للَّه، ما دام في الأرض شرك، كما ترى.

وأمّا السنة: ففي قوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أُقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إلاه إلاّ اللَّه" ، الحديث. فقد جعل صلى الله عليه وسلم الغاية التي ينتهي إليها قتاله للناس، هي شهادة ألا إلاه إلاّ اللَّه، وأنّ محمّداً رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو واضح في أن معنى: {لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} : لا يبقى شرك، فالآية والحديث كلاهما دالّ على أن الغاية التي ينتهي إليها قتال الكفاء هي ألا يبقى في الأرض شرك، إلاّ أنّه تعالى في الآية عبّر عن هذا المعنى بقوله: {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} ، وقد عبّر صلى الله عليه وسلم عنه بقوله: "حتى يشهدوا ألا إلاه إلاّ اللَّه" ، فالغاية في الآية والحديث واحدة في المعنى، كما ترى.

ا لرابع : هو إطلاق الفتنة على الحجّة، في قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ

(6/118)

قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} ، أي: لم تكن حجتهم، كما قاله غير واحد، والعلم عند اللَّه تعالى. قوله تعالى: {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} . قد دلَّت هذه الآية الكريمة على أن نبيّ اللَّه صالحًا عليه وعلى نبيّنا الصّلاة والسّلام نفعه اللَّه بنصرة وليّه، أي: أوليائه؛ لأنه مضاف إلى معرفة، ووجه نصرتهم له: أن التسعة المذكورين في قوله تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا} ، أي: تحالفوا باللَّه، {لَنُبَيِّتَنَّهُ} ، أي: لنباغتنه بياتًا، أي: ليلاً فنقتله ونقتل أهله معه، {لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ} ، أي: أوليائه وعصبته، {مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ} ، أي: ولا مهلكه هو، وهذا يدلّ على أنهم لا يقدرون أن يقتلوه علنًا، لنصرة أوليائه له، وإنكارهم شهود مهلك أهله دليل على خوفهم من أوليائه، والظاهر أن هذه النصرة عصبية نسبية لا تمتّ إلى الدين بصلة، وأن أولياءه ليسوا مسلمين.

وقد قدّمنا الآيات الموضحة لهذا المعنى في سورة "هود" ، في الكلام على قوله تعالى: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} ، وفي سورة "بني إسرائيل" ، في الكلام على قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} . وقوله تعالى في هذه الآية: {تَقَاسَمُوا} ، التحقيق أنه فعل أمر محكي بالقول. وأجاز الزمخشري، وابن عطية أن يكون ماضيًا في موضع الحال، والأوّل هو الصواب إن شاء اللَّه، ونسبه أبو حيان للجمهور، وقوله في هذه الآية: {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} ، التحقيق فيه أنهم كاذبون في قولهم: {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} ، كما لا يخفى، وبه تعلم أن ما تكلفه الزمخشري في "الكشاف" ، من كونهم صادقين لا وجه له، كما نبّه عليه أبو حيان وأوضحه، وقرأ عامة السبعة غير حمزة والكسائي {لَنُبَيِّتَنَّهُ} بالنون المضمومة بعد اللام، وفتح الفوقية المثناة التي بعد التحتية المثناة، وقرأ حمزة والكسائي: {لَنُبَيِّتَنَّهُ} بالتاء الفوقية المضمومة بعد اللام، وضمّ التاء الفوقية التي بعد الياء التحتية، وقرأ عامة السبعة أيضاً غير حمزة والكسائي: {ثُمَّ لَنَقُولَنَّ} ، بالنون المفتوحة موضع التاء، وفتح اللام الثانية، وقرأ حمزة والكسائي: {ثُمَّ لَنَقُولَنَّ} ، بفتح التاء الفوقية بعد

(6/119)

اللام الأولى، وضمّ اللام الثانية، وقرأ عاصم: {مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ} بفتح الميم، والباقون بضمّها، وقرأ حفص عن عاصم: {مُهْلِكَ} بكسر اللام، والباقون بفتحها.

فتحصل أن حفصًا عن عاصم قرأ {مَهْلِكَ} بفتح الميم وكسر اللام، وأن أبا بكر -أعني شعبة- قرأ عن عاصم: {مَهْلَكَ} بفتح الميم واللام، وأن غير عاصم قرأ: {مُهْلَكَ أَهْلِهِ} ، بضم الميم وفتح اللام، فعلى قراءة من قرأ {مَهْلِكَ} بفتح الميم، فهو مصدر ميمي من هلك الثلاثي، ويحتمل أن يكون اسم زمان أو مكان، وعلى قراءة من قرأ {مُهْلِكَ} بضم الميم، فهو مصدر ميمي من أهلك الرباعي، ويحتمل أن يكون أيضًا اسم مكان أو زمان.

قوله تعالى: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} .

ذكر جلَّ وعلا في هذه الآيات الكريمة، ثلاث أمور:

الأول : أنه دمّر جميع قوم صالح، ومن جملتهم تسعة رهط الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وذلك في قوله: {أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} ، أي: وهم قوم صالح ثمود، {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} ، أي: خالية من السكان لهلاك جميع أهلها، {بِمَا ظَلَمُوا} ، أي: بسبب ظلمهم الذي هو كفرهم وتمرّدهم وقتلهم ناقة اللَّه التي جعلها آية لهم، وقال بعضهم: {خَاوِيَةً ٍ} ، أي: ساقطًا أعلاها على أسفلها.

الثاني : أنه جلَّ وعلا جعل إهلاكه قوم صالح آية، أي: عبرة يتّعظ بها من بعدهم، فيحذر من الكفر، وتكذيب الرسل، لئلا ينزل به ما نزل بهم من التدمير، وذلك في قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} .

الثالث : أنه تعالى أنجى الذين آمنوا وكانوا يتّقون من الهلاك والعذاب، وهو نبيّ اللَّه صالح ومن آمن به من قومه، وذلك في قوله تعالى: {وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} ، وهذه الأمور الثلاثة التي ذكرها جلَّ وعلا هنا، جاءت موضحة في آيات أُخر.

أما إنجاؤه نبيّه صالحًا، ومن آمن به وإهلاكه ثمود، فقد أوضحه جلَّ وعلا في

(6/120)

مواضع من كتابه؛ كقوله في سورة "هود" : {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ * وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ} . وآية "هود" هذه، قد بيَّنت أيضًا التدمير المجمل في آية "النمل" هذه، فالتدمير المذكور في قوله تعالى: {أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} ، بيّنت آية "هود" أنه الإهلاك بالصيحة، في قوله تعالى: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} ، أي: وهم موتى. وأمّا كونه جعل إهلاكه إياهم أية، فقد أوضحه أيضًا في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالى فيهم: {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ * فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} ، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} ، قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: {إِنَّا دَمَّرْنَاهُمْ} بكسرة همزة {إِنَاْ} على الاستئناف، وقرأه الكوفيون وهم: عاصم وحمزة والكسائي: {أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ} ، بفتح همزة {أَنَاْ} . وفي إعراب المصدر المنسبك من أن وصلتها على قراءة الكوفيين أوجه، منها: أنه بدل من عاقبة مكرهم، ومنها: أنه خبر مبتدأ محذوف، وتقديره هي، أي: عاقبة مكرهم تدميرنا إياهم.

وهذان الوجهان هما أقرب الأوجه عندي للصواب، ولذا تركنا غيرهما من الأوجه، والضمير في قوله: {مَكْرِهِمْ} ، وفي قوله: {دَمَّرْنَاهُمْ} ، راجع إلى التسعة المذكورين في قوله: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ} ، وقوله: {خَاوِيَةً} حال في بيوتهم، والعامل فيه الإشارة الكامنة في معنى تلك.

قوله تعالى: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} إلى قوله تعالى {فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} .

قد قدّمنا الآيات التي فيها إيضاح قصة لوط وقومه في سورة "هود" ، في الكلام على قصة لوط وقومه، وبيّنا هناك كلام أهل العلم ومناقشة أدلّتهم في عقوبة فاعل فاحشة اللواط، وذكرنا الآيات المبيّنة لها أيضًا في سورة "الحجر" ، في الكلام على قصة لوط وقومه، وذكرنا بعض ذلك في سورة "الفرقان" .

(6/121)

وقوله تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} . وقوله تعالى: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارا} .

قد أوضحنا ما تضمُّنته من البراهين على البعث في أوّل سورة "البقرة" ، وأوّل سورة "النحل" .

قوله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} .

قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة "الأنعام" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} ، وفي مواضع أُخر.

قوله تعالى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} .

أظهر أقوال أهل العلم عندي في هذه الآية الكريمة أن المعنى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ} ، أي: تكامل علمهم في الآخرة حين يعاينونها، أي: يعلمون في الآخرة علمًا كاملاً، ما كانوا يجهلونه في الدنيا، وقوله: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} ، أي: في دار الدنيا، فهذا الذي كانوا يشكّون فيه في دار الدنيا، ويعمون عنه مما جاءتهم به الرسل، يعلمونه في الآخرة علمًا كاملاً لا يخالجه شكّ، عند معاينتهم لما كانوا ينكرونه منه البعث والجزاء.

