نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}}

 نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}

Translate واقي ان

الثلاثاء، 28 فبراير 2023

تفسير سورة الإسراء الايات من 59 الي 66.

تفسير سورة الإسراء الايات من 59 الي 66.

 وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59) وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65) رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66

الإسراء - تفسير ابن كثير 

وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)

{ وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا (59) } .

قال سُنَيْد، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن سعيد بن جُبَيْر قال: قال المشركون: يا محمد، إنك تزعم أنه كان قبلك أنبياء، فمنهم من سُخّرت له الريح، ومنهم من كان يحيي الموتى، فإن سَرّك أن نؤمن بك ونصدقك، فادع ربك أن يكون لنا الصفا ذهبًا. فأوحى الله إليه: "إني قد سمعت الذي

(5/89)

 

 

قالوا، فإن شئت أن نفعل الذي قالوا، فإن لم يؤمنوا نزل العذاب؛ فإنه ليس بعد نزول الآية مناظرة، وإن شئت أن نَستأني بقومك استأنيتُ بهم؟" قال: "يا رب، استأن بهم" .

وكذا قال قتادة، وابن جريج، وغيرهما.

قال (1) الإمام أحمد: حدثنا عثمان بن محمد، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن جعفر بن إياس (2) ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبًا، وأن ينحي الجبال عنهم فيزرعوا، فقيل له: إن شئت أن نستأني بهم، وإن شئت أن نُؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا أهلكوا كما أهلكتُ من كان قبلهم من الأمم: قال: "لا بل استأن بهم". وأنزل الله: { وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً } رواه (3) النسائي من حديث جرير، به (4) .

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن سَلَمة بن كُهيل، عن عمران أبى الحكيم (5) ، عن ابن عباس قال: قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبًا، ونؤمن بك. قال: "وتفعلون؟" قالوا: نعم. قال: فدعا فأتاه جبريل فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن شئت أصبح الصفا لهم ذهبًا، فمن كفر منهم بعد ذلك عَذّبته عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين، وإن شئت فتحت لهم باب التوبة والرحمة. فقال: "بل باب التوبة والرحمة" (6) .

وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده: حدثنا محمد بن إسماعيل بن علي الأنصاري، حدثنا خلف ابن تميم المصيصي، عن عبد الجبار بن عمار الأيلِيّ، عن عبد الله بن عطاء بن إبراهيم، عن جدته أم عطاء مولاة الزبير بن العوام قالت: سمعت الزبير يقول: لما نزلت: { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } [ الشعراء: 214 ] صاح رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي قَبِيس: "يا آل عبد مناف، إني نذير!" فجاءته قريش فحذرهم وأنذرهم، فقالوا: تزعم أنك نبي يوحى إليك، وأن سليمان سخر له الريح والجبال، وأن موسى سخر له البحر، وأن عيسى كان يحيي الموتى، فادع الله أن يسير عنا هذه الجبال، ويفجر (7) لنا الأرض أنهارًا، فنتخذها محارث فنزرع ونأكل، وإلا فادع الله أن يحيي لنا موتانا فنكلمهم ويكلمونا، وإلا فادع الله أن يصير لنا هذه الصخرة التي تحتك ذهبًا، فننحت منها، وتغنينا عن رحلة الشتاء والصيف، فإنك تزعم أنك كهيئتهم! قال: فبينا نحن حوله، إذ نزل عليه الوحي، فلما سري عنه قال: "والذي نفسي بيده، لقد أعطاني ما سألتم، ولو شئت لكان، ولكنه خيرني بين أن تدخلوا باب الرحمة، فيؤمن مؤمنكم، وبين أن يكلكم إلى ما اخترتم لأنفسكم، فتضلوا عن باب الرحمة، فلا يؤمن منكم أحد، فاخترت باب الرحمة، فيؤمن مؤمنكم. وأخبرني أنه إن أعطاكم ذلك ثم كفرتم، أنه يعذبكم عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين" ونزلت: { وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأوَّلُونَ }

__________

(1) في ف: "وقال".

(2) في ف، أ: "ابن أبي إياس".

(3) في أ: "قد رواه".

(4) المسند (1/258) وسنن النسائي الكبرى برقم (11290).

(5) في هـ: "عمران بن حكيم"، والتصويب من أطراف المسند وكتب الرجال.

(6) المسند (1/242).

(7) في ف: "وتفجر".

(5/90)

 

 

وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)

وحتى قرأ ثلاث آيات ونزلت: { وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى } [ الرعد: 31 ] (1) .

ولهذا قال تعالى: { وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ } أي: نبعث الآيات ونأتي بها على ما سأل قومك منك، فإنه سهل علينا يسير لدينا، إلا أنه قد كذب بها الأولون بعدما سألوها، وجرت سنتنا فيهم وفي أمثالهم أنهم لا يؤخرون إذا كذبوا بها بعد نزولها، كما قال الله تعالى في المائدة: : { قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنزلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ } [ المائدة: 115 ] وقال تعالى عن ثمود، حين سألوا آية: ناقة تخرج (2) من صخرة عَيَّنُوها، فدعا صالح ربه، فأخرج له منها ناقة على ما سألوا " فظلموا بها" (3) أي: كفروا بمن خلقها، وكذبوا رسوله وعقروا الناقة فقال: { تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } [ هود: 65 ] ؛ ولهذا قال تعالى: { وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ } أي: دالة على وحدانية من خلقها وصدق الرسول الذي أجيب دعاؤه فيها { فَظَلَمُوا بِهَا } أي: كفروا بها ومنعوها شِرْبها وقتلوها، فأبادهم الله عن آخرهم، وانتقم منهم، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر.

وقوله: { وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا } قال قتادة: إن الله خوف الناس بما يشاء (4) من آياته لعلهم يعتبرون ويذكرون ويرجعون، ذُكر لنا أن الكوفة رجفت على عهد ابن مسعود فقال: يا أيها الناس، إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه.

وهكذا رُوي أن المدينة زُلزلت على عهد عمر بن الخطاب مرات، فقال عمر: أحدثتم، والله لئن عادت لأفعلن ولأفعلن. وكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكن الله، عز وجل، يرسلهما يخوف بهما (5) عباده، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره" . ثم قال: " يا أمة محمد، والله ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد، والله لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرًا" (6) .

{ وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60) } .

يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم محرّضًا له على إبلاغ رسالته، ومخبرًا له بأنه قد عصمه من الناس، فإنه القادر عليهم، وهم في قبضته وتحت قهره وغلبته.

قال مجاهد، وعروة بن الزبير، والحسن، وقتادة، وغيرهم في قوله: { وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ }

__________

(1) مسند أبي يعلى (2/40) وقال الهيثمي في المجمع (7/85): "رواه أبو يعلى من طريق عبد الجبار بن عمر الأيلي، عن عبد الله بن عطاء بن إبراهيم، وكلاهما وثق، وقد ضعفهما الجمهور".

(2) في ف، أ: "أن يخرج لهم ناقة".

(3) في أ: "فلما ظلموا بها" وهو خطأ.

(4) في ف: "بأشياء".

(5) في ف، أ: "ولكن يخوف الله بهما".

(6) صحيح البخاري برقم (1044) وصحيح مسلم برقم (901).

(5/91)

 

 

أي: عصمك منهم.

وقوله: { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ } قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس: { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ } قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) ليلة أسري به { وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ } شجرة الزقوم (2) .

وكذا رواه أحمد، وعبد الرزاق، وغيرهما، عن سفيان بن عيينة به (3) ، وكذا رواه العوفي، عن ابن عباس، وهكذا فسر ذلك بليلة الإسراء: مجاهد، وسعيد بن جبير، والحسن، ومسروق، وإبراهيم، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد، وغير واحد. وقد تقدمت أحاديث الإسراء في أول السورة مستقصاة، ولله (4) الحمد والمنة. وتقدم أن ناسًا رجعوا عن دينهم بعدما كانوا على الحق؛ لأنه لم تحمل قلوبهم وعقولهم ذلك، فكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، وجعل الله ذلك ثباتًا ويقينًا لآخرين؛ ولهذا (5) قال: { إِلا فِتْنَةً } أي: اختبارًا وامتحانًا. وأما "الشجرة الملعونة"، فهي شجرة الزقوم، كما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى الجنة والنار، ورأى شجرة الزقوم، فكذبوا بذلك حتى قال أبو جهل لعنه الله (6) [بقوله] (7) هاتوا لنا تمرًا وزبدًا، وجعل يأكل هذا بهذا ويقول: تَزَقَّموا، فلا نعلم الزقوم غير هذا.

حكى ذلك ابن عباس، ومسروق، وأبو مالك، والحسن البصري، وغير واحد، وكل من قال: إنها ليلة الإسراء، فسره كذلك (8) بشجرة الزقوم.

وقد قيل: المراد بالشجرة الملعونة: بنو أمية. وهو غريب ضعيف.

قال ابن جرير: حدثت عن محمد بن الحسن بن زَبَالة، حدثنا عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد، حدثني أبي عن جدي قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني فلان ينزون على منبره نزو القرود (9) فساءه ذلك، فما استجمع ضاحكًا حتى مات. قال: وأنزل (10) الله في ذلك: { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ } الآية (11) .

