نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}}

 نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}

Translate واقي ان

الثلاثاء، 28 فبراير 2023

تفسير سورة الاسراء الايات من 50. الي58.

تفسير سورة الاسراء الايات من 50. الي58. 

 قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52) وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)

=================

 

 

 

 

 

 

 

الإسراء - تفسير ابن كثير

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)

{ قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا (52) } .

يقول تعالى مخبرًا عن الكفار المستبعدين وقوع المعاد، القائلين استفهام إنكار منهم لذلك: { أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا } أي: ترابًا. قاله مجاهد.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: غبارًا.

{ أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } أي: يوم القيامة { خَلْقًا جَدِيدًا } أي: بعد ما بلينا وصرنا عدمًا لا يذكر. كما أخبر عنهم في الموضع الآخر: { يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ* أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً* قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ } [ النازعات: 10 -12 ] قال تعالى (1) : { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [ يس: 78 ، 79 ].

__________

(1) في ف: "وقال تعالى".

(5/84)

 

 

وهكذا أمر رسوله ههنا (1) أن يجيبهم فقال: { قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا } وهما (2) أشد امتناعا من العظام والرفات { أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ }

قال ابن إسحاق عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: سألت ابن عباس عن ذلك فقال: هو الموت.

وروى عطية، عن ابن عمر أنه قال في تفسير هذه الآية: لو كنتم موتى لأحييتكم. وكذا قال سعيد بن جبير، وأبو صالح، والحسن، وقتادة، والضحاك.

ومعنى ذلك: أنكم لو فرضتم أنكم لو (3) صِرْتُم مَوْتًا الذي هو ضد الحياة لأحياكم الله إذا شاء، فإنه لا يمتنع (4) عليه شيء إذا أراده.

وقد ذكر بن جرير [هاهنا] (5) حديث: "يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كَبْش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، ثم يقال: يا أهل الجنة، أتعرفون هذا؟ فيقولون: نعم. ثم يقال: يا أهل النار، أتعرفون هذا؟ فيقولون: نعم. فيذبح بين الجنة والنار، ثم يقال: يا أهل الجنة، خلود بلا موت، ويا أهل النار، خلود بلا موت" (6) .

وقال مجاهد: { أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ } يعني: السماء والأرض والجبال.

وفي رواية: ما شئتم فكونوا، فسيعيدكم الله بعد موتكم.

وقد وقع في التفسير المروي عن الإمام مالك، عن الزهري في قوله { أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ } قال: النبي صلى الله عليه وسلم، قال مالك: ويقولون: هو الموت.

وقوله [تعالى] (7) { فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا } أي: من يعيدنا إذا كنا حجارة أو حديدًا أو خلقًا آخر شديدًا { قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي: الذي خلقكم ولم تكونوا شيئًا مذكورًا، ثم صرتم بشرًا تنتشرون؛ فإنه قادر على إعادتكم ولو صرتم إلى أي حال { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم: 27 ].

وقوله [تعالى] (8) : { فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ } : قال ابن عباس وقتادة: يحركونها استهزاء.

وهذا الذي قالاه هو الذي تفهمه العرب من لغاتها؛ لأن (9) الإنغاض هو: التحرك من أسفل إلى أعلى، أو من أعلى إلى أسفل، ومنه قيل للظليم -وهو ولد النعامة -: نغضًا؛ لأنه إذا مشى عَجل (10) في مشيته وحَرَك رأسه. ويقال: نَغَضَت (11) سنُه إذا تحركت وارتفعت من مَنْبَتها؛ قال: الراجز (12) .

ونَغَضَتْ مِنْ هَرَم أسنانها ...

وقوله: { وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ } إخبار عنه بالاستبعاد منهم لوقوع (13) ذلك، كما قال تعالى: { وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ الملك: 25 ]

__________

(1) في ف: "هنا".

(2) في ف: "إذا هما".

(3) في ف: "قد".

(4) في ت: "إذا شاء فلا".

(5) زيادة من أ.

(6) تفسير الطبري (15/69) من طريق العوفيين عن ابن عمر، رضي الله عنه، وإسناده مسلسل بالضعفاء وأصله في صحيح مسلم برقم (2849) من جديث أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه.

(7) زيادة من ت.

(8) زيادة من ت.

(9) في ت، ف: "فإن".

(10) في ت، ف: "أعجل".

(11) في ت: "نغض".

(12) الرجز في تفسير الطبري (15/70).

(13) في ت: "وقوع".

(5/85)

 

 

وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)

، وقال تعالى: { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا } [ الشورى: 18 ].

وقوله: { قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا } أي: احذروا ذلك، فإنه قريب إليكم، سيأتيكم لا محالة، فكل ما هو آت آت.

وقوله [تعالى] (1) : { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ } أي: الرب تعالى { إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ } [ الروم: 25 ] أي: إذا أمركم بالخروج منها فإنه لا يُخالَف ولا يُمَانع، بل كما قال [تعالى] (2) { وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } [ القمر: 50 ]{ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ النحل: 40 ] وقال { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ . فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ } [ النازعات: 13 ، 14 ] أي: إنما هو أمر واحد بانتهار، فإذا الناس قد خرجوا من باطن الأرض إلى ظاهرها (3) كما قال: { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ } أي: تقومون (4) كلكم إجابة لأمره وطاعة لإرادته.

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ } أي: بأمره. وكذا قال ابن جريج.

وقال قتادة: بمعرفته وطاعته.