وإنما اخترنا هذا القول دون غيره من أقوال المفسّرين في الآية، لأن القرءان دلَّ عليه دلالة واضحة في آيات متعدّدة؛ كقوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} ، فقوله: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} ، بمعنى: ما أسمعهم وما أبصرهم للحق الذي كانوا ينكرونه يوم يأتوننا، أي: يوم القيامة، وهذا يوضح معنى قوله: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ} ، أي: تكامل علمهم فيها لمبالغتهم في سمع الحق وإبصاره في ذلك الوقت، وقوله: {لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} ، يوضح معنى قوله: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} ، لأن ضلالهم المبيّن اليوم، أي: في دار الدنيا، هو شكّهم في الآخرة، وعماهم عنها؛

(6/122)

عنها وكقوله تعالى: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} ، أي: علمك اليوم بما كنت تنكره في الدنيا مما جاءتك به الرسل حديد، أي: قوي كامل.

وقد بيَّنا في كتابنا "دفع إبهام الاضطراب عن آيات الكتاب" ، في سورة "الشورى" ، في الجواب عمّا يتوهم من التعارض بين قوله تعالى: {نْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} ، وقوله تعالى: {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} ، أن المراد بحدّة البصر في ذلك اليوم: كما العلم وقوّة المعرفة. وقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} ، فقوله: {إِنَّا مُوقِنُونَ} أي: يوم القيامة، يوضح معنى قوله هنا: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ} ، وكقوله تعالى: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً} ، فعرضهم على ربهم صفًّا يتدارك به علمهم، لما كانوا ينكرونه، وقوله: {بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِدًا} ، صريح في أنهم في الدنيا كانوا في شكّ وعمى عن البعث والجزاء كما ترى، إلى غير ذلك من الآيات.

واعلم أن قوله: {بَلِ ادَّارَكَ} ، فيه اثنتا عشرة قراءة اثنتان منها فقط سبعيّتان، فقد قرأه عامّة السبعة، غير ابن كثير وأبي عمرو: {بَلِ ادَّارَكَ} بكسر اللام من {بَلِ} وتشديد الدال بعدها ألف والألف التي قبل الدال همزة وصل، وأصله: تدارك بوزن: تفاعل، وقد قدّمنا وجه الإدغام، واستجلاب همزة الوصل في تفاعل وتفعل وأمثلة ذلك في القرءان، وبعض شواهده العربية في سورة "طه" ، في الكلام على قوله تعالى: {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} ، وقرأه ابن كثير وأبو عمرو: {بَلْ أدْرََكَ} بسكون اللام من {بَلْ} ، وهمزة قطع مفتوحة، مع سكون الدال على وزن: أفعل.

والمعنى على قراءة الجمهور: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ} ، أي: تدارك بمعنى تكامل؛ كقوله: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً} ، وعلى قراءة ابن كثير وأبي عمرو: {بَلْ أدْرََكَ} .

قال البغوي: "أي: بلغ ولحق، كما يقال: أدرك علمي إذا لحقه وبلغه، والإضراب في قوله تعالى: {بَلِ ادَّارَكَ} ، {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا} ، {بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} ، إضراب انتقالي، والظاهر أن من في قوله تعالى: {بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} ، بمعنى: عن،

(6/123)

و {عَمُونَ} جمع عم، وهو الوصف من عمى يعمي فهو أعمى وعم، ومنه قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً عَمِينَ} ، وقول زهير في معلّقته:

وأعلم علم اليوم والأمس قبله ... ولكنني عن علم ما في غد عم

قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} .

ومن ذلك اختلافهم في عيسى، فقد قدَّمنا في سورة "مريم" ، ادّعاءهم على أُمّه الفاحشة، مع أن طائفة منهم آمنت به؛ كما يشير إليه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ} ،والطائفة التي آمنت قالت الحق في عيسى، والتي كفرت افترت عليه وعلى أُمّه، كما تقدّم إيضاحه في سورة "مريم" .

وقد قصّ اللَّه عليهم في سورة "مريم" و سورة "النساء" وغيرهما، حقيقة عيسى ابن مريم، وهي أنه {عَبْدُ الله} ورسوله {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} ، ولمّا بيَّن لهم حقيقة أمره مفصّلة في سورة "مريم" ، قال: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} ، وذلك يبيّن بعض ما دلّ عليه قوله تعالى هنا: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} .

قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} .

قد قدّمنا الآيات الموضحة له في أوّل سورة "الكهف" ، في الكلام على قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} .

قوله تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} .

اعلم أن التحقيق الذي دلّت عليه القرائن القرءانيّة واستقراء القرءان، أن معنى قوله: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ، لا يصح فيه من أقوال العلماء، إلا تفسيران:

الأول: أن المعنى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ، أي: لا تسمع الكفار الذين أمات اللَّه قلوبهم، وكتب عليهم الشقاء في سابق علمه إسماع هدى وانتفاع؛ لأن اللَّه كتب عليهم الشقاء، فختم على قلوبهم، وعلى سمعهم، وجعل على قلوبهم الأكنة، وفي آذانهم الوقر،

(6/124)

وعلى أبصارهم الغشاوة، فلا يسمعون الحقّ سماع اهتداء وانتفاع. ومن القرائن القرءانية الدالَّة على ما ذكرنا، أنّه جلَّ وعلا قال بعده: {إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} .

فاتّضح بهذه القرينة أن المعنى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ، أي: الكفار الذين هم أشقياء في علم اللَّه إسماع هدى وقبول للحق، ما تسمع ذلك الإسماع {إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} ، فمقابلته جلَّ وعلا بالإسماع المنفي في الآية عن الموتى بالإسماع المثبت فيها، لمن يؤمن بآياته، فهو مسلم دليل واضح على أن المراد بالموت في الآية موت الكفر والشقاء، لا موت مفارقة الروح للبدن، ولو كان المراد بالموت في قوله: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ، مفارقة الروح للبدن لما قابل قوله: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ، بقوله: {إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا} ، بل لقابله بما يناسبه، كأن يقال: آن تسمع إلاّ من لم يمت، أي: يفارق روحه بدنه، كما هو واضح.

وإذا علمت أن هذه القرينة القرءانيّة دلّت على أن المراد بالموتى هنا الأشقياء، الذين لا يسمعون الحقّ سماع هدى وقبول.

فاعلم أن استقراء القرءان العظيم يدلّ على هذا المعنى؛ كقوله تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} ، وقد أجمع من يعتدّ به من أهل العلم أن المراد بالموتى في قوله: {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} : الكفّار، ويدلّ له مقابلة الموتى في قوله: {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} بالذين يسمعون، في قوله: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} ، ويوضح ذلك قوله تعالى قبله: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} ، أي: فافعل، ثم قال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ * إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} ، وهذا واضح فيما ذكرنا. ولو كان يراد بالموتى من فارقت أرواحهم أبدانهم لقابل الموتى بما يناسبهم؛ كأن يقال: إنما يستجيب الأحياء، أي: الذين لم تفارق أرواحهم أبدانهم، وكقوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .

(6/125)

فقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً} ، أي: كافرًا فأحييناه، أي: بالإيمان والهدى، وهذا لا نزاع فيه، وفيه إطلاق الموت وإرادة الكفر بلا خلاف؛ وكقوله: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} ، وكقوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ} ، أي: لا يستوي المؤمنون والكافرون.

ومن أوضح الأدلّة على هذا المعنى، أن قوله تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} الآية، وما في معناها من الآيات كلّها، تسلية له صلى الله عليه وسلم، لأنه يحزنه عدم إيمانهم، كما بيّنه تعالى في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} ، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} ، وقوله: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} ، وقوله تعالى: {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} ، وكقوله تعالى: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} ، وقوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} ، وقوله تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} ، إلى غير ذلك من الآيات، كما تقدّم إيضاحه. ولما كان يحزنه كفرهم وعدم إيمانهم، أنزل اللَّه آيات كثيرة تسلية له صلى الله عليه وسلم بيّن له فيها أنه لا قدرة له صلى الله عليه وسلم على هدي من أضلّه اللَّه، فإن الهدى والإضلال بيده جلَّ وعلا وحده، وأوضح له أنه نذير، وقد أتى بما عليه فأنذرهم على أَكمل الوجوه وأبلغها، وأن هداهم وإضلالهم بيد من خلقهم.

ومن الآيات النازلة تسلية له صلى الله عليه وسلم، قوله هنا: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ، أي: لا تسمع من أضلّه اللَّه إسماع هدى وقبول، {إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا} ، يعني: ما تسمع إسماع هدى وقبول، إلاّ من هديناهم للإيمان بآياتنا {فَهُمْ مُسْلِمُونَ} .

والآيات الدالَّة على هذا المعنى كثيرة؛ كقوله تعالى: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} ، وقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ، وقوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} ، وقوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} ، إلى غير

(6/126)

ذلك من الآيات. ولو كان معنى الآية وما شابهها: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ، أي: الذين فارقت أرواحهم أبدانهم لما كان في ذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم، كما ترى.

واعلم: أن آية "النمل" هذه، حاءت آيتان أُخريان بمعناها:

الأولى منهما : قوله تعالى في سورة "الروم" : {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} ، ولفظ آية "الروم" هذه، كلفظ آية "النمل" التي نحن بصددها، فيكفي في بيان آية "الروم" ، ما ذكرنا في آية "النمل" .