وهذا السند ضعيف جدًا؛ فإن "محمد بن الحسن بن زَبَالة" متروك، وشيخه أيضًا ضعيف بالكلية. ولهذا اختار ابن جرير: أن المراد بذلك ليلة الإسراء، وأن الشجرة الملعونة هي شجرة الزقوم، قال: لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك، أي: في الرؤيا والشجرة.

وقوله: { وَنُخَوِّفُهُمْ } أي: الكفار بالوعيد والعذاب والنكال { فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا } أي: تماديا فيما هم فيه من الكفر والضلال. وذلك من خذلان الله لهم.

__________

(1) في ف: "النبي صلى الله عليه وسلم".

(2) صحيح البخاري برقم (4716).

(3) المسند (1/221).

(4) في ت: "فلله".

(5) في ت: "فلهذا".

(6) في ف، أ: "عليه لعائن الله" .

(7) زيادة من ت.

(8) في ف: "فسر ذلك".

(9) في أ: "القردة".

(10) في ف: "فأنزل".

(11) تفسير الطبري (15/77).

(5/92)

 

 

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)

{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا (62) }

يذكر تعالى عَدَاوَةَ إبليس -لعنه الله -لآدم، عليه السلام، وذريته، وأنها عداوة قديمة منذ خلق آدم، فإنه تعالى أمرالملائكة بالسجود، فسجدوا كلهم إلا إبليس استكبر وأبى أن يسجد له؛ افتخارًا عليه واحتقارًا له { قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا } كما قال في الآية الأخرى: { أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ } [ الأعراف: 12 ].

وقال أيضًا: { أَرَأَيْتَكَ } ، يقول للرب جراءة وكفرًا، والرب يحلم (1) وينظر { قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا }

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس يقول: لأستولين على ذريته إلا قليلا.

وقال مجاهد: لأحتوين. وقال ابن زيد: لأضلنهم.

وكلها متقاربة، والمعنى: أنه يقول: أرأيتك هذا الذي شرفته وعظمته عليّ، لئن أنظرتني لأضلن ذرّيته إلا قليلا منهم.

{ قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا (65) } .

لما سأل إبليس [عليه اللعنة] (2) النظرة قال الله له: { اذْهَبْ } فقد أنظرتك. كما قال في الآية الأخرى: { قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ } [ الحجر: 37 ، 38 ] ثم أوعده ومن تَبِعه من ذرية آدم جهنم، فقال: { فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ } أي: على أعمالكم { جَزَاءً مَوْفُورًا }

قال مجاهد: وافرا. وقال قتادة: مُوَفّرا عليكم، لا ينقص لكم منه.

وقوله: { وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ } قيل: هو الغناء. قال مجاهد: باللهو والغناء، أي: استخفهم بذلك.

وقال ابن عباس في قوله: { وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ } قال: كل داع دعا إلى معصية الله، عز وجل، وقال قتادة، واختاره ابن جرير.

__________

(1) في ت، أ: "يحكم".

(2) زيادة من ف، أ.

(5/93)

 

 

وقوله: { وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ } يقول: واحمل عليهم بجنودك خَيَّالتهم ورَجْلتَهم (1) ؛ فإن "الرّجْل" جمع "راجل" ، كما أن "الركب" جمع "راكب" و"صحب" جمع "صاحب".

ومعناه: تسلط عليهم بكل ما تقدرعليه. وهذا أمر قدري، كما قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا } [ مريم: 83 ] أي: تزعجهم إلى المعاصي إزعاجًا، وتسوقهم إليها (2) سوقًا. وقال ابن عباس، ومجاهد في قوله: { وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ } قال: كل راكب وماش في معصية الله.

وقال قتادة: إن له خيلا ورجالا من الجن والإنس، وهم الذين يطيعونه.

وتقول العرب: "أجلب فلان على فلان": إذا صاح عليه. ومنه: "نهى في المسابقة عن الجَلَب والجَنَب" ومنه اشتقاق "الجلبة" ، وهي ارتفاع الأصوات.

وقوله: { وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ } قال ابن عباس ومجاهد: هو ما أمرهم به من إنفاق الأموال في معاصي الله.

وقال عطاء: هو الربا. وقال الحسن: [هو] (3) جمعها من خبيث، وإنفاقها في حرام. وكذا قال قتادة.

وقال العوفي، عن ابن عباس، رضي الله عنهما: أما مشاركته إياهم في أموالهم، فهو ما حرموه من أنعامهم، يعني: من البحائر والسوائب ونحوها. وكذا قال الضحاك وقتادة.

[ثم] (4) قال ابن جرير: والأولى أن يقال: إن الآية تعم ذلك كله.

وقوله: { وَالأولادِ } قال العوفي عن ابن عباس، ومجاهد، والضحاك: يعني أولاد الزنا.

وقال علي ابن أبي طلحة، عن ابن عباس: هو ما كانوا قتلوه من أولادهم سفهًا بغير علم.

وقال قتادة، عن الحسن البصري: قد والله شاركهم في الأموال والأولاد مَجَّسُوا وهودوا ونَصّروا وصبغوا غير صبغة الإسلام، وجَزَّؤوا من أموالهم جزءًا للشيطان (5) وكذا قال قتادة سواء.

وقال أبو صالح، عن ابن عباس: هو تسميتهم أولادهم "عبد الحارث" و"عبد شمس" و"عبد فلان".

قال ابن جرير: وأولى الأقوال بالصواب أن يقال: كل مولود ولدته أنثى، عصى الله فيه، بتسميته ما (6) يكرهه الله، أو بإدخاله في غير الدين الذي ارتضاه الله، أو بالزنا بأمه، أو بقتله ووأده، وغير ذلك من الأمور التي يعصي (7) الله بفعله به أو فيه، فقد دخل في مشاركة إبليس فيه من ولد ذلك الولد له أو منه؛ لأن الله لم يخصص بقوله: { وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ } معنى الشركة فيه بمعنى دون معنى، فكل ما عصي الله فيه -أو به، وأطيع فيه الشيطان -أو به، فهو مشاركة.

__________

(1) في ت، ف: "ورجالتهم".

(2) في ت: "إلينا".

(3) زيادة من ف، أ.

(4) زيادة من ف، أ.

(5) في ف: "الشيطان".

(6) في ف: "بما".

(7) في ت: "يعفى".

(5/94)

 

 

رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66)

وهذا الذي قاله مُتَّجه، وكل (1) من السلف، رحمهم الله، فسر بعض المشاركة، فقد ثبت في صحيح مسلم، عن عياض بن حمار (2) ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله عز وجل: إني خلقت عبادي حُنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم (3) عن دينهم، وحَرّمت عليهم ما أحللت لهم" (4) .

وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يُقَدّر بينهما ولد في ذلك، لم يضره الشيطان أبدًا" (5) .

وقوله: { وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا } كما أخبر تعالى عن إبليس أنه يقول إذا حصحص الحق يوم يقضى بالحق: { إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ } الآية[ إبراهيم: 22 ] .

وقوله: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } : إخبار بتأييده تعالى عباده المؤمنين، وحفظه إياهم، وحراسته لهم من الشيطان الرجيم؛ ولهذا قال: { وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا } أي: حافظًا ومؤيدًا وناصرًا.

وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة، حدثنا ابن لَهيعة، عن موسى بن وَرْدَان، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن المؤمن ليُنْضي شياطينه (6) كما ينضي أحدكم بَعيرَه في السفر" (7) .

ينضي، أي: يأخذ بناصيته ويقهره.

{ رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) } .

يخبر تعالى عن لطفه بخلقه في تسخيره لعباده الفلك في البحر، وتسهيلها (8) لمصالح عباده لابتغائهم من فضله (9) في التجارة من إقليم إلى إقليم؛ ولهذا قال: { إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } أي: إنما فعل هذا بكم من فضله عليكم، ورحمته بكم.

__________

(1) في ت، ف" "فكل".

(2) في ف، أ: "عن ابن عباس عن عياض بن حمار". وفي ت: "حماد" بدل "حمار".

(3) في ت: "واجتالتهم".

(4) صحيح مسلم برقم (2865).

(5) صحيح البخاري برقم (141) وصحيح مسلم برقم (1434).

(6) في ت: "شيطانه".

(7) المسند (2/380).

(8) في ت، ف، أ: "وتسهيله لها".

(9) في ف، أ: "فضله لهم".