وقال بعضهم: { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ } أي: وله الحمد في كل حال، وقد جاء في الحديث: "ليس على أهل "لا إله إلا الله" وحشة في قبورهم، وكأني (5) بأهل "لا إله إلا الله" يقومون من قبورهم ينفضون التراب عن رءوسهم، يقولون: لا إله إلا الله". وفي رواية يقولون: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ } [ فاطر: 34 ] وسيأتي في سورة فاطر [إن شاء الله تعالى] (6) .

وقوله: { وَتَظُنُّونَ } أي: يوم تقومون من قبوركم { إِنْ لَبِثْتُمْ } [أي] (7) : في الدار الدنيا { إِلا قَلِيلا } ، وكما قال: { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } [ النازعات: 46 ] وقال تعالى: { يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا } [ طه: 102 -104 ]، وقال تعالى: { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ } [ الروم: 55 ]، وقال تعالى: { قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [ المؤمنون: 112 -114 ].

{ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) } .

يأمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباد الله المؤمنين، أن يقولوا في مخاطباتهم ومحاوراتهم الكلام

__________

(1) زيادة من ت.

(2) زيادة من ت.

(3) في ت: "ظهرها".

(4) في ت، ف: "تقولون".

(5) في ت، ف: "فكأني".

(6) زيادة من ف، أ.

(7) زيادة من ف.

(5/86)

 

 

رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)

الأحسن والكلمة الطيبة؛ فإنه إذ لم يفعلوا ذلك، نزغ الشيطان بينهم، وأخرج الكلام إلى الفعال، ووقع الشر والمخاصمة والمقاتلة، فإن الشيطان عدو لآدم وذريته من حين امتنع من السجود لآدم، فعداوته ظاهرة بينة؛ ولهذا نهى أن يشير الرجل إلى أخيه المسلم بحديدة، فإن الشيطان ينزغ في يده، أي: فربما أصابه بها.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمر، عن همام، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يشيرنّ أحدكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري أحدكم لعل الشيطان أن ينزع في يده، فيقع في حفرة من نار (1) .

أخرجاه من حديث عبد الرزاق (2) .

وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد، أنبأنا علي بن زيد، عن الحسن قال: حدثني رجل من بني سَلِيط قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في أزْفَلَة من الناس، فسمعته يقول: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله، التقوى هاهنا -[قال حماد: وقال بيده إلى صدره -ماتواد رجلان في الله فتفرَّق بينهما إلا بحدث يحدثه أحدهما] (3) والمحدث شَر، والمحدث شر، والمحدث شر" (4) .

{ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا (55) } .

يقول الله تعالى: { رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ } أيها الناس، من يستحق منكم الهداية ومن لا يستحق { إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ } بأن يوفقكم لطاعته والإنابة إليه { أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ } [يا محمد] (5) { عَلَيْهِمْ وَكِيلا } أي: إنما أرسلناك نذيرًا، فمن أطاعك دخل الجنة، ومن عصاك دخل النار.

وقوله: { وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } أي: بمراتبهم في الطاعة والمعصية { وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ } ، كَمَا قَالَ: { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } [ البقرة: 253 ].

وهذا لا ينافي ما [ثبت] (6) في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تفضلوا بين الأنبياء" (7) ؛ فإن المراد من ذلك هو التفضيل بمجرد التشهي والعصبية (8) ، لا بمقتضى الدليل، [فإنه إذا دل الدليل] (9) على شيء وجب اتباعه، ولا خلاف أن الرسل أفضل من بقية الأنبياء، وأن أولي العزم منهم أفضلهم، وهم الخمسة المذكورون نصا (10) في آيتين من القرآن في سورة الأحزاب: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } [ الأحزاب: 7 ]

__________

(1) في ف، أ: "النار".

(2) المسند (2/317) وصحيح البخاري برقم (7073) وصحيح مسلم برقم (2617).

(3) زيادة من ف، أ، والمسند.

(4) المسند (5/71).

(5) زيادة من ف، أ.

(6) زيادة من ف.

(7) صحيح البخاري برقم (3414) وصحيح مسلم برقم (2373) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.

(8) في ت: "والمعصية".

(9) زيادة من ف، وفي ت: "فإنه إذا كان".

(10) في ت: "قصا".

(5/87)

 

 

قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)

، وفي الشورى [في قوله] (1) : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } [ الشورى: 13 ]. ولا خلاف أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أفضلهم، ثم بعده إبراهيم، ثم موسى على المشهور، وقد بسطنا هذا بدلائله في غير هذا الموضع، والله الموفق.

وقوله: { وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا } تنبيه على فضله وشرفه.

قال البخاري: حدثنا إسحاق بن نصر، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمر، عن هَمَّام، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خُفف على داود القرآن، فكان يأمر بدابته لتُسْرج، فكان يقرأ قبل أن يَفْرغ" . يعني القرآن (2) .

{ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57) } .

يقول تعالى : { قُلِ } يا محمد لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله: { ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ } من الأصنام والأنداد، فارغبوا إليهم، فإنهم " لا يملكون كشف الضر عنكم" أي: بالكلية، { وَلا تَحْوِيلا } أي: أن يحولوه إلى غيركم.

والمعنى: أن الذي يقدر على ذلك هو الله وحده لا شريك له الذي له الخلق والأمر.

قال العَوْفي، عن ابن عباس في قوله: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلا } قال: كان أهل الشرك يقولون: نعبد الملائكة والمسيح وعزيرا، وهم الذين يدعون، يعني الملائكة والمسيح وعزيرًا.

وقوله: { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } . روى البخاري، من حديث سليمان بن مِهْران الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي مَعْمر، عن عبد الله في قوله: { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ } قال: ناس من الجن، كانوا يعبدون، فأسلموا. وفي رواية قال: كان ناس من الإنس، يعبدون ناسًا من الجن، فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم (3) .