والثانية منهما : قوله تعالى في سورة "فاطر" : {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} ، وآية "فاطر" هذه كآية "النمل" و "الروم" المتقدمتين، لأن المراد بقوله فيها: {مَنْ فِي الْقُبُورِ} الموتى، فلا فرق بي قوله: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ، وبين قوله: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} ؛ لأن المراد بالموتى ومن في القبور واحد؛ كقوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} ، أي: يبعث جميع الموتى من قُبِر منهم ومن لم يقبر، وقد دلَّت قرائن قرءانيّة أيضًا على أن معنى آية "فاطر" هذه كمعنى? آية "الروم" ، منها قوله تعالى قبلها: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} ، لأن معناها: لا ينفع إنذارك إلا من هداه اللَّه ووفّقه فصار ممن يخشى ربّه بالغيب ويقيم الصلاة، {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} ، أي: الموتى، أي: الكفار الذين سبق لهم الشقاء، كما تقدّم. ومنها قوله تعالى أيضًا: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} ، أي: المؤمن والكافر. وقوله تعالى (بعدها): {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ} ، أي: المؤمنون والكفار. ومنها قوله تعالى بعده: {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} (52/32)، أي: ليس الإضلال والهدى بيدك ما أنت إلا نذير، أي: وقد بلّغت.

التفسير الثاني: هو أن المراد بالموتى الذين ماتوا بالفعل، ولكن المراد بالسماع المنفي في قوله: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} خصوص السماع المعتاد الذي ينتفع صاحبه به، وأن هذا مثل ضرب للكفار، والكفار يسمعون الصوت، لكن لا يسمعون سماع قبول بفقه واتّباع؛ كما قال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً

(6/127)

وَنِدَاءً} ، فهكذا الموتى الذين ضرب بهم المثل لا يجب أن ينفى عنهم جميع أنواع السماع، كما لم ينف ذلك عن الكفار، بل قد انتفى عنهم السماع المعتاد الذين ينتفعون به، وأمّا سماع آخر فلا، وهذا التفسير الثاني جزم به واقتصر عليه أبو العباس ابن تيمية، كما سيأتي إيضاحه إن شاء اللَّه في هذا المبحث.

وهذا التفسير الأخير دلَّت عليه أيضًا آيات من كتاب اللَّه، جاء فيها التصريح بالبكم والصمم والعمى مسندًا إلى قوم يتكلّمون ويسمعون ويبصرون، والمراد بصممهم، صممهم عن سماع ما ينفعهم دون غيره، فهم يسمعون غيره، وكذلك في البصر والكلام، وذلك كقوله تعالى في المنافقين: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} ، فقد قال فيهم: {صُمٌّ بُكْمٌ} مع شدّة فصاحتهم وحلاوة ألسنتهم، كما صرّح به في قوله تعالى فيهم: {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} ، أي: لفصاحتهم، وقوله تعالى: {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} ، فهؤلاء الذين إن يقولوا تسمع لقولهم، وإذا ذهب الخوف سلقوا المسلمين بألسنة حداد، هم الذين قال اللَّه فيهم: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} ، وما ذلك إلاَّ أن صممهم وبكمهم وعماهم بالنسبة إلى شىء خاص، وهو ما ينتفع به من الحقّ، فهذا وحده هو الذي صمّوا عنه فلم يسمعوه، وبكموا عنه فلم ينطقوا به، وعموا عنه فلم يروه مع أنهم يسمعون غيره ويبصرونه، وينطقون به؛ كما قال تعالى: {َجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ} ، وهذا واضح كما ترى.

وقد أوضحنا هذا غاية الإيضاح مع شواهده العربية في كتابنا "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب" ، في سورة "البقرة" ، في الكلام على وجه الجمع بين قوله في المنافقين: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} ، مع قوله فيهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} ، وقوله فيهم: {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} ، وقوله فيهم أيضًا: {وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} ، وقد أوضحنا هناك أن العرب تطلق الصمم وعدم السماع على السماع، الذي لا فائدة فيه، وذكرنا بعض الشواهد العربية على ذلك.

مسألة تتعلق بهذه الآية الكريمة

اعلم أن الذي يقتضي الدليل رجحانه هو أن الموتى في قبورهم يسمعون كلام من

(6/128)

كلّمهم، وأن قول عائشة رضي اللَّه عنها ومن تبعها: إنهم لا يسمعون، استدلالاً بقوله تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ، وما جاء بمعناها من الآيات غلط منها رضي اللَّه عنها، وممن تبعها.

وإيضاح كون الدليل يقتضي رجحان ذلك، مبني على مقدّمتين:

الأولى منهما: أن سماع الموتى ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في أحاديث متعدّدة، ثبوتًا لا مطعن فيه، ولم يذكر صلى الله عليه وسلم أن ذلك خاص بإنسان ولا بوقت.

والمقدمة الثانية: هي أن النصوص الصحيحة عنه صلى الله عليه وسلم في سماع الموتى لم يثبت في الكتاب، ولا في السنة شىء يخالفها، وتأويل عائشة رضي اللَّه عنها بعض الآيات على معنى يخالف الأحاديث المذكورة، لا يجب الرجوع إليه؛ لأن غيره في معنى الآيات أولى بالصواب منه، فلا ترد النصوص الصحيحة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بتأوّل بعض الصحابة بعض الآيات، وسنوضح هنا إن شاء اللَّه صحة المقدمتين المذكورتين، وإذا ثبت بذلك أن سماع الموتى ثابت عنه صلى الله عليه وسلم من غير معارض صريح، علم بذلك رجحان ما ذكرنا، أن الدليل يقتضي رجحانه.

أمّا المقدمة الأولى، وهي ثبوت سماع الموتى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد قال البخاري في صحيحه: "حدّثني عبد اللَّه بن محمد، سمع روح بن عبادة، حدّثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، قال: ذكر لنا أنس بن مالك عن أبي طلحة أن نبيّ اللَّه صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلاً من صناديد قريش، فقذفوا في طوى من أطواء بدر خبيث مخبث، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال، فلمّا كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشدّ عليها رحلها، ثم مشى واتّبعه أصحابه، وقالوا: ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته، حتى قام على شفة الركي، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: "يا فلان ابن فلان، ويا فلان ابن فلان، أيسرّكم أنكم أطعتم اللَّه ورسوله، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربّنا حقًا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًا" ؟ قال: فقال عمر: يا رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- ما تكلم من أجساد لا أرواح لها?! فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمّد بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم" ، قال قتادة: "أحياهم اللَّه له، حتى أسمعهم توبيخًا وتصغيرًا ونقمة وحسرة وندمًا" ، فهذا الحديث الصحيح أقسم فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم أن الأحياء الحاضرين ليسوا بأسمع لما يقول صلى الله عليه وسلم من أولئك الموتى بعد ثلاث، وهو نص صحيح صريح في سماع الموتى، ولم يذكر صلى الله عليه وسلم في ذلك

(6/129)

تخصيصًا، وكلام قتادة الذي ذكره عنه البخاري اجتهاد منه، فيما يظهر.

وقال البخاري في "صحيحه" أيضًا: "حدثني عثمان، حدّثني عبدة عن هشام عن أبيه، عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما، قال: وقف النبيّ صلى الله عليه وسلم على قليب بدر، فقال: "هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً" ؟ ثم قال: "إنهم الآن يسمعون ما أقول" ، فذكر لعائشة، فقالت: إنما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق" ، ثم قرأت: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ، حتى قرأت الآية"، انتهى من صحيح البخاري. وقد رأيته أخرج عن صحابيين جليلين، هما: ابن عمر، وأبو طلحة، تصريح النبيّ صلى الله عليه وسلم بأن أُولئك الموتى يسمعون ما يقول لهم، وردّ عائشة لرواية ابن عمر بما فهمت من القرءان مردود، كم سترى إيضاحه إن شاء اللَّه تعالى.

وقد أوضحنا في سورة "بني إسرائيل" ، في الكلام على قوله تعالى: {لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ، أن ردّها على ابن عمر أيضًا روايته عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أن الميّت يعذّب ببكاء أهله بما فهمت من الآية مردود أيضًا، وأوضحنا أن الحقّ مع ابن عمر في روايته لا معها، فيما فهمت من القرءان. وقال البخاري في "صحيحه" أيضًا: "حدّثنا عياش، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا سعيد، قال: وقال لي خليفة: حدثنا ابن زريع، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس رضي اللَّه عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إن العبد إذ وضع في قبره وتولّى عنه أصحابه، وإنه ليسمع قرع نعالهم، أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل محمّد صلى الله عليه وسلم؟ فيقول: أشهد أنه عبد اللَّه ورسوله، فيقال: أنظر إلى مقعدك من النار أبدلك اللَّه به مقعدًا في الجنّة" الحديث، وقد رأيت في هذا الحديث الصحيح تصريح النبيّ صلى الله عليه وسلم بأن الميّت في قبره، يسمع قرع نعال من دفنوه إذا رجعوا، وهو نص صحيح صريح في سماع الموتى، ولم يذكر صلى الله عليه وسلم فيه تخصيصًا.