===================

 

 

 

 

 

 

 

الإسراء - تفسير القرطبي

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الآية: 59 {وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا}

قوله تعالى: "وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون" في الكلام حذف، والتقدير: وما منعنا أن نرسل بالآيات التي اقترحوها إلا أن يكذبوا بها فيهلكوا كما فعل بمن كان قبلهم. قال معناه قتادة وابن جريج وغيرهما. فأخر الله تعالى العذاب عن كفار قريش لعلمه أن فيهم من يؤمن وفيهم من يولد مؤمنا. وقد تقدم في "الأنعام" وغيرها أنهم طلبوا أن يحول الله لهم الصفا ذهبا وتتنحى الجبال عنهم؛ فنزل جبريل وقال: (إن شئت كان ما سأل قومك ولكنهم إن لم يؤمنوا لم يمهلوا وإن شئت استأنيت بهم). فقال: (لا بل استأن بهم). و"أن" الأولى في محل نصب بوقوع المنع عليهم، و"أن" الثانية في محل رفع. والباء في "بالآيات" زائدة. ومجاز الكلام: وما منعنا إرسال الآيات إلا تكذيب الأولين، والله تعالى لا يكون ممنوعا عن شيء؛ فالمعنى المبالغة في أنه لا يفعل، فكأنه قد منع عنه. ثم بين ما فعل بمن سأل الآيات فلم يؤمن بها فقال: "وآتينا ثمود الناقة مبصرة" أي آية دالة مضيئة نيرة على صدق صالح، وعلى قدرة الله تعالى. وقد تقدم ذلك. "فظلموا بها" أي ظلموا بتكذيبها. وقيل: جحدوا بها وكفروا أنها من عند الله فاستأصلهم الله بالعذاب. "وما نرسل بالآيات إلا تخويفا" فيه خمسة أقوال: الأول: العبر والمعجزات التي جعلها الله على أيدي الرسل من دلائل الإنذار تخويفا للمكذبين. الثاني: أنها آيات الانتقام تخويفا من المعاصي. الثالث: أنها تقلب الأحوال من صغر إلى شباب ثم إلى تكهل ثم إلى مشيب، لتعتبر بتقلب أحوالك فتخاف عاقبة أمرك؛ وهذا قول أحمد بن حنبل رضي الله عنه. الرابع: القرآن. الخامس: الموت الذريع؛ قاله الحسن.

الآية: 60 {وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا}

قوله تعالى: "وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس" قال ابن عباس: الناس هنا أهل مكة، وإحاطته بهم إهلاكه إياهم؛ أي أن الله سيهلكهم. وذكره بلفظ الماضي لتحقق كونه. وعني بهذا الإهلاك الموعود ما جرى يوم بدر ويوم الفتح. وقيل: معنى "أحاط بالناس" أي أحاطت قدرته بهم، فهم في قبضته لا يقدرون على الخروج من مشيئته؛ قاله مجاهد وابن أبي نجيح. وقال الكلبي: المعنى أحاط علمه بالناس. وقيل: المراد عصمته من الناس أن يقتلوه حتى يبلغ رسالة ربه؛ أي وما أرسلناك عليهم حفيظا، بل عليك التبليغ، فبلغ بجدك فإنا نعصمك منهم ونحفظك، فلا تهبهم، وامض لما آمرك به من تبليغ الرسالة، فقدرتنا محيطة بالكل؛ قال معناه الحسن وعروة وقتادة وغيرهم.

قوله تعالى: "وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس" لما بين أن إنزال آيات القرآن تتضمن التخويف ضم إليه ذكر آية الإسراء، وهي المذكورة في صدر السورة. وفي البخاري والترمذي عن ابن عباس في قوله تعالى: "وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس" قال: هي رؤيا عين أريها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى بيت المقدس. قال: "والشجرة الملعونة في القرآن" هي شجرة الزقوم. قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث صحيح. وبقول ابن عباس قالت عائشة ومعاوية والحسن ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير والضحاك وابن أبي نجيح وابن زيد. وكانت الفتنة ارتداد قوم كانوا أسلموا حين أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه أسري به. وقيل: كانت رؤيا نوم. وهذه الآية تقضي بفساده، وذلك أن رؤيا المنام لا فتنة فيها، وما كان أحد لينكرها. وعن ابن عباس قال: الرؤيا التي في هذه الآية هي رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يدخل مكة في سنة الحديبية، فرد فافتتن المسلمون لذلك، فنزلت الآية، فلما كان العام المقبل دخلها، وأنزل الله تعالى "لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق" [الفتح: 27]. وفي هذا التأويل ضعف؛ لأن السورة مكية وتلك الرؤيا كانت بالمدينة. وقال في رواية ثالثة: إنه عليه السلام رأى في المنام بني مروان ينزون على منبره نزو القردة، فساءه ذلك فقيل: إنما هي الدنيا أعطوها، فسري عنه، وما كان له بمكة منبر ولكنه يجوز أن يرى بمكة رؤيا المنبر بالمدينة. وهذا التأويل الثالث قاله أيضا سهل بن سعد رضي الله عنه. قال سهل إنما هذه الرؤيا هي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرى بني أمية ينزون على منبره نزو القردة، فاغتم لذلك، وما استجمع ضاحكا من يومئذ حتى مات صلى الله عليه وسلم. فنزلت الآية مخبرة أن ذلك من تملكهم وصعودهم يجعلها الله فتنة للناس وامتحانا. وقرأ الحسن بن على في خطبته في شأن بيعته لمعاوية: "وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين" [الأنبياء: 111]. قال ابن عطية: وفي هذا التأويل نظر، ولا يدخل في هذه الرؤيا عثمان ولا عمر بن عبدالعزيز ولا معاوية.

قوله تعالى: "والشجرة الملعونة في القرآن" فيه تقديم وتأخير؛ أي ما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس. وفتنتها أنهم لما خوفوا بها قال أبو جهل استهزاء: هذا محمد يتوعدكم بنار تحرق الحجارة، ثم يزعم أنها تنبت الشجر والنار تأكل الشجر، وما نعرف الزقوم إلا التمر والزبد، ثم أمر أبو جهل جارية فأحضرت تمرا وزبدا وقال لأصحابه: تزقموا. وقد قيل: إن القائل ما نعلم الزقوم إلا التمر والزبد ابن الزبعرى حيث قال: كثر الله من الزقوم في داركم، فإنه التمر بالزبد بلغة اليمن. وجائز أن يقول كلاهما ذلك. فافتتن أيضا لهذه المقالة بعض الضعفاء، فأخبر الله تعالى نبيه عليه السلام أنه إنما جعل الإسراء وذكر شجرة الزقوم فتنة واختبارا ليكفر من سبق عليه الكفر ويصدق من سبق له الإيمان. كما روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قيل له صبيحة الإسراء: إن صاحبك يزعم أنه جاء البارحة من بيت المقدس فقال: إن كان قال ذلك فلقد صدق. فقيل له: أتصدقه قبل أن تسمع منه؟ فقال: أين عقولكم؟ أنا أصدقه بخبر السماء، فكيف لا أصدقه بخبر بيت المقدس، والسماء أبعد منها بكثير.

قلت: ذكر هذا الخبر ابن إسحاق، ونصه: قال كان من الحديث فيما بلغني عن مسراه صلى الله عليه وسلم عن عبدالله بن مسعود وأبي سعيد الخدري وعائشة ومعاوية بن أبي سفيان والحسن بن أبي الحسن وابن شهاب الزهري وقتادة وغيرهم من أهل العلم وأم هانئ بنت أبي طالب، ما اجتمع في هذا الحديث، كل يحدث عنه بعض ما ذكر من أمره حين أسري به صلى الله عليه وسلم، وكان في مسراه وما ذكر عنه بلاء وتمحيص وأمر من أمر الله عز وجل في قدرته وسلطانه فيه عبرة لأولي الألباب، وهدى ورحمة وثبات لمن آمن وصدق وكان من أمر الله تعالى على يقين؛ فأسرى به صلى الله عليه وسلم كيف شاء وكما شاء ليريه من آياته ما أراد، حتى عاين ما عاين من أمره وسلطانه العظيم، وقدرته التي يصنع بها ما يريد. وكان عبدالله بن مسعود فيما بلغني عنه يقول: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبراق - وهي الدابة التي كانت تحمل عليها الأنبياء قبله تضع حافرها في منتهى طرفها - فحمل عليها، ثم خرج به صاحبه يُرى الآيات فيما بين السماء والأرض، حتى انتهى إلى بيت المقدس، فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء قد جمعوا له فصلى بهم ثم أتي بثلاثة آنية: إناء فيه لبن وإناء فيه خمر؛ وإناء فيه ماء. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فسمعت قائلا يقول حين عُرضَت عليّ إن أخذ الماء فغرق وغرقت أمته وإن أخذ الخمر فغوي وغوت أمته وإن أخذ اللبن فهُدي وهُديت أمته قال فأخذت إناء اللبن فشربت فقال له جبريل هُديت وهُديت أمتك يا محمد). قال ابن إسحاق: وحدثت عن الحسن أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينما أنا نائم في الحجر جاءني جبريل عليه السلام فهمزني بقدمه فجلست فلم أر شيئا ثم عدت لمضجعي فجاءني الثانية فهمزني بقدمه فجلست فلم أر شيئا فعدت لمضجعي فجاءني الثالثة فهمزني بقدمه فجلست فأخذ بعضدي فقمت معه فخرج إلى باب المسجد فإذا دابة أبيض بين البغل والحمار في فخديه جناحان يحفز بهما رجليه يضع حافره في منتهى طرفه فحملني عليه ثم خرج معي لا يفوتني ولا أفوته). قال ابن إسحاق: وحدثت عن قتادة أنه قال: حدثت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لما دنوت منه لأركبه شمس فوضع جبريل يده على معرفته ثم قال ألا تستحي يا براق مما تصنع فوالله ما ركبك عبد لله قبل محمد أكرم عليه منه قال فاستحيا حتى أرفض عرقا ثم قر حتى ركبته).