وقال قتادة، عن معبد (4) بن عبد الله الزِّمَّاني (5) ، عن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن مسعود في قوله: { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ } قال: نزلت في نفر من العرب، كانوا يعبدون نفرًا من الجن، فأسلم الجِنِّيُّون، والإنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون بإسلامهم،

__________

(1) زيادة من ف.

(2) صحيح البخاري برقم (4713).

(3) صحيح البخاري برقم (4714 ، 4715).

(4) في ت: "سعيد" .

(5) في ت، ف: "الرماني".

(5/88)

 

 

وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)

فنزلت هذه الآية.

وفي رواية عن ابن مسعود: كانوا يعبدون صنفًا من الملائكة يقال لهم: الجن، فذكره.

وقال السدي، عن أبي صالح، عن ابن عباس في قوله: { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } قال: عيسى وأمه، وعُزير.

وقال مغيرة، عن إبراهيم: كان ابن عباس يقول في هذه الآية: هم عيسى، وعُزير، والشمس، والقمر.

وقال مجاهد: عيسى، والعُزير، والملائكة.

واختار ابن جرير قول ابن مسعود؛ لقوله: { يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ } ، وهذا لا يعبر به (1) عن الماضي، فلا يدخل فيه عيسى والعُزير. قال: والوسيلة هي القربة، كما قال قتادة؛ ولهذا قال: { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ }

وقوله: { وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ } : لا تتم العبادة إلا بالخوف والرجاء، فبالخوف ينكف (2) عن المناهي، وبالرجاء ينبعث على (3) الطاعات.

وقوله: { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } أي: ينبغي أن يحذر منه، ويخاف من وقوعه وحصوله، عياذًا بالله منه.

{ وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58) } .

هذا إخبار من الله عز وجل بأنه قد حتَمَ وقضى بما قد كتبه عنده في اللوح المحفوظ: أنه ما من قرية إلا سيهلكها، بأن يبيد أهلها جميعهم أو يعذبهم { عَذَابًا شَدِيدًا } إما بقتل أو ابتلاء بما يشاء، وإنما يكون ذلك بسبب ذنوبهم وخطاياهم، كما قال عن الأمم الماضين: { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } [ هود: 101 ] وقال تعالى: { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا } [ الطلاق: 7 ، 8 ].

__________

(1) في ت: "لا يغن به".

(2) في ف، أ: "ينكشف".

(3) في ف: "إلى".

================

 

 

 

 

 

 

 

الإسراء - تفسير القرطبي

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الآيتان: 50 - 51 {قل كونوا حجارة أو حديدا، أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا}

أي قل لهم يا محمد كونوا على جهة التعجيز حجارة أو حديدا في الشدة والقوة. قال الطبري: أي إن عجبتم من إنشاء الله لكم عظاما ولحما فكونوا أنتم حجارة أو حديدا إن قدرتم. وقال علي بن عيسى: معناه أنكم لو كنتم حجارة أو حديدا لم تفوتوا الله عز وجل إذا أرادكم؛ إلا أنه خرج مخرج الأمر، لأنه أبلغ في الإلزام. وقيل: معناه لو كنتم حجارة أو حديدا لأعادكم كما بدأكم، ولأماتكم ثم أحياكم. وقال مجاهد: المعنى كونوا ما شئتم فستعادون. النحاس: وهذا قول حسن؛ لأنهم لا يستطيعون أن يكونوا حجارة، وإنما المعنى أنهم قد أقروا بخالقهم وأنكروا البعث فقيل لهم استشعروا أن تكونوا ما شئتم، فلو كنتم حجارة أو حديدا لبعثتم كما خلقتم أول مرة. "أو خلقا مما يكبر في صدوركم" قال مجاهد: يعني السماوات والأرض والجبال لعظمها في النفوس. وهو معنى قول قتادة. يقول: كونوا ما شئتم، فإن الله يميتكم ثم يبعثكم. وقال ابن عباس وابن عمر وعبدالله بن عمرو بن العاص وابن جبير ومجاهد أيضا وعكرمة وأبو صالح والضحاك: يعني الموت؛ لأنه ليس شيء أكبر في نفس ابن آدم منه؛ قال أمية بن أبي الصلت:

وللموت خلق في النفوس فظيع

يقول: إنكم لو خلقتم من حجارة أو حديد أو كنتم الموت لأميتنكم ولأبعثنكم؛ لأن القدرة التي بها أنشأتكم بها نعيدكم. وهو معنى قوله: "فسيقولون من يعيدنا". وفي الحديث أنه (يؤتى بالموت يوم القيامة في صورة كبش أملح فيذبح بين الجنة والنار). وقيل: أراد به البعث؛ لأنه كان أكبر في صدورهم؛ قاله الكلبي. "فطركم" خلقكم وأنشأكم. "فسينغضون إليك رؤوسهم" أي يحركون رؤوسهم استهزاء؛ يقال: نغض رأسه ينغض وينغض نغضا ونغوضا؛ أي تحرك. وأنغض رأسه أي حركه، كالمتعجب من الشيء؛ ومنه قوله تعالى: "فسينغضون إليك رؤوسهم". قال الراجز:

أنغض نحوي رأسه وأقنعا

ويقال أيضا: نغض فلان رأسه أي حركه؛ يتعدى ولا يتعدى، حكاه الأخفش. ويقال: نغضت سنه؛ أي حركت وانقلعت. قال الراجز:

ونغضت من هرم أسنانها

وقال آخر:

لما رأتني انغضت لي الرأسا

وقال آخر:

لا ماء في المقراة إن لم تنهض بمسد فوق المحال النغض

المحال والمحالة: البكرة العظيمة التي يستقي بها الإبل. "ويقولون متى هو" أي البعث والإعادة وهذا الوقت. "قل عسى أن يكون قريبا" أي هو قريب؛ لأن عسى واحب؛ نظيره "وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا" [الأحزاب: 63] و"لعل الساعة قريب" [الشورى: 17]. وكل، ما هو آت فهو قريب.