وقال مسلم بن الحجاج رحمه اللَّه في "صحيحه" : "حدّثني إسحاق بن عمر بن سليط الهذلي، حدّثنا سليمانبن المغيرة، عن ثابت، قال: قال أنس: كنت مع عمر (ح)، وحدثنا شيبان بن فروخ، واللفظ له: حدّثنا سليمانبن المغيرة بن ثابت، عن أنس بن مالك، قال: كنّا مع عمر بين مكّة والمدينة فتراءينا الهلال، الحديث. وفيه: فقال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس، يقول: "هذا مصرع فلان غدًا إن شاء اللَّه" ، قال: فقال عمر: فوالذي بعثه بالحقّ ما أخطأوا الحدود التي حدّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فجعلوا في بئر

(6/130)

بعضهم على بعض، فانطلق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إليهم، فقال: "يا فلان ابن فلان، ويا فلان ابن فلان، هل وجدتم ما وعدكم اللَّه ورسوله حقًّا؟ فإني قد وجدت ما وعدني اللَّه حقًّا" قال عمر: يا رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- كيف تكلّم أجسادًا لا أرواح فيها؟ قال:

"ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا عليّ شيئًا" . حدّثنا هداب بن خالد، حدّثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ترك قتلى بدر ثلاثًا ثم أتاهم، فقام عليهم فناداهم، فقال: "يا أبا جهل بن هشام، يا أُميّة بن خلف، يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، أليس قد وجدتم ما وعدكم اللَّه حقًّا، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقًّا" ، فسمع عمر قول النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه? كيف يسمعوا وأنّى يجيبوا، وقد جيفوا؟ قال: "والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا" ، ثم أمر بهم فسحبوا، فألقوا في قليب بدر". ثم ذكر مسلم بعد هذا رواية أنس عن أبي طلحة، التي ذكرناها عن البخاري، فترى هذه الأحاديث الثابتة في الصحيح عن عمر وابنه، وأنس، وأبي طلحة رضي اللَّه عنهم، فيها التصريح من النبيّ صلى الله عليه وسلم بأن الأحياء الحاضرين ليسوا بأسمع من أولئك الموتى لما يقوله صلى الله عليه وسلم، وقد أقسم صلى الله عليه وسلم على ذلك ولم يذكر تخصيصًا، وقال مسلم رحمه اللَّه في "صحيحه" أيضًا: "حدّثنا عبد بن حميد، حدّثنا يونس بن محمد، حدّثنا شيبان بن عبد الرحمن، عن قتادة، حدّثنا أنس بن مالك، قال: قال نبيّ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن العبد إذا وُضع في قبره وتولّى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم" ، قال: "يأتيه ملكان فيعقدانه" الحديث، وفيه تصريح النبيّ صلى الله عليه وسلم بسماع الميّت في قبره قرع النعال، وهو نصّ صحيح صريح في سماع الموتى، وظاهره العموم في كل من دفن وتولّى عنه قومه، كما ترى.

ومن الأحاديث الدالَّة على عموم سماع الموتى، ما رواه مسلم في صحيحه: "حدّثنا يحيبن يحي التميمي، ويحيبن أيوب، وقتيبة بن سعيد، قال يحيى بن يحيى?: أخبرنا، وقال الآخران: حدّثنا إسماعيلبن جعفر عن شريك، وهو ابن أبي نمر، عن عطاء بن يسار، عن عائشة رضي اللَّه عنها، أنّها قالت: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كلّما كان ليلتها من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يخرج من آخر الليل إلى البقيع، فيقول: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون غدًا مؤجلون، وإنا إن شاء اللَّه بكم لاحقون، اللَّهمّ اغفر لأهل بقيع الفرقد" ، ولم يقم قتيبة قوله: "وأتاكم ما توعدون" ، وفي رواية في صحيح مسلم عنها، قالت: كيف أقول لهم يا رسول اللَّه ــ صلى الله عليه وسلم ــ ؟ قال: "قولي: السلام على أهل

(6/131)

الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم اللَّه المستقدمين منّا والمستأخرين، وإنّا إن شاء اللَّه بكم للاحقون" ، ثم قال مسلم رحمه اللَّه: حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب، قالا: حدّثنا محمد بن عبد اللَّه الأسدي عن سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمانبن بريدة، عن أبيه، قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعلّمهم إذا خرجوا إلى المقابر، فكان قائلهم يقول في رواية أبي بكر: "السلام على أهل الديار" ، وفي رواية زهير: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء اللَّه بكم للاحقون، نسأل اللَّه لنا ولكم العافية" ، انتهى من "صحيح مسلم" .

وخطابه صلى الله عليه وسلم لأهل القبور بقوله: "السلام عليك" ، وقوله: "وإنا إن شاء اللَّه بكم" ، ونحو ذلك يدلّ دلالة واضحة على أنهم يسمعون سلامه لأنهم لو كانوا لا يسمعون سلامه وكلامه لكان خطابه لهم من جنس خطاب المعدوم، ولا شكّ أن ذلك ليس من شأن العقلاء، فمن البعيد جدًّا صدوره منه صلى الله عليه وسلم، وسيأتي إن شاء اللَّه ذكر حديث عمرو بن العاص الدالّ على أن الميّت في قبره يستأنس بوجود الحيّ عنده.

وإذا رأيت هذه الأدلّة الصحيحة الدالَّة على سماع الموتى، فاعلم أن الآيات القرءانية؛ كقوله تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ، وقوله: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} لا تخالفها، وقد أوضحنا الصحيح من أوجه تفسيرها، وذكرنا دلالة القرائن القرءانية عليه، وأن استقراء القرءان يدلّ عليه.

وممّن جزم بأن الآيات المذكورة لا تنافي الأحاديث الصحيحة التي ذكرنا أبو العباس ابن تيمية، فقد قال في الجزء الرابع من "مجموع الفتاوى" من صحيفة خمس وتسعين ومائتين، إلى صحيفة تسع وتسعين ومائتين، ما نصّه: "وقد تعاد الروح إلى البدن في غير وقت المسألة، كما في الحديث الذي صححه ابن عبد البرّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنّه قال: "ما من رجل يمرّ بقبر الرجل الذي كان يعرفه في الدنيا فيسلّم عليه، إلاّ ردّ اللَّه عليه روحه حتى يردّ عليه السّلام" . وفي سنن أبي داود وغيره عن أوس بن أبي أوس الثقفي، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "إن خير أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا عليَّ من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة، فإن صلاتكم معروضة عليّ" ، قالوا: يا رسول اللَّه? كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ فقال: "إن اللَّه حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء" ، وهذا الباب فيه من الأحاديث والآثار، ما يضيق هذا الوقت عن استقصائه، مما يبيّن أن الأبدان التي في القبور تنعم وتعذّب إذا شاء اللَّه ذلك كما يشاء، وأن الأرواح باقية بعد مفارقة البدن ومنعمة أو معذّبة، ولذا أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالسّلام على الموتى، كما ثبت في الصحيح والسنن أنه كان يعلّم

(6/132)

أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: "السّلام عليكم أهل الديار من المؤمنين، وإنّا إن شاء اللَّه بكم لاحقون، يرحم اللَّه المستقدمين منّا ومنكم والمستأخرين، نسأل اللَّه لنا ولكم العافية، اللَّهمّ لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم" . وقد انكشف لكثير من الناس ذلك حتى سمعوا صوت المعذّبين في قبورهم، ورأوهم بعيونهم يعذّبون في قبورهم في آثار كثيرة معروفة، ولكن لا يجب أن يكون دائمًا على البدن في كل وقت، بل يجوز أن يكون في حال.

وفي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ترك قتلى بدر ثلاثًا ثمّ أتاهم فقام عليهم، فقال: "يا أبا جهل بن هشام، يا أُميّة بن خلف، يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة أليس قد وجدتم ما وعدكم ربّكم حقًّا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقًّا" ، فسمع عمر رضي اللَّه عنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول اللَّه كيف يسمعون وقد جيفوا؟ فقال: "والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا" ثم أمر بهم فسحبوا فألقوا في قليب بدر، وقد أخرجاه في الصحيحين عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم وقف على قليب بدر، فقال: "هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًّا" ؟ وقال: "إنهم ليسمعون الآن ما أقول" ، فذكر ذلك لعائشة فقالت: وَهِم ابن عمر، إنما قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنهم ليعلمون الآن أن الذي قلت لهم هو الحق" ، ثم قرأت قوله تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ، حتى قرأت الآية.

وأهل العلم بالحديث اتّفقوا على صحة ما رواه أنس وابن عمر، وإن كانا لم يشهدا بدرًا، فإن أنسًا روى ذلك عن أبي طلحة، وأبو طلحة شهد بدرًا كما روى أبو حاتم في صحيحه، عن أنس، عن أبي طلحة رضي اللَّه عنه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلاً من صناديد قريش، فقذفوا في طوى من أطواء بدر، وكان إذا ظهر على قوم أحبّ أن يقيم في عرصتهم ثلاث ليال، فلمّا كان اليوم الثالث أمر براحلته فشدّ عليها فحركها، ثم مشى وتبعه أصحابه، وقالوا: ما نراه ينطلق إلا لبعض حاجته، حتى قام على شفاء الركي، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: "يا فلان بن فلان، أيسرّكم أنكم أطعتم اللَّه ورسوله، فإنّا قد وجدنا ما وعدنا ربّنا حقًّا، فهل وجدتم ما وعدكم ربّكم حقًّا" ، قال عمر بن الخطاب: يا رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- ما تكلم من أجساد ولا أرواح فيها، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم :"والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم" ، قال قتادة: أحياهم اللَّه

(6/133)

حتى أسمعهم توبيخًا، وتصغيرًا، ونقمة، وحسرة، وتنديمًا، وعائشة قالت فيما ذكرته كما تأوّلت.