قال الحسن في حديثه: فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومضى معه جبريل حتى انتهى إلى بيت المقدس، فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء، فأمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم ثم أتى بإناءين: في أحدهما خمر وفي الآخر لبن، قال: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إناء اللبن فشرب منه وترك إناء الخمر. قال: فقال له جبريل: هديت الفطرة وهديت أمتك وحرمت عليكم الخمر. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة، فلما أصبح غدا على قريش فأخبرهم الخبر؛ فقال أكثر الناس: هذا والله الأمر البين والله إن العير لتطرد شهرا من مكة إلى الشام، مدبرة شهرا ومقبلة شهرا، فيذهب ذلك محمد في ليلة واحدة ويرجع إلى مكة قال: فارتد كثير ممن كان أسلم، وذهب الناس إلى أبي بكر فقالوا: هل لك يا أبا بكر في صاحبك يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس، وصلى فيه ورجع إلى مكة. قال فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: إنكم تكذبون عليه. فقالوا: بلى، ها هو ذا في المسجد يحدث به الناس. فقال أبو بكر: والله لئن كان قاله لقد صدق فما يعجبكم من ذلك فوالله إنه ليخبرني إن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه، فهذا أبعد مما تعجبون منه. ثم أقبل حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، أحدثت هؤلاء أنك جئت بيت المقدس هذه الليلة؟ قال (نعم) قال: يا نبي الله، فصفه لي فإني قد جئته؟ فقال الحسن: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رفع لي حتى نظرت إليه) فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصفه لأبي بكر ويقول أبو بكر رضي الله عنه: صدقت، أشهد أنك رسول الله. كلما وصف له منه شيئا قال: صدقت، أشهد أنك رسول الله. قال: حتى إذا انتهى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه: (وأنت يا أبا بكر الصديق) فيومئذ سماه الصديق. قال الحسن: وأنزل الله تعالى فيمن ارتد عن الإسلام لذلك: "وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة قي القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا". فهذا حديث الحسن عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما دخل فيه من حديث قتادة. وذكر باقي الإسراء عمن تقدم في السيرة. وقال ابن عباس: هذه الشجرة بنو أمية، وأن النبي صلى الله عليه وسلم نفى الحكم. وهذا قول ضعيف محدث والسورة مكية، فيبعد هذا التأويل؛ إلا أن تكون هذه الآية مدنية، ولم يثبت ذلك. وقد قالت عائشة لمروان: لعن الله أباك وأنت في صلبه فأنت بعض من لعنة الله. ثم قال: "والشجرة الملعونة في القرآن" ولم يجر في القرآن لعن هذه الشجرة، ولكن الله لعن الكفار وهم آكلوها. والمعنى: والشجرة الملعونة في القرآن آكلوها. ويمكن أن يكون هذا على قول العرب لكل طعام مكروه ضار: ملعون. وقال ابن عباس: الشجرة الملعونة هي هذه الشجرة التي تلتوي على الشجر فتقتله، يعني الكشوث. "ونخوفهم" أي بالزقوم. "فما يزيدهم" التخويف إلا الكفر.

الآيتان: 61 - 62 {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا، قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا}

قوله تعالى: "وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم" تقدم ذكر كون الشيطان عدو الإنسان، فانجر الكلام إلى ذكر آدم. والمعنى: اذكر بتمادي هؤلاء المشركين وعتوهم على ربهم قصة إبليس حين عصى ربه وأبى السجود، وقال ما قال، وهو ما أخبر الله تعالى في قوله تعالى: "فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا" أي من طين. وهذا استفهام إنكار. وقد تقدم القول في خلق آدم في "البقرة" و"الأنعام" مستوفى. "قال أرأيتك" أي قال إبليس. والكاف توكيد للمخاطبة. "هذا الذي كرمت علي" أي فضلته علي. ورأى جوهر النار خيرا من جوهر الطين ولم يعلم أن الجواهر متماثلة. وقد تقدم هذا في "الأعراف". و"هذا" نصب بـ "أرأيت". "الذي" نعته. والإكرام: اسم جامع لكل ما يحمد. وفي الكلام حذف تقديره: أخبرني عن هذا الذي فضلته علي، لم فضلته وقد خلقتني من نار وخلقته من طين؟ فحذف لعلم السامع. وقيل: لا حاجة إلى تقدير الحذف؛ أي أترى هذا الذي كرمته علي لأفعلن به كذا وكذا. ومعنى "لأحتنكن" في قول ابن عباس: لأستولين عليهم. وقاله الفراء. مجاهد: لأحتوينهم. ابن زيد: لأضلنهم. والمعنى متقارب؛ أي لأستأصلن ذريته بالإغواء والإضلال، ولأجتاحنهم. وروي عن العرب: إحتنك الجراد الزرع إذا ذهب به كله. وقيل: معناه لأسوقنهم حيث شئت وأقودنهم حيث أردت. ومن قولهم: حنكت الفرس أحنكه وأحنكه حنكا إذا جعلت في فيه الرسن. وكذلك إحتنكه. والقول الأول قريب من هذا؛ لأنه إنما يأتي على الزرع بالحنك. وقال الشاعر:

أشكو إليك سنة قد أجحفت جهدا إلى جهد بنا وأضعفت

واحتنكت أموالنا واجتلفت

"إلا قليلا" يعني المعصومين، وهم الذين ذكرهم الله في قوله: "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان" [الإسراء: 65] وإنما قال إبليس ذلك ظنا؛. كما قال الله تعالى: "ولقد صدق عليهم إبليس ظنه" [سبأ: 20] أو علم من طبع البشر تركب الشهوة فيهم؛ أو بنى على قول الملائكة: "أتجعل فيها من يفسد فيها" [البقرة: 30]. وقال الحسن: ظن ذلك لأنه وسوس إلى آدم عليه السلام فلم يجد له عزما.

الآية: 63 {قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا}

قوله تعالى: "قال اذهب" هذا أمر إهانة؛ أي اجهد جهدك فقد أنظرناك "فمن تبعك منهم" أي أطاعك من ذرية آدم. "فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا" أي وافرا؛ عن مجاهد وغيره. وهو نصب على المصدر، يقال: وفرته أفره وفرا، ووفر المال بنفسه يفر وفورا فهو وافر؛ فهو لازم ومتعد.

الآية: 64 {واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا}

قوله تعالى: "واستفزز" أي استزل واستخف. وأصله القطع، ومنه تفزز الثوب إذا انقطع. والمعنى استزله بقطعك إياه عن الحق. واستفزه الخوف أي استخفه. وقعد مستفزا أي غير مطمئن. "واستفزز" أمر تعجيز، أي أنت لا تقدر على إضلال أحد، وليس لك على أحد سلطان فافعل ما شئت. "بصوتك" وصوته كل داع يدعو إلى معصية الله تعالى؛ عن ابن عباس. مجاهد: الغناء والمزامير واللهو. الضحاك: صوت المزمار. وكان آدم عليه السلام أسكن أولاد هابيل أعلى الجبل، وولد قابيل أسفله، وفيهم بنات حسان، فزمر اللعين فلم يتمالكوا أن انحدروا فزنوا ذكره الغزنوي. وقيل: "بصوتك" بوسوستك.

قوله تعالى: "وأجلب عليهم بخيلك ورجلك" أصل الإجلاب السوق بجلبة من السائق؛ يقال: أجلب إجلابا. والجلب والجلبة: الأصوات؛ تقول منه: جلبوا بالتشديد. وجلب الشيء يجلبه ويجلبه جلبا وجلبا. وجلبت الشيء إلى نفسي واجتلبته بمعنى. وأجلب على العدو إجلابا؛ أي جمع عليهم. فالمعنى أجمع عليهم كل ما تقدر عليه من مكايدك وقال أكثر المفسرين: يريد كل راكب وماش في معصية الله تعالى. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة: إن له خيلا ورجلا من الجن والإنس. فما كان من راكب وماش يقاتل في معصية الله فهو من خيل إبليس ورجالته. وروى سعيد بن جبير ومجاهد عن ابن عباس قال: كل خيل سارت في معصية الله، وكل رجل مشى في معصية الله، وكل مال أصيب من حرام، وكل ولد بغية فهو للشيطان. والرجل جمع راجل؛ مثل صحب وصاحب. وقرأ حفص "ورجلك" بكسر الجيم وهما لغتان؛ يقال: رجل ورجل بمعنى راجل. وقرأ عكرمة وقتادة "ورجالك" على الجمع.