الآية: 52 {يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا}

قوله تعالى: "يوم يدعوكم" الدعاء: النداء إلى المحشر بكلام تسمعه الخلائق، يدعوهم الله تعالى فيه بالخروج. وقيل: بالصيحة التي يسمعونها؛ فتكون داعية لهم إلى الاجتماع في أرض القيامة. قال صلى الله عليه وسلم: (إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم). "فتستجيبون بحمده" أي باستحقاقه الحمد على الإحياء. وقال أبو سهل: أي والحمد لله؛ كما قال:

فإني بحمد الله لا ثوب فاجر لبست، ولا من غدرة أتقنع

وقيل: حامدين لله تعالى بألسنتكم. قال سعيد بن جبير: تخرج الكفار من قبورهم وهم يقولون سبحانك وبحمدك؛ ولكن لا ينفعهم اعتراف ذلك اليوم. وقال ابن عباس: "بحمده" بأمره؛ أي تقرون بأنه خالقكم. وقال قتادة: بمعرفته وطاعته. وقيل: المعنى بقدرته. وقيل: بدعائه إياكم. قال علماؤنا: وهو الصحيح؛ فإن النفخ في الصور إنما هو سبب لخروج أهل القبور؛ بالحقيقة إنما هو خروج الخلق بدعوة الحق، قال الله تعالى: "يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده" فيقومون يقولون سبحانك اللهم وبحمدك. قال: فيوم القيامة يوم يبدأ بالحمد ويختم به؛ قال الله تعالى: "يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده" وقال في آخر "وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين" [الزمر: 75]. "وتظنون إن لبثتم إلا قليلا" يعني بين النفختين؛ وذلك أن العذاب يكف عن المعذبين بين النفختين، وذلك أربعون عاما فينامون؛ فذلك قوله تعالى: "من بعثنا من مرقدنا" [يس: 52] فيكون خاصا للكفار. وقال مجاهد: للكافرين هجعة قبل يوم القيامة يجدون فيها طعم النوم، فإذا صيح بأهل القبور قاموا مذعورين. وقال قتادة: المعنى أن الدنيا تحاقرت في أعينهم وقلت حين رأوا يوم القيامة. الحسن: "وتظنون إن لبثتم إلا قليلا" في الدنيا لطول لبثكم في الآخرة.

الآية: 53 {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا}

قوله تعالى: "وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن" تقدم إعرابه. والآية نزلت في عمر بن الخطاب. وذلك أن رجلا من العرب شتمه، وسبه عمر وهم بقتله، فكادت تثير فتنة فأنزل الله تعالى فيه: "وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن" ذكره الثعلبي والماوردي وابن عطية والواحدي. وقيل: نزلت لما قال المسلمون: ايذن لنا يا رسول الله في قتالهم فقد طال إيذاؤهم إيانا، فقال: (لم أومر بعد بالقتال) فأنزل الله تعالى: "وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن"؛ قاله الكلبي. وقيل: المعنى قل لعبادي الذين اعترفوا بأني خالقهم وهم يعبدون الأصنام، يقولوا التي هي أحسن من كلمة التوحيد والإقرار بالنبوة. وقيل: المعنى وقل لعبادي المؤمنين إذا جادلوا الكفار في التوحيد، أن يقولوا الكلمة التي هي أحسن. كما قال: "ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم" [الأنعام: 108]. وقال الحسن: هو أن يقول للكافر إذا تشطط: هداك الله! يرحمك الله! وهذا قبل أن أمروا بالجهاد. وقيل: المعنى قل لهم يأمروا بما أمر الله به وينهوا عما نهى الله عنه؛ وعلى هذا تكون الآية عامة في المؤمن والكافر، أي قل للجميع. والله أعلم. وقالت طائفة: أمر الله تعالى في هذه الآية المؤمنين فيما بينهم خاصة، بحسن الأدب وإلانة القول، وخفض الجناح وإطراح نزغات الشيطان؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم: (وكونوا عباد الله إخوانا). وهذا أحسن، وتكون الآية محكمة.

قوله تعالى: "إن الشيطان ينزغ بينهم" أي بالفساد وإلقاء العداوة والإغواء. وقد تقدم في آخر "الأعراف" [ويوسف]. يقال: نزغ بيننا أي أفسد؛ قاله اليزيدي. وقال غيره: النزغ الإغراء. "إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا" أي شديد العداوة. وقد تقدم في "البقرة". وفي الخبر (أن قوما جلسوا يذكرون الله، عز وجل فجاء الشيطان ليقطع مجلسهم فمنعته الملائكة فجاء إلى قوم جلسوا قريبا منهم لا يذكرون الله فحرش بينهم فتخاصموا وتواثبوا فقال هؤلاء الذاكرون قوموا بنا نصلح بين إخواننا فقاموا وقطعوا مجلسهم وفرح بذلك الشيطان). فهذا من بعض عداوته.

الآية: 54 {ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم وما أرسلناك عليهم وكيلا}

قوله تعالى: "ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم" هذا خطاب للمشركين، والمعنى: إن يشأ يوفقكم للإسلام فيرحمكم، أو يميتكم على الشرك فيعذبكم؛ قاله ابن جريج. و"اعلم" بمعنى عليم؛ نحو قولهم: الله أكبر، بمعنى كبير. وقيل: الخطاب للمؤمنين؛ أي إن يشأ يرحمكم بأن يحفظكم من كفار مكة، أو إن يشأ يعذبكم بتسليطهم عليكم؛ قاله الكلبي. "وما أرسلناك عليهم وكيلا" أي وما وكلناك في منعهم من الكفر ولا جعلنا إليك إيمانهم. وقيل: ما جعلناك كفيلا لهم تؤخذ بهم؛ قاله الكلبي. وقال الشاعر:

ذكرت أبا أروى فبت كأنني برد الأمور الماضيات وكيل

أي كفيل.