والنص الصحيح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مقدّم على تأويل من تأوّل من أصحابه وغيره، وليس في القرءان ما ينفى ذلك، فإن قوله تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ، إنما أراد به السماع المعتاد الذي ينفع صاحبه، فإن هذا مثل ضربه اللَّه للكفار، والكفار تسمع الصوت، لكن لا تسمع سماع قبول بفقه واتّباع؛ كما قال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} ، فهكذا الموتى الذين ضرب بهم المثل لا يجب أن ينفى عنهم جميع أنواع السماع، بل السماع المعتاد كما لم ينف ذلك عن الكفّار، بل انتفى عنهم السماع المعتاد الذي ينتفعون به. وأمّا سماع آخر فلا ينفى عنهم، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن الميّت يسمع خفق نعالهم، إذا ولّوا مدبرين، فهذا موافق لهذا فكيف يرفع ذلك"، انتهى محل الغرض من كلام أبي العباس ابن تيمية. وقد تراه صرّح فيه بأن تأوّل عائشة لا يردّ به النصّ الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم، وأنه ليس في القرءان ما ينفي السماع الثابت للموتى في الأحاديث الصحيحة.

وإذا علمت به أن القرءان ليس فيه ما ينفي السماع المذكور، علمت أنه ثابت بالنصّ الصحيح، من غير معارض.

والحاصل أن تأوّل عائشة رضي اللَّه عنها بعض آيات القرءان، لا تردّ به روايات الصحابة العدول الصحيحة الصريحة عنه صلى الله عليه وسلم، ويتأكّد، ذلك بثلاثة أمور:

الأول : هو ما ذكرناه الآن من أن رواية العدل لا تردّ بالتأويل.

الثاني : أن عائشة رضي اللَّه عنها لما أنكرت رواية ابن عمر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إنهم ليسمعون الآن ما أقول" ، قالت: إن الذي قاله صلى الله عليه وسلم: " إنهم ليعلمون الآن أن الذي كنت أقول لهم هو الحق" ، فأنكرت السماع ونفته عنهم، وأثبتت لهم العلم، ومعلوم أن من ثبت له العلم صحّ منه السماع، كما نبّه عليه بعضهم.

الثالث : هو ما جاء عنها مما يقتضي رجوعها عن تأويلها، إلى الروايات الصحيحة.

قال ابن حجر في "فتح الباري" : "ومن الغريب أن في المغازي لابن إسحاق رواية يونس بن بكير بإسناد جيّد، عن عائشة مثل حديث أبي طلحة، وفيه: "ما أنتمع بأسمع لما

(6/134)

لما أقول منهم" ، وأخرجه أحمد بإسناد حسن، فإن كان محفوظًا فكأنها رجعت عن الإنكار لما ثبت عندها من رواية هؤلاء الصحابة؛ لكونها لم تشهد القصّة"، انتهى منه. واحتمال رجوعها لما ذكر قوي، لأن ما يقتضي رجوعها ثبت بإسنادين.

قال ابن حجر: "إن أحدهما جيّد، والآخر حسن. ثم قال ابن حجر: قال الإسمعيلي: كان عند عائشة من الفهم والذكاء وكثرة الرواية والغوص على غوامض العلم، ما لا مزيد عليه، لكن لا سبيل إلى ردّ رواية الثقة إلا بنصّ مثله يدلّ على نسخه أو تخصيصه، أو استحالته"، انتهى محل الغرض من كلام ابن حجر.

وقال ابن القيّم في أوّل "كتاب الروح" : "المسألة الأولى: وهي هل تعرف الأموات زيارة الأحياء وسلامهم أم لا؟ قال ابن عبد البرّ: ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنّه قال: "ما من مسلم يمرّ على قبر أخيه كان يعرفه في الدنيا فيسلّم عليه، إلاّ ردّ اللَّه عليه روحه حتى يردّ عليه السّلام" ، فهذا نصّ في أنه يعرفه بعينه، ويردّ عليه السلام.

وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم من وجوه متعدّدة: أنه أمر بقتلى بدر فألقوا في قليب، ثم جاء حتى وقف عليهم وناداهم بأسمائهم: "يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًّا، فإني وجدت ما وعدني ربّي حقًّا" ، فقال له عمر: يا رسول اللَّه ما تخاطب من أقوام قد جيفوا، فقال: "والذي بعثني بالحق، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنّهم لا يستطيعون جوابًا" ، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم: أن الميّت يسمع قرع نعال المشيّعين له إذا انصرفوا عنه، وقد شرّع النبيّ صلى الله عليه وسلم لأُمّته إذا سلّموا على أهل القبور، أن يسلّموا عليهم سلام من يخاطبونه، فيقول: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين" ، وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل، ولولا ذلك لكان هذا الخطاب بمنزلة خطاب المعدوم والجماد، والسلف مجمعون على هذا، وقد تواترت الآثار عنهم أن الميّت يعرف زيارة الحي له، ويستبشر له، قال أبو بكر عبد اللَّه بن محمّد بن عبيد بن أبي الدنيا في "كتاب القبور" :

باب في معرفة الموتى بزيارة الأحياء

حدّثنا محمّد بن عون، حدّثنا يحيبن يمان، عن عبد اللَّه بن سمعان، عن زيد بن أسلم، عن عائشة رضي اللَّه عنها، قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلاّ استأنس به وردّ عليه، حتى يقوم" . حدّثنا محمّد بن قدامة الجوهري، حدّثنا معن بن عيسى القزاز، أخبرنا هشام بن سعد، حدّثنا زيد بن أسلم، عن أبي هريرة

(6/135)

رضي اللَّه تعالى عنه، قال: إذا مرّ الرجل بقبر أخيه يعرفه فسلّم عليه ردّ عليه السلام وعرفه، وإذا مرّ بقبر لا يعرفه فسلّم عليه ردّ عليه السلام.

وذكر ابن القيّم في كلام أبي الدنيا وغيره آثارًا تقتضي سماع الموتى، ومعرفتهم لمن يزورهم، وذكر في ذلك مرائي كثيرًا جدًا، ثم قال: وهذه المرائي، وإن لم تصلح بمجرّدها لإثبات مثل ذلك، فهي على كثرتها، وأنها لا يحصيها إلا اللَّه قد تواطأت على هذا المعنى، وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أرى رؤياكم قد تواطأت على أنها في العشر الأواخر" ، يعني ليلة القدر، فإذا تواطأت رؤيا المؤمنين على شىء، كان كتواطىء روايتهم له، ومما قاله ابن القيّم في كلامه الطويل المذكور، وقد ثبت في الصحيح أن الميّت يستأنس بالمشيعين لجنازته بعد دفنه، فروى مسلم في صحيحه من حديث عبد الرحمن بن شماسة المهري، قال: حضرنا عمرو بن العاص، وهو في سياق الموت، فبكى طويلاً وحول وجهه إلى الجدار.. الحديث، وفيه: فإذا أنا متّ فلا تصحبني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني فسنّوا عليّ التراب سنًّا، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر الجزور، ويقسم لحمها، حتى أستأنس بكم وأنظر ماذا أراجع به رسل ربّي، فدلَّ على أن الميّت يستأنس بالحاضرين عند قبره ويسرّ بهم"، اهـ.

ومعلوم أن هذا الحديث له حكم الرفع، لأن استئناس المقبور بوجود الأحياء عند قبره لا مجال للرأي فيه. ومما قاله ابن القيم في كلامه الطويل المذكور: ويكفي في هذا تسمية المسلم عليهم زائرًا، ولولا أنهم يشعرون به لما صحّ تسميته زائرًا، فإن المزور إن لم يعلم بزيارة من زاره، لم يصح أن يقال: زاره، وهذا هو المعقول من الزيارة عند جميع الأُمم، وكذلك السلام عليهم أيضًا، فإن السلام على من لا يشعر ولا يعلم بالمسلم محال، وقد علّم النبيّ صلى الله عليه وسلم أُمته إذا زاروا القبور أن يقولوا: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنّا إن شاء اللَّه بكم لاحقون، يرحم اللَّه المستقدمين منّا ومنكم والمستأخرين، نسأل اللَّه لنا ولكم العافية" ، وهذا السلام والخطاب والنداء لموجود يسمع، ويخاطب، ويعقل، ويردّ، وإن لم يسمع المسلم الردّ.

ومما قاله ابن القيم في كلامه الطويل، قوله: وقد ترجم الحافظ أبو محمد عبد الحقّ الأشبيلي على هذا، فقال: ذكر ما جاء أن الموتى يسألون عن الأحياء، ويعرفون أقوالهم وأعمالهم، ثم قال: ذكر أبو عمر بن عبد البرّ من حديث ابن عباس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "ما من

(6/136)

رجل يمرّ بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه فيسلم عليه، إلاّ عرفه وردّ عليه السّلام" .

ويروى من حديث أبي هريرة مرفوعًا، قال: "فإن لم يعرفه وسلّم عليه ردّ عليه السلام" ، قال: ويروى من حديث عائشة رضي اللَّه عنها، أنّها قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما من رجل يزور قبر أخيه فيجلس عنده، إلاّ استأنس به حتى يقوم" ، واحتجّ الحافظ أبو محمد في هذا الباب بما رواه أبو داود في سننه، من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: " ما من أحد يسلّم عليّ إلاّ ردّ اللَّه عليّ روحي حتى أردّ عليه السّلام" . ثم ذكر ابن القيّم عن عبد الحق وغيره مرائي وآثارًا في الموضوع، ثم قال في كلامه الطويل: "ويدلّ على هذا أيضًا ما جرى عليه عمل الناس قديمًا وإلى الآن، من تلقين الميت في قبره ولولا أنه يسمع ذلك وينتفع به لم يكن فيه فائدة، وكان عبثًا. وقد سئل عنه الإمام أحمد رحمه اللَّه، فاستحسنه واحتجّ عليه بالعمل.