قوله تعالى: "وشاركهم في الأموال والأولاد" أي اجعل لنفسك شركة في ذلك. فشركته في الأموال إنفاقها في معصية الله؛ قاله الحسن. وقيل: هي التي أصابوها من غير حلها؛ قاله مجاهد. ابن عباس: ما كانوا يحرمونه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام. وقاله قتادة. الضحاك: ما كانوا يذبحونه لآلهتهم. والأولاد قيل: هم أولاد الزنى، قاله مجاهد والضحاك وعبدالله بن عباس. وعنه أيضا هو ما قتلوا من أولادهم وأتوا فيهم من الجرائم. وعنه أيضا: هو تسميتهم عبد الحارث وعبد العزى وعبد اللات وعبد الشمس ونحوه. وقيل: هو صبغة أولادهم في الكفر حتى هودوهم ونصروهم، كصنع النصارى بأولادهم بالغمس في الماء الذي لهم؛ قال قتادة. وقول خامس - روى عن مجاهد قال: إذا جامع الرجل ولم يسم انطوى الجان على إحليله فجامع معه، فذلك قوله تعالى: "لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان" وسيأتي. وروى من حديث عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن فيكم مغرِّبين) قلت: يا رسول الله، وما المغربون؟ قال:(الذين يشترك فيهم الجن). رواه الترمذي الحكيم في نوادر الأصول. قال الهروي: سموا مغربين لأنه دخل فيهم عرق غريب. قال الترمذي الحكيم: فللجن مساماة بابن آدم في الأمور والاختلاط؛ فمنهم من يتزوج فيهم، وكانت بلقيس ملكة سبأ أحد أبويها من الجن. وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: "وعدهم" أي منّهم الأماني الكاذبة، وأنه لا قيامة ولا حساب، وأنه إن كان حساب وجنة ونار فأنتم أولى بالجنة من غيركم يقويه قوله تعالى: "يعديهم ويمنيهم وما بعدهم الشيطان إلا غرورا" أي باطلا. وقبل "وعدهم" أي عدهم النصر على من أرادهم بسوء. وهذا الأمر للشيطان تهدد ووعيد له. وقيل: استخفاف به وبمن اتبعه.

في الآية ما يدل على تحريم المزامير والغناء واللهو؛ لقوله: "واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم" على قول مجاهد. وما كان من صوت الشيطان أو فعله وما يستحسنه فواجب التنزه عنه. وروى نافع عن ابن عمر أنه سمع صوت زمارة فوضع أصبعيه في أذنيه، وعدل راحلته عن الطريق وهو يقول: يا نافع! أتسمع؟ فأقول نعم؛ فمضى حتى قلت له لا، فوضع يديه وأعاد راحلته إلى الطريق وقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع صوت زمارة راع فصنع مثل هذا. قال علماؤنا: إذا كان هذا فعلهم في حق صوت لا يخرج عن الاعتدال، فكيف بغناء أهل هذا الزمان وزمرهم. وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة [لقمان] إن شاء الله تعالى.

الآية: 65 {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا}

قوله تعالى: "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان" قال ابن عباس: هم المؤمنون. وقد تقدم الكلام فيه. "وكفى بربك وكيلا" أي عاصما من القبول من إبليس، وحافظا من كيده وسوء مكره.

الآية: 66 {ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما}

قوله تعالى: "ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر" الإزجاء: السوق؛ ومنه قوله تعالى: "ألم تر أن الله يزجي سحابا". وقال الشاعر:

يا أيها الراكب المزجي مطيته سائل بنى أسد ما هذه الصوت

وإزجاء الفلك: سوقه بالريح اللينة. والفلك هنا جمع، وقد تقدم. والبحر الماء الكثير عذبا كان أو ملحا، وقد غلب هذا الاسم على الملح. وهذه الآية توقيف على آلاء الله وفضله عند عباده؛ أي ربكم الذي أنعم عليكم بكذا وكذا فلا تشركوا به شيئا. "لتبتغوا من فضله" أي في التجارات. وقد تقدم. "إنه كان بكم رحيما".

 

 

==============

 

 

 

 

 

 

 

الإسراء - تفسير الطبري

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ }

يقول تعالى ذكره: وما منعنا يا محمد أن نرسل بالآيات التي سألها قومك، إلا أن كان من قبلهم من الأمم المكذّبة، سألوا ذلك مثل سؤالهم؛ فلما آتاهم مأ سألوا منه كذّبوا رسلهم، فلم يصدّقوا مع مجيء الآيات، فعوجلوا فلم نرسل إلى قومك بالآيات، لأنَّا لو أرسلنا بها إليها، فكذّبوا بها، سلكنا في تعجيل العذاب لهم مسلك الأمم قبلها.

وبالذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد وابن وكيع، قالا ثنا جرير، عن الأعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: سأل أهل مكة النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا، وأن ينحي عنهم الجبال، فيزرعوا، فقيل له: إن شئت أن نستأني بهم لعلنا نجتني منهم، وإن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا أهلكوا كما أهلك من قبلهم،

(17/476)

 

 

قال: بل تستأني بهم، فأنزل الله( وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً ).

حدثني إسحاق بن وهب، قال: ثنا أبو عامر، قال : ثنا مسعود بن عباد، عن مالك بن دينار، عن الحسن في قول الله تعالى( وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ ) قال: رحمة لكم أيتها الأمة، إنا لو أرسلنا بالآيات فكذّبتم بها، أصابكم ما أصاب من قبلكم.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حماد بن زيد، عن أيوب، عن سعيد بن جبير، قال: قال المشركون لمحمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد إنك تزعم أنه كان قبلك أنبياء، فمنهم من سخرت له الريح. ومنهم من كان يحيي الموتى، فإن سرّك أن نؤمن بك ونصدّقك، فادع ربك أن يكون لنا الصفا ذهبا. فأوحى الله إليه: إني قد سمعت الذي قالوا، فإن شئت أن نفعل الذي قالوا، فإن لم يؤمنوا نزل العذاب، فإنه ليس بعد نزول الآية مناظرة، وإن شئت أن تستأني قومك استأنيت بها، قال: يا ربّ أستأني.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله( وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ ) قال: قال أهل مكة لنبيّ الله صلى الله عليه وسلم: إن كان ما تقول حقا. ويسرّك أن نؤمن، فحوّل لنا الصفا ذهبا، فأتاه جبرائيل عليه السلام فقال: إن شئت كان الذي سألك قومك، ولكنه إن كان ثم لم يؤمنوا لم يناظروا، وإن شئت استأنيت بقومك، قال: بَلِ أسْتَأْنِي بقَوْمي. فأنزل الله( وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا ) وأنزل الله عزّ وجلّ( مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ ).

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، أنهم سألوا أن يحوّل الصفا ذهبا، قال الله( وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ ) قال ابن جريج: لم يأت قرية بآية فيكذّبوا بها إلا عذّبوا، فلو جعلت لهم الصفا ذهبا ثم لم يؤمنوا عذّبوا، و"أن" الأولى التي مع مَنَعَنا، في موضع نصب بوقوع منعنا عليها، وأن الثانية رفع، لأن معنى الكلام: وما منعنا إرسال الآيات إلا تكذيب الأوّلين من الأمم، فالفعل لأن الثانية.

(17/477)

 

 

القول في تأويل قوله تعالى : { وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا (59) }

يقول تعالى ذكره: وقد سأل الآيات يا محمد مِن قَبْل قومك ثمود، فآتيناها ما سألت، وحملنا تلك الآية ناقة مبصرة، جعل الإبصار للناقة. كما تقول للشجة: موضحة، وهذه حجه مبينة. وإنما عنى بالمبصرة: المضيئة البينة التي من يراها كانوا أهل بصر بها، أنها لله حجة، كما قيل:(والنَهارَ مُبْصِرًا).

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة(وآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) : أي بيِّنة.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحرث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله عزّ ذكره(النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) قال: آية.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.

وقوله(فَظَلَمُوا بِها) يقول عزّ وجلّ: فكان بها ظلمهم، وذلك أنهم قتلوها وعقروها، فكان ظلمهم بعقرها وقتلها، وقد قيل: معنى ذلك: فكفروا بها، ولا وجه لذلك إلا أن يقول قائله أراد: فكفروا بالله بقتلها، فيكون ذلك وجها.

وأما قوله( وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا ) فإنه يقول: وما نرسل بالعبر والذكر إلا تخويفا للعباد.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله( وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا ) وإن الله يخوّف الناس بما شاء من آية لعلهم يعتبرون، أو يذكَّرون، أو يرجعون، ذُكر لنا أن الكوفة رجفت على عهد ابن مسعود، فقال: يأيها الناس إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا نوح بن قيس، عن أبي رجاء، عن الحسن( وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا ) قال: الموت الذريع.

(17/478)

 

 

وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60) }

وهذا حضّ من الله تعالى ذكره نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، على تبليغ رسالته، وإعلام منه أنه قد تقدّم منه إليه القول بأنه سيمنعه، من كلّ من بغاه سوءا وهلاكا، يقول جلّ ثناؤه: واذكر يا محمد إذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس قدرة، فهم في قبضته لا يقدرون على الخروج من مشيئته، ونحن مانعوك منهم، فلا تتهيَّب منهم أحدا، وامض لما أمرناك به من تبليغ رسالتنا.

وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الصمد، قال: ثنا شعبة، عن أبي رجاء، قال: سمعت الحسن يقول: أحاط بالناس، عصمك من الناس.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا أبو بكر الهذلي، عن الحسن( وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ ) قال: يقول : أحطت لك بالعرب أن لا يقتلوك، فعرف أنه لا يُقتل.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحرث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد(أحاطَ بالنَّاسِ) قال: فهم في قبضته.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير قوله(أحاطَ بالنَّاسِ) قال: منعك من الناس. قال معمر، قال قتادة ، مثله.