الآية: 55 {وربك أعلم بمن في السماوات والأرض ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا}

قوله تعالى: "وربك أعلم بمن في السماوات والأرض" أعاد بعد أن قال: "ربكم اعلم بكم" ليبين أنه خالقهم وأنه جعلهم مختلقين في أخلاقهم وصورهم وأحوالهم ومالهم "ألا يعلم من خلق" [الملك: 14]. وكذا النبيون فضل بعضهم على بعض عن علم منه بحالهم. وقد مضى القول في هذا في (البقرة). "وآتينا داود زبورا" الزبور: كتاب ليس فيه حلال ولا حرام، ولا فرائض ولا حدود؛ وإنما هو دعاء وتحميد وتمجيد. أي كما آتينا داود الزبور فلا تنكروا أن يؤتى محمد القرآن. وهو في محاجة اليهود.

الآية: 56 {قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا}

قوله تعالى: "قل ادعوا الذين زعمتم من دونه" لما ابتليت قريش بالقحط وشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل الله هذه الآية؛ أي ادعوا الذين تعبدون من دون الله وزعمتم أنهم آلهة. وقال الحسن: يعني الملائكة وعيسى وعزيرا. ابن مسعود: يعني الجن. "فلا يملكون كشف الضر عنكم" أي القحط سبع سنين، على قول مقاتل. "ولا تحويلا" من الفقر إلى الغنى ومن السقم إلى الصحة.

الآية: 57 {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا}

قوله تعالى: "أولئك الذين يدعون" "أولئك" مبتدأ "الذين" صفة "أولئك" وضمير الصلة محذوف؛ أي يدعونهم. يعني أولئك المدعوون. و"يبتغون" خبر، أو يكون حالا، و"الذين يدعون" خبر؛ أي يدعون إليه عبادا إلى عبادته. وقرأ ابن مسعود "تدعون" بالتاء على الخطاب. الباقون بالياء على الخبر. ولا خلاف في "يبتغون" أنه بالياء. وفي صحيح مسلم من كتاب التفسير عن عبدالله بن مسعود في قوله عز وجل: "أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة" قال: نفر من الجن أسلموا وكانوا يعبدون، فبقي الذين كانوا يعبدون على عبادتهم وقد أسلم النفر من الجن. في رواية قال: نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرا من الجن فأسلم الجنيون والإنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون؛ فنزلت "أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة". وعنه أيضا أنهم الملائكة كانت تعبدهم قبائل من العرب؛ ذكره الماوردي. وقال ابن عباس ومجاهد: عزير وعيسى. و"يبتغون" يطلبون من الله الزلفة والقربة، ويتضرعون إلى الله تعالى في طلب الجنة، وهي الوسيلة. أعلمهم الله تعالى أن المعبودين يبتغون القربة إلى ربهم. والهاء والميم في "ربهم" تعود على العابدين أو على المعبودين أو عليهم جميعا. وأما "يدعون" فعلى العابدين. "ويبتغون" على المعبودين. "أيهم أقرب" ابتداء وخبر. ويجوز أن يكون "أيهم أقرب" بدلا من الضمير في "يبتغون"، والمعنى يبتغي أيهم أقرب الوسيلة إلى الله. "ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا" أي مخوفا لا أمان لأحد منه؛ فينبغي أن يحذر منه ويخاف. وقال سهل بن عبدالله: الرجاء والخوف زمانان على الإنسان، فإذا استويا استقامت أحواله، وإن رجح أحدهما بطل الآخر.

الآية: 58 {وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا}

قوله تعالى: "وإن من قرية إلا نحن مهلكوها" أي مخربوها. "قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا" قال مقاتل: أما الصالحة فبالموت، وأما الطالحة فبالعذاب. وقال ابن مسعود: إذا ظهر الزنى والربا في قرية أذن الله في هلاكهم. فقيل: المعنى وإن من قرية ظالمة؛ يقوي ذلك قوله: "وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون" [القصص: 59]. أي فليتق المشركون، فإنه ما من قرية كافرة إلا سيحل بها العذاب. "كان ذلك في الكتاب" أي في اللوح. "مسطورا" أي مكتوبا. والسطر: الخط والكتابة وهو في الأصل مصدر. والسطر(بالتحريك)، مثله. قال جرير:

من شاء بايعته مالي وخُلعته ما تكمل التيم في ديوانهم سطرا

الخلعة (بضم الخاء): خيار المال. والسطر جمع أسطار؛ مثل سبب وأسباب، ثم يجمع على أساطير. وجمع السطر أسطر وسطور؛ مثل أفلس وفلوس. والكتاب هنا يراد به اللوح المحفوظ.

===================

 

 

 

 

 

 

 

الإسراء - تفسير الطبري

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)

القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) }

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد للمكذّبين بالبعث بعد الممات من قومك القائلين( أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ) كونوا إن عجبتم من إنشاء الله إياكم، وإعادته أجسامكم، خلقا جديدا بعد بِلاكم في التراب، ومصيركم رُفاتا، وأنكرتم ذلك من قُدرته حجارة أو حديدا، أو خلقا مما يكبر في صدوركم إن قدرتم على ذلك، فإني أحييكم وأبعثكم خلقا جديدا بعد مصيركم كذلك كما بدأتكم أوّل مرّة.

واختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله( أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ) فقال بعضهم: عُنِي به الموت، وأريد به: أو كونوا الموت، فإنكم إن كنتموه أمتُّكم ثم بعثتكم بعد ذلك يوم البعث.

(17/463)

 

 

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: ثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن عطية، عن ابن عمر( أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ) قال: الموت، قال: لو كنتم موتى لأحييتكم.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال : ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله( أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ) يعني الموت، يقول: إن كنتم الموت أحييتكم.

حدثني محمد بن عبيد المحاربي، قال: ثنا أبو مالك الجنبي، قال: ثنا ابن أبي خالد، عن أبي صالح في قوله( أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ) قال: الموت.

حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا سليمان أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله( أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ) قال: الموت.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال سعيد بن جبير، في قوله( أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ) كونوا الموت إن استطعتم، فإن الموت سيموت؛ قال: وليس شيء أكبر في نفس ابن آدم من الموت.

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: بلغني، عن سعيد بن جبير، قال: هو الموت.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن عبد الله بن عمر، أنه كان يقول: "يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح حتى يُجعل بين الجنة والنار، فينادي مناد يُسمع أهلَ الجنة وأهل النار، فيقول: هذا الموت قد جئنا به ونحن مهلكوه، فايقنوا يا أهل الجنة وأهل النار أن الموت قد هلك".

حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله( أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ) يعني الموت، يقول: لو كنتم الموت لأمتكم.

(17/464)

 

 

وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: إن الله يجيء بالموت يوم القيامة، وقد صار أهل الجنة وأهل النار إلى منازلهم، كأنه كبش أملح، فيقف بين الجنة والنار، فينادي أهل الجنة وأهل النار هذا الموت، ونحن ذابحوه، فأيقنوا بالخلود.

وقال آخرون: عنى بذلك السماء والأرض والجبال.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة( أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ) قال: السماء والأرض والجبال.

وقال آخرون: بل أريد بذلك: كونوا ما شئتم.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد( كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ) قال: ما شئتم فكونوا، فسيعيدكم الله كما كنتم.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ) قال: من خلق الله، فإن الله يميتكم ثم يبعثكم يوم القيامة خلقا جديدا.

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره قال( أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ )، وجائز أن يكون عنى به الموت، لأنه عظيم في صدور بني آدم؛ وجائز أن يكون أراد به السماء والأرض؛ وجائز أن يكون أراد به غير ذلك، ولا بيان في ذلك أبين مما بين جلّ ثناؤه، وهو كلّ ما كبر في صدور بني آدم من خلقه، لأنه لم يخصص منه شيئا دون شيء.

وأما قوله( فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا ) فإنه يقول: فسيقول لك يا محمد هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة(مَنْ يُعِيدُنا) خلقا جديدا، إن كنا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدورنا، فقل لهم: يعيدكم( الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) يقول:

(17/465)

 

 

يعيدكم كما كنتم قبل أن تصيروا حجارة أو حديدا إنسا أحياء، الذي خلقكم إنسا من غير شيء أوّل مرّة.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) أي خلقكم( فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ ) يقول: فإنك إذا قلت لهم ذلك، فسيهزُّون إليك رءوسهم برفع وخفض، وكذلك النَّغْض في كلام العرب، إنما هو حركة بارتفاع ثم انخفاض، أو انخفاض ثم ارتفاع، ولذلك سمي الظليم نَغْضا، لأنه إذا عجل المشي ارتفع وانخفض، وحرّك رأسه، كما قال الشاعر.

أسكّ نغْضًا لا يَنِي مُسْتَهْدِجا (1)

ويقال: نَغَضَت سنه: إذا تحرّكت وارتفعت من أصلها؛ ومنه قول الراجز:

ونَغَضَتْ مِنْ هَرِمٍ أسْنانُها (2)

وقول الآخر:

لمَّا رأتْنِي أنْغَضَتْ ليَ الرأسا (3)

__________

(1) هذا بيت من مشطور الرجز للعجاج ( ديوانه طبع ليبسج سنة 1903 ص 7 ) وهو السابع من أرجوزة مطولة . وفيه : " أصك " بالصاد ، في موضع " أسك " بالسين . والأسك : صفة من السكك ، وهو الصمم . وقيل : صغر الأذن ولزوقها بالرأس ، وقلة إشرافها . وقيل : قصرها ولصوقها بالحششاء ، يكون ذلك في الآدميين وغيرهم . قال : والنعام كلها سك وكذلك القطا . وأصل السكك الصمم . ا هـ . اللسان . وفي ( اللسان : صكك) : الأصك والمصك : القوي الجسيم الشديد الخلق من الناس والإبل والحمير . وفي ( نغض) : نغض الشيء نغضا : تحرك واضطرب ، وأنغض هو : حركة ا هـ . ولا يني : أي لا يفتر . وفيه أيضا ( هدج ) أورد البيت كرواية الديوان . قال : وهدج الظليم يهدج هدجانا واستهدج ، وهو مشى وسعى وعدو ، كل ذلك إذا كان في ارتعاش . قال العجاج يصف الظليم : " أصك .. إلخ " . ويروى مستهدجا ( بكسر الدال) أي عجلان . وقال ابن الأعرابي : أي مستعجلا ، أي أفزع فر . والبيت شاهد على أن " النغض " في كلام العرب حركة بارتفاع ثم انخفاض أو بالعكس .

(2) البيت من مشطور الرجز ، وهو من شواهد أبي عبيدة في ( مجاز القرآن 1 : 382 ) وعنه أخذه المؤلف . قال أبو عبيدة : " فسينغضون إليك رءوسهم " : مجازه : فسيرفعون ويحركون استهزاء منهم . ويقال : قد نغضت سن فلان : إذا تحركت وارتفعت من أصلها . قال : ونغضت من هرم أسنانها

(3) وهذا البيت أيضا شاهد بمعنى الذي قبله ، وهو من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (1 : 382) جاء بعد الأول على أن أنغض الرأس بمعنى حركه ورفعه استهزاء بمن هو أمامه .