ويروى فيه حديث ضعيف: ذكر الطبراني في معجمه من حديث أبي أُمامة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا مات أحدكم فسوّيتم عليه التراب، فليقم أحدكم على رأس قبره، فيقول: يا فلان ابن فلانة" ، الحديث. وفيه: "اذكر ما خرجت عليه من الدنيا شهادة ألا إله إلا اللَّه، وأن محمّدًا رسول اللَّه، وأنك رضيت باللَّه ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمّد نبيًّا، وبالقرءان إمامًا" ، الحديث. ثم قال ابن القيّم: فهذا الحديث وإن لم يثبت، فاتّصال العمل به في سائر الأمصار والأعصار من غير إنكار كاف في العمل به، وما أجرى اللَّه سبحانه العادة قطّ، بأن أُمة طبقت مشارق الأرض ومغاربها، وهي أكمل الأُمم عقولاً، وأوفرها معارف تطبق على مخاطبة من لا يسمع، وتستحسن ذلك لا ينكره منها منكر بل سنه الأول للآخر، ويقتدي فيه الآخر بالأوّل، فلولا أن الخطاب يسمع لكان ذلك بمنزلة الخطاب للتراب، والخشب والحجر والمعدوم، وهذا وإن استحسنه واحد فالعلماء قاطبة على استقباحه واستهجانه.

وقد روى أبو داود في سننه بإسناد لا بأس به: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم حضر جنازة رجل، فلمّا دفن قال: "سلوا لأخيكم التثبيت، فإنه الآن يسأل" ، فأخبر أنه يسأل حينئذ، وإذا كان يسأل فإنه يسمع التلقين، وقد صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أن الميّت يسمع قرع نعالهم إذا ولّوا مدبرين. ثم ذكر ابن القيّم قصة الصعب بن جثامة، وعوف بن مالك، وتنفيذ عوف لوصية الصعب له في المنام بعد موته، وأثنى على عوف بن مالك بالفقه في تنفيذه وصية الصعب بعد موته، لما

(6/137)

علم صحة ذلك بالقرائن، وكان في الوصية التي نفذها عوف إعطاء عشرة دنانير ليهودي من تركة الصعب كانت دينًا له عليه، ومات قبل قضائها.

قال ابن القيّم: "وهذا من فقه عوف بن مالك رضي اللَّه عنه، وكان من الصحابة حيث نفذ وصية الصعب بن جثامة بعد موته، وعلم صحة قوله بالقرائن التي أخبره بها، من أن الدنانير عشرة وهي في القرن، ثم سأل اليهودي فطابق قوله ما في الرؤيا فجزم عوف بصحة الأمر، فأعطى اليهودي الدنانير، وهذا فقه إنما يليق بأفقه الناس وأعلمهم، وهم أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولعلّ أكثر المتأخرين ينكر ذلك، ويقول: كيف جاز لعوف أن ينقل الدنانير من تركة صعبة، وهي لأيتامه وورثته إلى يهودي بمنام. ثم ذكر ابن القيم تنفيذ خالد وأبي بكر الصديق رضي اللَّه عنهما، وصية ثابت بن قيس بن شماس رضي اللَّه عنه بعد موته، وفي وصيّته المذكورة قضاء دين عينه لرجل في المنام، وعتق بعض رقيقه، وقد وصف للرجل الذي رآه في منامه الموضع الذي جعل فيه درعه الرجل الذي سرقها، فوجدوا الأمر كما قال، وقصّته مشهورة.

وإذا كانت وصية الميّت بعد موته قد نفذها في بعض الصور أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك يدلّ على أنه يدرك ويعقل ويسمع، ثم قال ابن القيم في خاتمه كلامه الطويل: والمقصود جواب السائل وأن الميّت إذا عرف مثل هذه الجزئيات وتفاصيلها، فمعرفته بزيارة الحي له وسلامه عليه ودعائه له أولى وأحرى"، اهـ.

فكلام ابن القيم هذا الطويل الذي ذكرنا بعضه جملة وبعضه تفصيلاً، فيه من الأدلّة المقنعة ما يكفي في الدلالة على سماع الأموات، وكذلك الكلام الذي نقلنا عن شيخه أبي العباس بن تيمية، وفي كلامهما الذي نقلنا عنهما أحاديث صحيحة، وآثار كثيرة، ومرائي متواترة وغير ذلك، ومعلوم أن ما ذكرنا في كلام ابن القيّم من تلقين الميّت بعد الدفن، أنكره بعض أهل العلم، وقال: إنه بدعة، وأنه لا دليل عليه، ونقل ذلك عن الإمام أحمد وأنه لم يعمل به إلاّ أهل الشام، وقد رأيت ابن القيم استدلّ له بأدلّة، منها: أن الإمام أحمد رحمه اللَّه سئل عنه فاستحسنه. واحتجّ عليه بالعمل. ومنها: أن عمل المسلمين اتّصل به في سائر الأمصار والأعصار من غير إنكار. ومنها: أن الميّت يسمع قرع نعال الدافنين إذا ولّوا مدبرين، واستدلاله بهذا الحديث الصحيح استدلال قوي جدًّا؛ لأنه إذا كان في ذلك الوقت يسمع قرع النعال، فلأن يسمع الكلام الواضح بالتلقين من أصحاب النعال أولى

(6/138)

وأحرى، واستدلاله لذلك بحديث أبي داود: "سلوا لأخيكم التثبيت فإنه الآن يسأل" ، له وجه من النظر؛ لأنه إذا كان يسمع سؤال السائل فإنه يسمع تلقين الملقن، واللَّه أعلم.

والفرق بين سماعه سؤال الملك وسماعه التلقين من الدافنين محتمل احتمالاً قويًّا، وما ذكره بعضهم من أن التلقين بعد الموت لم يفعله إلا أهل الشام، يقال فيه: إنهم هم أول من فعله، ولكن الناس تبعوهم في ذلك، كما هو معلوم عند المالكية والشافعية. قال الشيخ الحطاب في كلامه على قول خليل بن إسحاق المالكي في مختصره: "وتلقينه الشهادة، وجزم النووي باستحباب التلقين بعد الدفن". وقال الشيخ زروق في شرح "الرسالة والإرشاد" ، وقد سئل عنه أبو بكر بن الطلاع من المالكية، فقال: "هو الذي نختاره ونعمل به، وقد روينا فيه حديثًا عن أبي أُمامة ليس بالقوي، ولكنه اعتضد بالشواهد، وعمل أهل الشام قديمًا"، إلى أن قال: "وقال في المدخل: ينبغي أن يتفقده بعد انصراف الناس عنه، من كان من أهل الفضل والدين، ويقف عند قبره تلقاء وجهه ويلقنه؛ لأن الملكين عليهما السلام، إذ ذاك يسألانه وهو يسمع قرع نعال المنصرفين".

وقد روى أبو داود في سننه عن عثمن رضي اللَّه عنه، قال: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميّت وقف عليه، وقال: "استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل" ، إلى أن قال: "وقد كان سيّدي أبو حامد بن البقال، وكان من كبار العلماء والصلحاء، إذا حضر جنازة عزى وليّها بعد الدفن، وانصرف مع من ينصرف، فيتوارى هنيهة حتى ينصرف الناس، ثم يأتي إلى القبر، فيذكرّ الميّت بما يجاوب به الملكين عليهما السلام، انتهى محل الغرض من كلام الحطاب. وما ذكره من كلام أبي بكر بن الطلاع المالكي له وجه قوي من النظر، كما سترى إيضاحه إن شاء اللَّه تعالى. ثم قال الحطاب: واستحب التلقين بعد الدفن أيضًا القرطبي والثعالبي وغيرهما، ويظهر من كلام الأبي في أوّل كتاب الجنائز يعني من صحيح مسلم، وفي حديث عمرو بن العاص في كتاب "الإيمان" ميل إليه"، انتهى من الحطاب. وحديث عمرو بن العاص المشار إليه، هو الذي ذكرنا محل الغرض منه في كلام ابن القيم الطويل المتقدّم.

قال مسلم في "صحيحه" : حدّثنا محمّد بن المثنى العنزي، وأبو معن الرقاشي، وإسحاق بن منصور، كلّهم عن أبي عاصم. واللفظ لابن المثنى: حدّثنا الضحاك، يعني أبا عاصم، قال: أخبرنا حيوة بن شريح، قال: حدّثني يزيد بن أبي حبيب، عن ابن شماسة

(6/139)

المهري، قال: حضرنا عمرو بن العاص، وهو في سياقة الموت، فبكى طويلاً وحوّل وجهه إلى الجدار"، الحديث. وقد قدّمنا محل الغرض منه بلفظه في كلام ابن القيّم المذكور، وقدّمنا أن حديث عمرو هذا له حكم الرفع، وأنه دليل صحيح على استئناس الميّت بوجود الأحياء عند قبره.

وقال النووي في "روضة الطالبين" ، ما نصّه: "ويستحبّ أن يلقن الميّت بعد الدفن، فيقال: يا عبد اللَّه ابن أمة اللَّه اذكر ما خرجت عليه من الدنيا: شهادة ألا إله إلاّ اللَّه، وأنّ محمّدًا رسول اللَّه، وأنَّ الجنّة حقّ، وأن النار حقّ، وأن البعث حقّ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن اللَّه يبعث من في القبور، وأنت رضيت باللَّه ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا، وبالقرءان إمامًا، وبالكعبة قبلة، وبالمؤمنين إخوانًا، وردّ به الخبر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.