(17/479)

 

 

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قوله( وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ ) قال : منعك من الناس.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ ) أي منعك من الناس حتى تبلِّغ رسالة ربك.

وقوله( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ) اختلف أهل التأويل في ذلك، فقال بعضهم:

هو رؤيا عين، وهي ما رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم لما أُسري به من مكة إلى بيت المقدس.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا مالك بن إسماعيل، قال: ثنا ابن عيينة، عن عمرو ، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ) قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أُسري به، وليست برؤيا منام.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس، سُئِل عن قوله( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ) قال: هي رؤيا عين رآها النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة أُسري به.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس، بنحوه.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، قال: ثنا عمرو، عن فرات القزاز، عن سعيد بن جبير( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ) قال : كان ذلك ليلة أُسري به إلى بيت المقدس، فرأى ما رأى فكذّبه المشركون حين أخبرهم.

حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ) قال: أُسري به عشاء إلى بيت المقدس، فصلى فيه، وأراه الله ما أراه من الآيات، ثم أصبح بمكة، فأخبرهم أنه أُسري به إلى بيت المقدس، فقالوا له: يا محمد ما شأنك، أمسيت فيه ، ثم أصبحت فينا تخبرنا أنك أتيت بيت المقدس، فعجبوا من ذلك حتى ارتدّ بعضهم عن الإسلام.

(17/480)

 

 

حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا هوذة، قال: ثنا عوف، عن الحسن، في قوله( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ) قال: قال كفار أهل مكة: أليس من كذب ابن أبي كبشة أنه يزعم أنه سار مسيرة شهرين في ليلة.

حدثني أبو حصين، قال: ثنا عبثر، قال: ثنا حصين، عن أبي مالك في هذه الآية( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ) قال : مسيره إلى بيت المقدس.

حدثني أبو السائب ويعقوب، قالا ثنا ابن إدريس، عن الحسن بن عبد الله، عن أبي الضحى، عن مسروق في قوله( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ) قال: حين أُسري به.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ) قال: ليلة أُسري به.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ) قال: الرؤيا التي أريناك في بيت المقدس حين أُسري به، فكانت تلك فتنة الكافر.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ) يقول: الله أراه من الآيات والعبر في مسيره إلى بيت المقدس. ذُكر لنا أن ناسا ارتدّوا بعد إسلامهم حين حدثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسيره، أنكروا ذلك وكذّبوا له، وعجبوا منه، وقالوا: تحدّثنا أنك سرت مسيرة شهرين في ليلة واحدة.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ) قال: هو ما أُري في بيت المقدس ليلة أُسري به.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ ) قال: أراه الله من الآيات في طريق بيت المقدس حين أُسري به، نزلت فريضة الصلاة ليلة أُسري به قبل أن يهاجر بسنة وتسع

(17/481)

 

 

سنين (1) من العشر التي مكثها بمكة، ثم رجع من ليلته، فقالت قريش: تعشى فينا وأصبح فينا، ثم زعم أنه جاء الشام في ليلة ثم رجع، وايم الله إن الحدأة لتجيئها شهرين: شهرا مقبلة، وشهرا مُدبرة.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ) قال: هذا حين أُسري به إلى بيت المقدس، افتتن فيها ناس، فقالوا: يذهب إلى بيت المقدس ويرجع في ليلة: وقال: "لَمَّا أتانِي جَبْرَائِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ بالبُرَاقِ لِيَحْمِلَنِي عَلَيْها صَرَّتْ بأذُنَيْها، وَانْقَبَض بَعْضُها إلى بَعْضٍ، فَنَظَرَ إِلَيْها جَبْرَائِيلُ، فقالَ: وَالَّذِي بَعَثَنِي بالحَقّ مِنْ عِنْدِهِ ما رَكبَكَ أحَدٌ مِنْ وَلَدِ آدَمَ خَيْرٌ مِنْهُ، قالَ: فَصرَّتْ بأُذُنَيْها وَارْفَضَّتْ عَرَقا حتى سالَ ما تَحْتَها، وكانَ مُنْتَهَى خَطْوُها عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفها" فلما أتاهم بذلك، قالوا: ما كان محمد لينتهي حتى يأتي بكذبة تخرج من أقطارها ، فأتوا أبا بكر رضي الله عنه فقالوا: هذا صاحبك يقول كذا وكذا، فقال: وقد قال ذلك؟ قالوا: نعم، فقال: إن كان قد قال ذلك فقد صدق، فقالوا: تصدّقه إن قال ذهب إلى بيت المقدس ورجع في ليلة؟ فقال أبو بكر: إي، نزع الله عقولكم، أصدّقه بخبر السماء، والسماء أبعد من بيت المقدس، ولا أصدّقه بخبر بيت المقدس؟ قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إنا قد جئنا بيت المقدس فصفه لنا، فلما قالوا ذلك، رفعه الله تبارك وتعالى ومثله بين عينيه، فجعل يقول: هو كذا، وفيه كذا، فقال بعضهم: وأبيكم إن أخطأ منه حرفا، فقالوا: هذا رجل ساحر.

حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ) يعني ليلة أُسري به إلى بيت المقدس، ثم رجع من ليلته، فكانت فتنة لهم.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال. ثنا عيسى؛ وحدثني الحرث، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن

__________

(1) لعله: ولتسع سنين: أي ولمضي تسع...إلخ.

(17/482)

 

 

مجاهد في قوله(الرُّؤْيَا التي أرَيْنَاكَ) قال: حين أُسري بمحمد صلى الله عليه وسلم.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، بنحوه.

وقال آخرون: هي رؤياه التي رأى أنه يدخل مكة.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ) قال: يقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُري أنه دخل مكة هو وأصحابه، وهو يومئذ بالمدينة، فعجَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم السير إلى مكة قبل الأجل، فردّه المشركون، فقالت أناس: قد ردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان حدثنا أنه سيدخلها، فكانت رجعته فتنتهم.

وقال آخرون ممن قال: هي رؤيا منام: إنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في منامه قوما يعلون منبره.

* ذكر من قال ذلك: حدثت عن محمد بن الحسن بن زبالة، قال: ثنا عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد، قال: ثني أبي، عن جدّي، قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني فلان ينزون على منبره نزو القردة، فساءه ذلك، فما استجمع ضاحكا (1) حتى مات، قال: وأنزل الله عزّ وجلّ في ذلك( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ).... الآية.

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: عنى به رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى من الآيات والعبر في طريقه إلى بيت المقدس، وبيت المقدس ليلة أُسري به، وقد ذكرنا بعض ذلك في أوّل هذه السورة.

وإنما قُلنا ذلك أولى بالصواب، لإجماع الحجة من أهل التأويل على أن

__________

(1) معناه: لم يره الناس بعدها ضاحكا ضحكا تاما حتى مات.

(17/483)

 

 

هذه الآية إنما نزلت في ذلك، وإياه عنى الله عّز وجلّ بها، فإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام: وما جعلنا رؤياك التي أريناك ليلة أسرينا بك من مكة إلى بيت المقدس، إلا فتنة للناس: يقول: إلا بلاء للناس الذين ارتدّوا عن الإسلام، لمَّا أُخبروا بالرؤيا التي رآها، عليه الصلاة والسلام وللمشركين من أهل مكة الذين ازدادوا بسماعهم ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم تماديا في غيهم، وكفرا إلى كفرهم.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله(إِلا فِتْنَةً للنَّاسِ) (1) .

وأما قوله( وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ) فإن أهل التأويل اختلفوا فيها، فقال بعضهم: هي شجرة الزَّقُّوم.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا مالك بن إسماعيل، قال: ثنا أبو عبيدة، عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس( وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ) قال: شجرة الزَّقُّوم.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله( وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ) قال: هي شجرة الزقوم، قال أبو جهل: أيخوّفني ابن أبي كبشة بشجرة الزَّقوم، ثم دعا بتمر وزُبد، فجعل يقول: زقمني، فأنزل الله تعالى( طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ ) وأنزل( وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا ).

حدثني أبو السائب ويعقوب، قالا ثنا ابن إدريس، عن الحسن بن عبيد الله، عن أبي الضحى، عن مسروق( وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ) قال: شجرة الزقوم.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الحسن بن عبيد الله، عن أبي الضحى، عن مسروق، مثله.

حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله( وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ) فإن قريشا كانوا يأكلون التمر والزبد،

__________

(1) اختصر المتن اكتفاء بما سبق قريبا.

(17/484)

 

 

ويقولون: تزقموا هذا الزقوم. قال أبو رجاء: فحدثني عبد القدّوس، عن الحسن، قال: فوصفها الله لهم في الصافات.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا هوذة، قال: ثنا عوف، عن الحسن، قال: قال أبو جهل وكفار أهل مكة: أليس من كذب ابن أبي كَبشة أنه يوعدكم بنار تحترق فيها الحجارة، ويزعم أنه ينبت فيها شجرة( وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ) قال: هي شجرة الزَّقوم.