(17/466)

 

 

يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52) وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)

وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله( فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ ) أي يحرّكون رءوسهم تكذيبا واستهزاء.

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة( فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ ) قال: يحرّكون رءوسهم.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله( فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ ) يقول: سيحركونَها إليك استهزاء.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراسانيّ، عن ابن عباس( فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ ) قال: يحرّكون رءوسهم يستهزءون ويقولون متى هو.

حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله( فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ ) يقول: يهزءون.

وقوله(وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ) يقول جلّ ثناؤه: ويقولون متى البعث، وفي أيّ حال ووقت يعيدنا خلقا جديدا، كما كنا أوّل مرّة، قال الله عزّ وجلّ لنبيه: قل لهم يا محمد إذ قالوا لك: متى هو، متى هذا البعث الذي تعدنا، عسى أن يكون قريبا؟ وإنما معناه: هو قريب، لأن عسى من الله واجب، ولذلك

قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "بُعِثْتُ أنا والسَّاعَةُ كَهاتَيْن، وأشار بالسَّبابة والوُسطَى"، لأن الله تعالى كان قد أعلمه أنه قريب مجيب.

القول في تأويل قوله تعالى : { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا (52) وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) }

(17/467)

 

 

يقول تعالى ذكره: قل عسى أن يكون بعثكم أيها المشركون قريبا، ذلك يوم يدعوكم ربكم بالخروج من قبوركم إلى موقف القيامة، فتستجيبون بحمده.

اختلف أهل التأويل في معنى قوله(فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِه) فقال بعضهم: فتستجيبون بأمره.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ، قال: ثني عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله( يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ ) يقول: بأمره.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج(فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) قال: بأمره.

وقال آخرون: معنى ذلك: فتستجيبون بمعرفته وطاعته.

(17/468)

 

 

رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54)

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله( يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ ) : أي بمعرفته وطاعته.

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : معناه: فتستجيبون لله من قبوركم بقدرته، ودعائه إياكم، ولله الحمد في كلّ حال، كما يقول القائل: فعلت ذلك الفعل بحمد الله، يعني: لله الحمد على كلّ ما فعلته، وكما قال الشاعر:

فإنّي بِحَمْد الله لا ثَوْبَ فاجِرٍ... لَبِسْتُ وَلا مِنْ غَدْرَةٍ أتَقَنَّعُ (1)

بمعنى: فإني والحمد لله لا ثوب فاجر لبست.

وقوله( وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا ) يقول: وتحسبون عند موافاتكم القيامة من هول ما تعاينون فيها ما لبثتم في الأرض إلا قليلا كما قال جلّ ثناؤه( قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ ).

وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا ) : أي في الدنيا، تحاقرت الدنيا في أنفسهم وقلَّت، حين عاينوا يوم القيامة.

وقوله( وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم:

وقل يا محمد لعبادي يقل بعضهم لبعض التي هي أحسن من المحاورة والمخاطبة.

كما حدثنا خلاد بن أسلم، قال: ثنا النضر ، قال: أخبرنا المبارك، عن الحسن في هذه الآية( وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) قال: التي هي أحسن، لا يقول له مثل قوله يقول له: يرحمك الله يغفر الله لك.

وقوله( إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزغُ بَيْنَهُمْ ) يقول: إن الشيطان يسوء محاورة بعضهم بعضا ينزغ بينهم، يقول: يفسد بينهم، يهيج بينهم الشر( إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ) يقول: إن الشيطان كان لآدم وذرّيته عدوّا، قد أبان لهم عداوته بما أظهر لآدم من الحسد، وغروره إياه حتى أخرجه من الجنة.

القول في تأويل قوله تعالى : { رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلا (54) }

يقول تعالى ذكره لهؤلاء المشركين من قريش الذين قالوا( أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ) -(رَبُّكُمْ) أيها القوم( أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ ) فيتوب عليكم برحمته، حتى تنيبوا عما أنتم عليه من الكفر به وباليوم الآخر( إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ ) بأن يخذلكم عن الإيمان، فتموتوا على شرككم، فيعذّبكم يوم القيامة بكفركم به.

وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن عبد الملك بن جريج قوله( رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ ) قال:

__________

(1) البيت شاهد على أن قوله "بحمد الله" في معنى "والحمد لله". واستشهد به القرطبي في (10: 276) ولم ينسبه إلى قائل معروف.

(17/469)

 

 

وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)

فتؤمنوا(أو إنْ يَشَأْ يُعَذّبْكُمْ) فتموتوا على الشرك كما أنتم.

وقوله( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلا ) يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وما أرسلناك يا محمد على من أرسلناك إليه لتدعوه إلى طاعتنا ربا ولا رقيبا، إنما أرسلناك إليهم لتبلغهم رسالاتنا، وبأيدينا صرفهم وتدبيرهم، فإن شئنا رحمناهم، وإن شئنا عذّبناهم.