قلت: هذا التلقين استحبّه جماعات من أصحابنا، منهم القاضي حسين، وصاحب التتمة، والشيخ نصر المقدسي في كتابه "التهذيب" وغيرهم، ونقله القاضي حسين عن أصحابنا مطلقًا، والحديث الوارد فيه ضعيف، لكن أحاديث الفضائل يتسامح فيها عند أهل العلم من المحدثين وغيرهم، وقد اعتضد هذا الحديث بشواهد من الأحاديث الصحيحة؛ كحديث: "اسألوا له التثبيت" ، ووصية عمرو بن العاص: أقيموا عند قبري قدر ما تنحر جزور، ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم وأعلم ماذا أراجع به رسل ربّي، رواه مسلم في صحيحه، ولم يزل أهل الشام على العمل بهذا التلقين، من العصر الأول، وفي زمن من يقتدى به"، اهـ محل الغرض من كلام النووي.

وبما ذكر ابن القيّم وابن الطلاع، وصاحب المدخل من المالكية، والنووي من الشافعية، كما أوضحنا كلامهم تعلم أن التلقين بعد الدفن له وجه قوي من النظر؛ لأنه جاء فيه حديث ضعيف، واعتضد بشواهد صحيحة، وبعمل أهل الشام قديمًا، ومتابعة غيرهم لهم.

وبما علم في علم الحديث من التساهل في العمل بالضعيف، في أحاديث الفضائل، ولا سيّما المعتضد منها بصحيح، وإيضاح شهادة الشواهد له أن حقيقة التلقين بعد الدفن، مركبة من شيئين:

أحدهما : سماع الميّت كلام ملقنه بعد دفنه.

(6/140)

والثاني : انتفاعه بذلك التلقين، وكلاهما ثابت في الجملة، أما سماعه لكلام الملقن فيشهد له سماعه لقرع نعل الملقن الثابت في الصحيحين، وليس سماع كلامه بأبعد من سماع قرع نعله؛ كما ترى. وأمّا انتفاعه بكلام الملقن، فيشهد له انتفاعه بدعاء الحي وقت السؤال في حديث: "سلوا لأخيكم التثبيت فإنه يسأل الآن" ، واحتمال الفرق بين الدعاء والتلقين قوى جدًا كما ترى، فإذا كان وقت السؤال ينتفع بكلام الحي الذي هو دعاؤه له، فإن ذلك يشهد لانتفاعه بكلام الحي الذي هو تلقينه إياه، وإرشاده إلى جواب الملكين، فالجميع في الأول سماع من الميت لكلام الحي، وفي الثاني انتفاع من الميت بكلام الحي وقت السؤال، وقد علمت قوة احتمال الفرق بين الدعاء والتلقين.

وفي ذلك كله دليل على سماع الميّت كلام الحي، ومن أوضح الشواهد للتلقين بعد الدفن السّلام عليه، وخطابه خطاب من يسمع، ويعلم عند زيارته، كما تقدّم إيضاجه؛ لأن كلاًّ منهما خطاب له في قبره، وقد انتصر ابن كثير رحمه اللَّه في تفسير سورة "الروم" ، في كلامه على قوله تعالى: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} ، إلى قوله: {فَهُمْ مُسْلِمُونَ} ، لسماع الموتى، وأورد في ذلك كثيرًا من الأدلّة التي قدمنا في كلام ابن القيّم، وابن أبي الدنيا وغيرهما، وكثيرًا من المرائي الدالَّة على ذلك، وقد قدّمنا الحديث الدالّ على أن المرائي إذا تواترت أفادت الحجّة، ومما قال في كلامه المذكور: وقد استدلّت أُمّ المؤمنين عائشة رضي اللَّه عنها بهذه الآية: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ، على توهيم عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما، في روايته مخاطبة النبيّ صلى الله عليه وسلم القتلى الذين ألقوا في قليب بدر بعد ثلاثة أيام، إلى أن قال: "والصحيح عند العلماء رواية عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما، لما لها من الشواهد على صحتها، من أشهر ذلك ما رواه ابن عبد البرّ مصحّحًا له عن ابن عباس مرفوعًا: "ما من أحد يمرّ بقبر أخيه المسلم كان يعرفه" ، الحديث.

وقد قدّمناه في هذا المبحث مرارًا، وبجميع ما ذكرنا في هذا المبحث، في الكلام على آية "النمل" هذه، تعلم أن الذي يرجّحه الدليل: أن الموتى يسمعون سلام الأحياء وخطابهم سواء قلنا: إن اللَّه يردّ عليهم أرواحهم حتى يسمعوا الخطاب ويردّوا الجواب، أو قلنا: إن الأرواح أيضًا تسمع وتردّ بعد فناء الأجسام، لأنا قد قدّمنا أن هذا ينبني على مقدّمتين، ثبوت سماع الموتى بالسنة الصحيحة، وأن القرءان لا يعارضها على التفسير

(6/141)

الصحيح الذي تشهد له القرائن القرءانيّة، واستقراء القرءان، وإذا ثبت ذلك بالسنة الصحيحة من غير معارض من كتاب، ولا سنّة ظهر بذلك رجحانه على تأوّل عائشة رضي اللَّه عنها، ومن تبعها بعض آيات القرءان، كما تقدّم إيضاحه. وفي الأدلّة التي ذكرها ابن القيّم في كتاب الروح على ذلك مقنع للمنصف، وقد زدنا عليها ما رأيت، والعلم عند اللَّه تعالى.

قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ} .

ظاهر هذه الآية الكريمة خصوص الحشر بهذه الأفواج المكذبة بآيات اللَّه، ولكنه قد دلَّت آيات كثيرة على عموم الحشر لجميع الخلائق؛ كقوله تعالى بعد هذا بقليل: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} ، وقوله تعالى: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} ، وقوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} ، وقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} ، إلى غير ذلك من الآيات.

وقد أوضحنا في كتابنا "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب" ، في آية "النمل" هذه، في الكلام على وجه الجمع بين قوله تعالى فيها: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً} الآية، وبين قوله تعالى: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دخِرِينَ} ، ونحوها من الآيات، وذكرنا قول الألوسي في تفسيره أن قوله: {كُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} في الحشر العام لجميع الناس للحساب والجزاء. وقوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً} ، في الحشر الخاص بهذه الأفواج المكذبة؛ لأجل التوبيخ المنصوص عليه في قوله هنا: {حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْماً} ، وهذا يدلّ عليه القرءان، كما ترى.

وقال بعضهم: هذه الأفواج التي تحشر حشرًا خاصًّا هي رؤساء أهل الضلال وقادتهم، وعليه فالآية كقوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً * ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً} ، والفوج: الجماعة من الناس. ومنه قوله تعالى: {يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً} ، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {فَهُمْ يُوزَعُونَ} ، أي: يردّ أوّلهم على

(6/142)

آخرهم حتى يجتمعوا، ثم يدفعون جميعًا، كما قاله غير واحد.

قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْماً أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .

قال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة: "أي يسألون عن اعتقادهم وأعمالهم، ومقصوده بسؤالهم عن اعتقادهم قوله تعالى: {أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي} ، لأن التصديق بآيات اللَّه التي هي هذا القرءان من عقائد الإيمان التي لا بدّ منها، كما هو معلوم في حديث جبريل وغيره، ومقصوده بسؤالهم عن أعمالهم قوله تعالى: {أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ، والسؤال المذكور سؤال توبيخ وتقريع، فقد وبّخهم تعالى فيه على فساد الاعتقاد، وفساد الأعمال، والتوبيخ عليهما معًا المذكور هنا جاء مثله في قوله تعالى: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} ، كما أشار له ابن كثير رحمه اللَّه، فقوله تعالى: {فَلا صَدَّقَ} ، وقوله: {وَلَكِنْ كَذَّبَ} ، توبيخ على فساد الاعتقاد. وقوله: {وَلا صَلَّى} : توبيخ على إضاعة العمل.

قوله تعالى: {وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ} .

الظاهر أن القول الذي وقع عليهم هو كلمة العذاب، كما يوضحه قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} ، ونحو ذلك من الآيات.

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ} ، ظاهره أن الكفار لا ينطقون يوم القيامة؛ كما يفهم ذلك من قوله تعالى: {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} ، وقوله تعالى: {نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً} ، مع أنه بيّنت آيات أُخر من كتاب اللَّه أنهم ينطقون يوم القيامة ويعتذرون؛ كقوله تعالى عنهم: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} ، وقوله تعالى عنهم: {فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} ، وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً} ، وقوله تعالى عنهم: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} ،وقوله تعالى: {وَنَادَوْا يَا

(6/143)

مَالِكُ} ، إلى غير ذلك من الآيات الدالَّة على كلامهم يوم القيامة.

وقد بيَّنا الجواب عن هذا في كتابنا "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب" ، في سورة "المرسلات" ، في الكلام على قوله تعالى: {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ} ، وما ذكرنا من الآيات. فذكرنا أن من أوجه الجواب عن ذلك أن القيامة مواطن، ففي بعضها ينطقون، وفي بعضها لا ينطقون، فإثبات النطق لهم ونفيه عنهم كلاهما منزل على حال ووقت غير حال الآخر ووقته. ومنها أن نطقهم المثبت لهم خاص بما لا فائدة لهم فيه، والنطق المنفي عنهم خاص بما لهم فيه فائدة ومنها غير ذلك، وقد ذكرنا شيئًا من أجوبة ذلك في "الفرقان" و "طه" ، و "الإسراء" .

قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .

قد قدَّمنا الآيات الموضحة له في سورة "بني إسرائيل" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ} .

قوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} .

قد قدّمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمّنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولاً، ويكون في الآية قرينة تدلّ على بطلان ذلك القول، وذكرنا في ترجمته أيضًا أن من أنواع البيان التي تضمّنها الاستدلال على المعنى، بكونه هو الغالب في القرءان؛ لأن غلبته فيه، تدلّ على عدم خروجه من معنى الآية، ومثلنا لجميع ذلك أمثلة متعدّدة في هذا الكتاب المبارك، والأمران المذكوران من أنواع البيان قد اشتملت عليهما معًا آية "النمل" هذه.

وإيضاح ذلك أن بعض الناس قد زعم أن قوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} ، يدلّ على أن الجبال الآن في دار الدنيا يحسبها رائيها جامدة، أي: واقفة ساكنة غير متحركة، وهي تمرّ مر السحاب، ونحوه قول النابغة يصف جيشًا:

بأرعن مثل الطود تحسب أنهم ... وقوف لحاج والركاب تهملج

والنوعان المذكوران من أنواع البيان، يبينان عدم صحة هذا القول.

(6/144)

أمّا الأول منهما: وهو وجود القرينة الدالَّة على عدم صحته، فهو أن قوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ} معطوف على قوله: {فَفَزِعَ} ، وذلك المعطوف عليه مرتّب بالفاء على قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} ، أي: ويوم ينفخ في الصور، فيفزع من في السماواتوترى الجبال، فدلّت هذه القرينة القرءانية الواضحة على أن مرّ الجبال مرّ السحاب كائن يوم ينفخ في الصور، لا الآن.

وأمّا الثاني: وهو كون هذا المعنى هو الغالب في القرءان فواضح؛ لأن جميع الآيات التي فيها حركة الجبال كلّها في يوم القيامة؛ كقوله تعالى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً} ، وقوله تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} ، وقوله تعالى: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً} ، وقوله تعالى: {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} ، جاء نحوه في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} ، وقوله تعالى: {طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} ، وتسيير الجبال وإيجادها ونصبها قبل تسييرها، كل ذلك صنع متقن.

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} ، قد قدّمنا الآيات التي بمعناه في أوّل سورة "هود" ، في الكلام على قوله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} ، إلى قوله: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} .

قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} .

اعلم: أن الحسنة في هذه الآية الكريمة، تشمل نوعين من الحسنات:

الأول: حسنة هي فعل خير من أفعال العبد، كالإنفاق في سبيل اللَّه، وبذل النفس والمال في إعلاء كلمة اللَّه، ونحو ذلك، ومعنى قوله تعالى: {فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} ، بالنسبة إلى هذا النوع من الحسنات، أن الثواب مضاعف، فهو خير من نفس العمل؛ لأن من أنفق درهمًا واحدًا في سبيل اللَّه فأعطاه اللَّه ثواب هو سبعمائة درهم فله عند اللَّه ثواب هو سبعمائة درهم مثلاً، خير من الحسنة التي قدمها التي هي إنفاق درهم واحد، وهذا لا إشكال فيه كما ترى.

(6/145)

وهذا المعنى توضحه آيات من كتاب اللَّه؛ كقوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} ، ومعلوم أن عشر أمثال الحسنة خير منها هي وحدها؛ وكقوله تعالى: {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} ، وقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} .

وأمّا النوع الثاني من الحسنة: فكقول من قال من أهل العلم: إن المراد بالحسنة في هذه الآية: لا إله إلاّ اللَّه، ولا يوجد شىء خير من لا إله إلا اللَّه، بل هي أساس الخير كلّه، والذي يظهر على هذا المعنى أن لفظة {خَيْرٌ} ليست صيغة تفضيل.

وأن المعنى: {فَلَهُ خَيْرٌ} عظيم عند اللَّه حاصل له منها، أي: من قبلها ومن أجلها، وعليه فلفظة {مَنْ} في الآية؛ كقوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً} ، أي: من أجل خطيآتهم أغرقوا، فأدخلوا نارًا. وأمّا على الأول فخير صيغة تفضيل، ويحتمل عندي أن لفظة {خَيْرٌ} على الوجه الثاني صيغة تفضيل أيضًا، ولا يراد بها تفضيل شىء على لا إله إلاّ اللَّه، بل المراد أن كلمة لا إله إلاّ اللَّه تعبَّد بها العبد في دار الدنيا، وتعبُّده بها فعله المحض، وقد أثابه اللَّه في الآخرة على تعبُّدِهِ بها، وإثابة اللَّه فعله جلَّ وعلا، ولا شكّ أن فعل اللَّه خير من فعل عبده، والعلم عند اللَّه تعالى.

قوله تعالى: {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} .

دلَّت على معناه آيات من كتاب اللَّه؛ كقوله تعالى في أمنهم من الفزع: {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} ، وقوله تعالى في أمنهم: {فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} ، وقوله تعالى: {عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمَّنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِى} ، وقوله تعالى: {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ} ، قرأه عاصم، وحمزة، والكسائي بتنوين {فَزَعٍ} ، وفتح ميم {يَوْمَئِذٍ} ، وقرأه الباقون بغير تنوين، بل بالإضافة إلى {يَوْمَئِذٍ} ، إلاّ أن نافعًا قرأ بفتح ميم {يَوْمَئِذٍ} مع إضافة {فَزَعٍ} إليه، وقرأ ابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو بإضافة {فَزَعٍ} إلى {يَوْمئِذٍ} مع كسر ميم {يَوْمئِذٍ} ، وفتح الميم وكسرها من نحو {يَوْمَئِذٍ} ، قد أوضحناه بلغاته وشواهده العربية مع بيان المختار من اللغات في سورة

(6/146)

"مريم" ،في الكلام على قوله تعالى: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ} .

قوله تعالى: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .

قال ابن كثير رحمه اللَّه في تفسير هذه الآية: "وقال ابن مسعود، وابن عباس، وأبو هريرة، وأنس بن مالك رضي اللَّه عنهم، وعطاء، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد، وإبراهيم النخعي، وأبو وائل، وأبو صالح، ومحمد بن كعب، وزيد بن أسلم، والزهري، والسدي، والضحاك، والحسن، وقتادة، وابن زيد، في قوله تعالى: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} ، يعني: الشرك.

وهذه الآية الكريمة تضمّنت أمرين:

الأول : أن من جاء ربّه يوم القيامة بالسيئة كالشرك يكبّ وجهه في النار.

والثاني : أن السيّئة إنما تجزى بمثلها من غير زيادة، وهذان الأمران جاءا موضحين في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالى في الأوّل منهما: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} ، وكقوله تعالى في الثاني منهما: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} ، وقوله تعالى: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، وقوله تعالى: {جَزَاءً وِفَاقاً} .

وإذا علمت أن السيئات لا تضاعف، فاعلم أن السيئة قد تعظم فيعظم جزاؤها بسبب حرمة المكان؛ كقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} ، أو حرمة الزمان؛ كقوله تعالى في الأشهر الحرام: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} .

وقد دلَّت آيات من كتاب اللَّه أن العذاب يعظم بسبب عظم الإنسان المخالف؛ كقوله تعالى في نبيّنا صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} ، وقوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ *

(6/147)

لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} ، وكقوله تعالى في أزواجه صلى الله عليه وسلم: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} ، وقد قدّمنا طرفًا من الكلام على هذا، في الكلام على قوله تعالى: {إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} ، مع تفسير الآية، ومضاعفة السيّئة المشار إليها في هاتين الآيتين، إن كانت بسبب عظم الذنب، حتى صار في عظمه كذنبين، فلا إشكال، وإن كانت مضاعفة جزاء السيّئة كانت هاتان الآيتان مخصّصتين للآيات المصرّحة، بأن السيئة لا تجزى إلا بمثلها، والجميع محتمل، والعلم عند اللَّه تعالى.

قوله تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ} .

جاء معناه موضحًا في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} ، وقوله تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} ، إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} .

قد قدّمنا الآيات التي فيها زيادة إيضاح لقوله: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ،في سورة "الأنعام" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} .

وقد قدّمنا الآيات الموضحة لقوله تعالى هنا: {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} ، في سورة "الكهف" ، في الكلام على قوله تعالى: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ} .

قوله تعالى: {وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ} .

جاء معناه مبيّنًا في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} ، وقوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} ، وقوله تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} ، إلى غير ذلك من الآيات.

(6/148)

قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} .

جاء معناه في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} .

قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} .

جاء معناه موضحًا في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} ، إلى غير ذلك من الآيات.

وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عامص: {عَمَّا تَعْمَلُونَ} بتاء الخطاب، وقرأ الباقون {عَمَّا يَعْمَلُونَ} بياء الغيبة.

تم بحمد الله تفسير سورة النمل

---------------

-----------------

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مدونة قانون الحق مكررة مشمولة

قال الشَّيْخ أَبُو عَمْرو بْن الصَّلَاح رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى فِي الظَّوَاهِر الْوَارِدَة بِدُخُولِ الْجَنَّة بِمُجَرَّدِ الشَّهَادَة ...