حدثني عبد الله بن أحمد بن يونس، قال: ثنا عبثر، قال: ثنا حصين، عن أبي مالك في هذه الآية( وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ) قال: شجرة الزقوم.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا هشيم، عن حصين، عن أبي مالك، قال في قوله( وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ) قال: هي شجرة الزقوم.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا عبد الله بن المبارك، عن رجل يقال له بدر، عن عكرمة، قال: شجرة الزقوم.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا إسرائيل، عن فرات القزّار، قال: سُئل سعيد بن جبير عن الشجرة الملعونة، قال: شجرة الزقوم.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا هشيم، عن عبد الملك العَزْرميّ، عن سعيد بن جبير(وَالشَّجَرَةَ المَلْعُونَةَ) قال: شجرة الزقوم.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، بمثله.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثني الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد( وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ) قال: الزقوم.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج ، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن أبي المَحجل، عن أبي معشر، عن إبراهيم، أنه كان يحلف ما يستثني، أن الشجرة الملعونة: شجرة الزقوم.

(17/485)

 

 

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا إسرائيل، عن فُرات القزاز، قال: سألت سعيد بن جبير، عن الشجرة الملعونة في القرآن، قال: شجرة الزَّقوم.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة عن ابن عباس، قال: هي الزقوم.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله( وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا ) وهي شجرة الزقوم، خوّف الله بها عباده، فافتتنوا بذلك، حتى قال قائلهم أبو جهل بن هشام: زعم صاحبكم هذا أن في النار شجرة، والنار تأكل الشجر، وإنا والله ما نعلم الزقوم إلا التمر والزبد، فتزقموا، فأنزل الله تبارك وتعالى حين عجبوا أن يكون في النار شجرة( إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ )، إني خلقتها من النار، وعذّبت بها من شئت من عبادي.

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة( وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ) قال: الزقوم؛ وذلك أن المشركين قالوا: يخبرنا هذا أن في النار شجرة، والنار تأكل الشجر حتى لا تدع منه شيئا، وذلك فتنة.

حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله( وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ) قال: شجرة الزقوم.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال : قال ابن زيد، في قوله( وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ) الزقوم التي سألوا الله أن يملأ بيوتهم منها، وقال: هي الصَّرفَان بالزبد تتزقمه، والصرفان: صنف من التمر، قال: وقال أبو جهل: هي الصرفان بالزبد، وافتتنوا بها.

وقال آخرون: هي الكشوث (1) .

__________

(1) الكشوث، والكشوثا: نبت يتعلق بالأغصان، ولا عرق له في الأرض. وهي لفظة سوادية (انظر اللسان والتاج).

(17/486)

 

 

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61)

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن مولى بني هاشم حدثه، أن عبد الله بن الحارث بن نوفل، أرسله إلى ابن عباس، يسأله عن الشجرة الملعونة في القرآن؟ قال: هي هذه الشجرة التي تلوي على الشجرة، وتجعل في الماء، يعني الكشوثي.

وأولى القولين في ذلك بالصواب عندنا قول من قال: عنى بها شجرة الزقوم، لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك، ونصبت الشجرة الملعونة عطفا بها على الرؤيا. فتأويل الكلام إذن: وما جعلنا الرؤيا التي أريناك، والشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس، فكانت فتنتهم في الرؤيا ما ذكرت من ارتداد من ارتدّ، وتمادِي أهل الشرك في شركهم، حين أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أراه الله في مسيره إلى بيت المقدس ليلة أُسري به، وكانت فتنهم في الشجرة الملعونة ما ذكرنا من قول أبي جهل والمشركين معه: يخبرنا محمد أن في النار شجرة نابتة، والنار تأكل الشجر فكيف تنبت فيها؟

وقوله( وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا ) يقول: ونخوّف هؤلاء المشركين بما نتوعدهم من العقوبات والنكال، فما يزيدهم تخويفنا إلا طغيانا كبيرا، يقول: إلا تماديا وغيا كبيرا في كفرهم وذلك أنهم لما خُوّفوا بالنار التي طعامهم فيها الزقوم دعوا بالتمر والزبد، وقالوا: تزقموا من هذا.

وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك؛ وقد تقدّم ذكر بعض من قال ذلك ، ونذكر بعض من بقي.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين ، قال: ثني حجاج، قال قال ابن جريج(وَالشَّجَرَةَ المَلْعُونَةَ) قال: طلعها كأنه رءوس الشياطين، والشياطين ملعونون. قال( وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ) لما ذكرها زادهم افتتانا وطغيانا، قال الله تبارك وتعالى،( وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا ).

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا

(17/487)

 

 

قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62)

الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا (62) }

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر يا محمد تمادي هؤلاء المشركين في غيهم وارتدادهم عتوّا على ربهم بتخويفه إياهم تحقيقهم قول عدوّهم وعدوّ والدهم، حين أمره ربه بالسجود له فعصاه وأبى السجود له، حسدا واستكبارا( لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا ) وكيف صدّقوا ظنه فيهم، وخالفوا أمر ربهم وطاعته، واتبعوا أمر عدوّهم وعدوّ والدهم.

ويعني بقوله(وَإِذْ قُلْنَا للْمَلائِكَةِ):

واذكر إذ قلنا للملائكة( اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ ) فإنه استكبر وقال( أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ) يقول: لمن خلقته من طين؛ فلما حذفت "من" تعلَّق به قوله(خَلَقْتَ) فنصب، يفتخر عليه الجاهل بأنه خُلِقَ من نار، وخلق آدم من طين.

كما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: بعث ربّ العزّة تبارك وتعالى إبليس، فأخذ من أديم الأرض، من عذبها وملحها، فخلق منه آدم، فكل شيء خُلق من عذبها فهو صائر إلى السعادة وإن كان ابن كافرين، وكلّ شيء خَلقه من مِلحها فهو صائر إلى الشقاوة وإن كان ابن نبيين؛ ومن ثم قال إبليس( أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ): أي هذه الطينة أنا جئت بها، ومن ثم سُمّي آدم. لأنه خُلق من أديم الأرض.

وقوله( أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ ) يقول تعالى ذكره: أرأيت هذا الذي كرّمته عليّ، فأمرتني بالسجود له، ويعني بذلك آدم( لَئِنْ أَخَّرْتَنِي ) أقسم عدوّ الله، فقال لربه: لئن أخرت إهلاكي إلى يوم القيامة( لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا ) يقول: لأستولين عليهم، ولأستأصلنهم، ولأستميلنهم يقال منه: احتنك فلان ما عند فلان من مال أو علم أو غير ذلك؛ ومنه قول الشاعر:

(17/488)

 

 

قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63)

نَشْكُو إِلَيْكَ سَنَةً قَدْ أجْحَفَتْ... جَهْدًا إلى جَهْدٍ بنا فأضْعَفَتْ... واحْتَنَكَتْ أمْوَالَنا وجَلَّفَتْ (1)

وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال : ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ، في قول الله تبارك وتعالى( لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا ) قال: لأحتوينهم.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.

حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله( لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا ) يقول: لأستولينّ.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله( لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا ) قال: لأضلنهم، وهذه الألفاظ وإن اختلفت فإنها متقاربات المعنى، لأن الاستيلاء والاحتواء بمعنى واحد، وإذا استولى عليهم فقد أضلهم.

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) }

__________

(1) هذه أبيات ثلاثة من مشطور الرجز، من الأرجوزة السادسة في بقية ديوان الزفيان السعدي (عطاء بن أسيد الراجز) وهي ملحقة بديوان العجاج المطبوع في ليبزج سنة 1903 ص 65، مع اختلاف في رواية بعضها. والبيتان الأولان هما: نشكو إليك سنة قد جلفت ... أموالنا من أصلها وجرفت

أما البيت الثالث فليس في الأرجوزة. ومعنى أجحفت: أضرت بنا، وذهبت أموالنا، فلقينا من شهدتها جهدا إلى جهد. واحتنكت: قال أبو عبيدة في مجاز القرآن (:384) يقال: احتنك فلان ما عند فلان أجمع من مال أو علم أو حديث أو غيره: أخذه كله واستقصاه. قال: نشكو إليك...إلخ الأبيات. ومعنى جلفت: قشرت أو قشر الجلد مع شيء من اللحم. والأبيات شاهد على أن الاحتناك معناه الاستئصال.

(17/489)

 

 

وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64)

يقول تعالى ذكره قال الله لإبليس إذ قال له( لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا ) اذهب فقد أخرتك، فمن تبعك منهم، يعني من ذرّية آدم عليه السلام فأطاعك، فإن جهنم جزاؤك وجزاؤهم، يقول: ثوابك على دعائك إياهم على معصيتي، وثوابهم على اتباعهم إياك وخلافهم أمري(جزاءً موْفُورًا) : يقول: ثوابا مكثورا مكملا.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله( قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا ) عذاب جهنم جزاؤهم، ونقمة من الله من أعدائه فلا يعدل عنهم من عذابها شيء.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد( فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا ) قال: وافرا.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد(مَوْفُورا)، قال: وافرا.

القول في تأويل قوله تعالى : { وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا (64) }

يعني تعالى ذكره بقوله(وَاسْتَفْزِزْ) واستخفف واستجهل، من قولهم: استفزّ فلانا كذا وكذا فهو يستفزّه( مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ).

اختلف أهل التأويل في الصوت الذي عناه جلّ ثناؤه بقوله( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ) فقال بعضهم: عنى به: صوت الغناء واللعب.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد، في قوله( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ) قال: باللهو والغناء.

(17/490)

 

 

حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثا يذكر، عن مجاهد، في قوله:( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ) قال: اللعب واللهو.

وقال آخرون: عنى به( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ ) بدعائك إياه إلى طاعتك ومعصية الله.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ) قال: صوته كلّ داع دعا إلى معصية الله.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ) قال: بدعائك.

وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال: إن الله تبارك وتعالى قال لإبليس: واستفزز من ذرّية آدم من استطعت أن تستفزّه بصوتك، ولم يخصص من ذلك صوتا دون صوت، فكل صوت كان دعاء إليه وإلى عمله وطاعته، وخلافا للدعاء إلى طاعة الله، فهو داخل في معنى صوته الذي قال الله تبارك وتعالى اسمه له( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ).

وقوله( وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ ) يقول: وأجمع عليهم من ركبان جندك ومشاتهم من يجلب عليها بالدعاء إلى طاعتك، والصرف عن طاعتي، يقال منه: أجلب فلان على فلان إجلابا: إذا صاح عليه. والجَلَبة: الصوت، وربما قيل: ما هذا الجَلَب، كما يقال: الغَلَب، والشَّفَقَة والشَّفَق.

وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني سلم بن جنادة، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثا يذكر عن مجاهد، في قوله( وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ ) قال: كلّ راكب وماش في معاصي الله تعالى.

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة( وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ ) قال: إن له خيلا ورجلا من الجن والإنس، وهم الذين يطيعونه.

(17/491)

 

 

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ ) قال الرجال: المشاة.

حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله( وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ ) قال: خيله: كل راكب في معصية الله؛ ورجله: كل راجل في معصية الله.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، في قوله( وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ ) قال: ما كان من راكب يقاتل في معصية الله فهو من خيل إبليس، وما كان من راجل في معصية الله فهو من رجال إبليس، والرجْل: جمع راجل، كما التجْر: جمع تاجر، والصَّحْب: جمع صاحب.

وأما قوله( وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ ) في الأموال والأولادفإن أهل التأويل اختلفوا في المشاركة التي عنيت بقوله( وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولادِ ) فقال بعضهم: هو أمره إياهم بإنفاق أموالهم في غير طاعة الله واكتسابهموها من غير حلها.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثا يذكر عن مجاهد( وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ ) التي أصابوها من غير حلها.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد( وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ ) قال: ما أكل من مال بغير طاعة الله.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا عيسى بن يونس، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء بن أبي رَباح، قال: الشرك في أموال الربا.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، في قوله( وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولادِ ) قال: قد والله شاركهم في أموالهم، وأعطاهم الله أموالا فأنفقوها في طاعة الشيطان في غير حقّ الله تبارك اسمه، وهو قول قتادة.

(17/492)

 

 

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد، عن معمر، قال: قال الحسن( وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ ) مرهم أن يكسبوها من خبيث، وينفقوها في حرام.

حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس( وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولادِ ) قال: كل مال في معصيه الله.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله( وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأولادِ ) قال: مشاركته إياهم في الأموال والأولاد، ما زَيَّن لهم فيها من معاصي الله حتى ركبوها.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد( وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ ) كلّ ما أنفقوا في غير حقه.

وقال آخرون: بل عُنِي بذلك كلّ ما كان من تحريم المشركين ما كانوا يحرّمون من الأنعام كالبحائر والسوائب ونحو ذلك.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمى، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله( وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ ) قال: الأموال: ما كانوا يحرِّمون من أنعامهم.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا عيسى، عن عمران بن سليمان. عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: مشاركته في الأموال أن جعلوا البحيرة والسائبة والوصيلة لغير الله.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة( وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ ) فإنه قد فعل ذلك، أما في الأموال، فأمرهم أن يجعلوا بحيرة وسائبة ووصيلة وحاما.

قال أبو جعفر: الصواب: حاميا.

وقال آخرون: بل عُنِي به ما كان المشركون يذبحونه لآلهتهم.

* ذكر من قال ذلك: حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول:( وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ ) يعني ما كانوا يذبحون لآلهتهم.

(17/493)

 

 

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عُنِي بذلك كلّ مال عصى الله فيه بإنفاق في حرام أو اكتساب من حرام، أو ذبح للآلهة، أو تسييب، أو بحر للشيطان، وغير ذلك مما كان معصيا به أو فيه، وذلك أن الله قال( وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ ) فكلّ ما أطيع الشيطان فيه من مال وعصى الله فيه، فقد شارك فاعل ذلك فيه إبليس، فلا وجه لخصوص بعض ذلك دون بعض.

وقوله(والأوْلاد) اختلف أهل التأويل في صفة شركته بني آدم في أولادهم، فقال بعضهم: شركته إياهم فيهم بزناهم بأمهاتهم.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمى، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله( وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ ) قال: أولاد الزنا.

حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثا يذكر عن مجاهد( وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ ) قال: أولاد الزنا.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحرث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد( وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ ) قال: أولاد الزنا.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال : ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: أولاد الزنا.

حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ قال: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول( وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ ) قال: أولاد الزنا، يعني بذلك أهل الشرك.

حدثنا ابن حميد، قال : ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، في قوله( وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ ) قال: الأولاد: أولاد الزنا.

وقال آخرون: عنى بذلك: وأْدُهم أولادَهم وقتلهموهم.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني علي، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس( وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ ) قال: ما قتلوا من أولادهم، وأتوا فيهم الحرام.

(17/494)

 

 

وقال آخرون: بل عنى بذلك: صبغهم إياهم في الكفر.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن( وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ ) قال: قد والله شاركهم في أموالهم وأولادهم، فمجسوا وهوّدوا ونصروا وصبغوا غير صبغة الإسلام وجزءوا من أموالهم جزءا للشيطان.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة( وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ ) قال: قد فعل ذلك، أما في الأولاد فانهم هوّدوهم ونصَّروهم ومجّسوهم.

وقال آخرون: بل عنى بذلك تسميتهم أولادهم عبد الحرث وعبد شمس.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني عيسى بن يونس، عن عمران بن سليمان، عن أبي صالح عن ابن عباس( وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ ) قال: مشاركته إياهم في الأولاد، سموا عبد الحرث وعبد شمس وعبد فلان.

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: كل ولد ولدته أنثى عصى الله بتسميته ما يكرهه الله، أو بإدخاله في غير الدين الذي ارتضاه الله، أو بالزنا بأمه، أو قتله ووأده، أو غير ذلك من الأمور التي يخصص بقوله( وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ ) معنى الشركة فيه بمعنى دون معنى، فكلّ ما عصى الله فيه أو به، وأطيع به الشيطان أو فيه، فهو مشاركة من عصى الله فيه أو به إبليس فيه.

وقوله( وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا ) يقول تعالى ذكره لإبليس: وعد أتباعك من ذرّية آدم، النصرة على من أرادهم بسوء، يقول الله( وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا ) لأنه لا يغني عنهم من عقاب الله إذا نزل بهم شيئا، فهم من عداته في باطل وخديعة، كما قال لهم عدو الله حين حصحص الحق( إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ ).

(17/495)

 

 

إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65) رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66)

القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا (65) }

يقول تعالى ذكره لإبليس: إن عبادي الذين أطاعوني، فاتبعوا أمري وعصوك يا إبليس، ليس لك عليهم حجة.

وقوله( وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا ) يقول جلّ ثناؤه لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم: وكفاك يا محمد ربك حفيظا، وقيما بأمرك، فانقد لأمره، وبلغ رسالاته هؤلاء المشركين، ولا تخف أحدا، فإنه قد توكل بحفظك ونصرتك.

كما حدثنا بشر، قال ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا ) وعباده المؤمنون، وقال الله في آية أخرى( إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ).

القول في تأويل قوله تعالى : { رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) }

يقول تعالى ذكره للمشركين به: ربكم أيها القوم هو الذي يسير لكم السفن في البحر، فيحملكم فيها( لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ) لتوصلوا بالركوب فيها إلى أماكن تجاراتكم ومطالبكم ومعايشكم، وتلتمسون من رزقه( إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ) يقول: إن الله كان بكم رحيما حين أجرى لكم الفلك في البحر، تسهيلا منه بذلك عليكم التصرّف في طلب فضله في البلاد النائية التي لولا تسهيله ذلك لكم لصعب عليكم الوصول إليها.

وبنحو ما قلنا في قوله(يُزْجِى لَكُمْ ) قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني علي بن داود ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني

(17/496)

 

 

معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله( رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ ) يقول: يجري الفلك.

حدثني محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة( رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ ) قال: يسيرها في البحر.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس( رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ ) قال: يجري.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله( رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ ) قال: يجريها

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مدونة قانون الحق مكررة مشمولة

قال الشَّيْخ أَبُو عَمْرو بْن الصَّلَاح رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى فِي الظَّوَاهِر الْوَارِدَة بِدُخُولِ الْجَنَّة بِمُجَرَّدِ الشَّهَادَة ...