القول في تأويل قوله تعالى : { وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا (55) }

يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: وربك يا محمد أعلم بمن في السماوات والأرض وما يصلحهم فإنه هو خالقهم ورازقهم ومدبرهم، وهو أعلم بمن هو أهل للتوبة والرحمة، ومن هو أهل للعذاب، أهدى للحقّ من سبق له مني الرحمة والسعادة، وأُضلّ من سبق له مني الشقاء والخذلان، يقول: فلا يكبرنّ ذلك عليك، فإن ذلك من فعلي بهم لتفضيلي بعض النبيين على بعض، بإرسال بعضهم إلى بعض الخلق، وبعضهم إلى الجميع، ورفعي بعضهم على بعض درجات.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله( وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ ) اتخذ الله إبراهيم خليلا وكلَّم موسى تكليما، وجعل الله عيسى كمثل آدم خلقه من تراب، ثم قال له كن فيكون، وهو عبد الله ورسوله، من كلمة الله وروحه، وآتى سليمان مُلكا لا ينبغي لأحد من بعده، وآتى داود زبورا، كنا نحدّث دعاء عُلِّمه داود، تحميد وتمجيد، ليس فيه حلال ولا حرام، ولا فرائض ولا حدود، وغفر لمحمد ما تقدّم من ذنبه وما تأخَّر.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج( وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ ) قال: كلم الله موسى، وأرسل محمدا إلى الناس كافَّة.

(17/470)

 

 

قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)

القول في تأويل قوله تعالى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلا (56) }

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لمشركي قومك الذين يعبدون من دون الله من خلقه، ادعوا أيها القوم الذين زعمتم أنهم أرباب وآلهة من دونه عند ضرّ ينزل بكم، فانظروا هل يقدرون على دفع ذلك عنكم، أو تحويله عنكم إلى غيركم، فتدعوهم آلهة، فإنهم لا يقدرون على ذلك، ولا يملكونه، وإنما يملكه ويقدر عليه خالقكم وخالقهم. وقيل: إن الذين أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم هذا القول، كانوا يعبدون الملائكة وعزيرا والمسيح، وبعضهم كانوا يعبدون نفرا من الجنّ.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله( قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلا ) قال: كان أهل الشرك يقولون: نعبد الملائكة وعُزَيرا، وهم الذين يدعون، يعني الملائكة والمسيح وعُزيرا..

القول في تأويل قوله تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57) }

يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين يدعوهم هؤلاء المشركون أربابا( يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ) يقول:

يبتغي المدعوّون أربابا إلى ربهم القُربة والزُّلفة، لأنهم أهل إيمان به، والمشركون بالله يعبدونهم من دون الله(أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) أيهم بصالح عمله واجتهاده في عبادته أقرب عنده زلفة(وَيَرْجُونَ) بأفعالهم تلك(رَحْمَتَه)ُ ويَخافُونَ أمره(عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ) يا محمد(كانَ مَحْذورًا) متقي.

(17/471)

 

 

وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل، غير أنهم اختلفوا في المدعوّين، فقال بعضهم: هم نفر من الجنّ.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الله، في قوله:( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ) قال: كان ناس من الإنس يعبدون قوما من الجنّ، فأسلم الجنّ وبقي الإنس على كفرهم، فأنزل الله تعالى( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ) يعني الجنّ.

حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله العجلي، قال: ثنا شعبة، عن سليمان، عن إبراهيم، عن أبي معمر، قال: قال عبد الله في هذه الآية( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ) قال: قَبيل من الجنّ كانوا يعبدون فأسلموا.

حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد ، قال: ثني أبي، قال: ثني الحسين، عن قتادة، عن معبد بن عبد الله الزِّمَّاني، عن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن مسعود، في قوله( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ) قال: نزلت في نفر من العرب كانو يعبدون نفرا من الجنّ، فأسلم الجنيون، والإنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون بإسلامهم، فأنزلت( الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ).

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن حديث عمه عبد الله بن مسعود، قال: نزلت هذه الآية في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرا من الجنّ، فأسلم الجنيون والنفر من العرب لا يشعرون بذلك.

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة( الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ) قوم عبدوا الجنّ، فأسلم أولئك الجنّ، فقال الله تعالى ذكره( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ).

حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي معمر، عن عبد الله( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ

(17/472)

 

 

إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ) قال: كان نفر من الإنس يعبدون نفرا من الجنّ، فأسلم النفر من الجنّ، واستمسك الإنس بعبادتهم، فقال( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ).

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن الأعمش، عن إبراهيم عن أبي معمر، قال: قال عبد الله: كان ناس يعبدون نفرا من الجنّ، فأسلم أولئك الجنيون، وثبتت الإنس على عبادتهم، فقال الله تبارك وتعالى( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ).

حدثنا الحسن، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ) قال كان أناس من أهل الجاهلية يعبدون نفرا من الجنّ؛ فلما بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم أسلموا جميعا، فكانوا يبتغون أيهم أقرب.

وقال آخرون: بل هم الملائكة.

حدثني الحسين بن عليّ الصدائي، قال: ثنا يحيى بن السكن، قال: أخبرنا أبو العوّام، قال: أخبرنا قتادة، عن عبد الله بن معبد الزِّمَّاني، عن عبد الله بن مسعود، قال: كان قبائل من العرب يعبدون صنفا من الملائكة يقال لهم الجنّ، ويقولون: هم بنات الله، فأنزل الله عزّ وجلّ(أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ) معشر العرب(يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ).

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ) قال: الذين يدعون الملائكة تبتغي إلى ربها الوسيلة( أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ ) حتى بلغ( إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ) قال: وهؤلاء الذين عبدوا الملائكة من المشركين.

وقال آخرون: بل عزير وعيسى، وأمه.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني يحيى بن جعفر، قال: أخبرنا يحيى بن السكن، قال: أخبرنا شعبة، عن إسماعيل السديّ، عن أبي صالح، عن ابن عباس، في قوله( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ) قال: عيسى وأمه وعُزير.

(17/473)

 

 

حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله العجلي، قال: ثنا شعبة، عن إسماعيل السدي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: عيسى ابن مريم وأمه وعُزير في هذه الآية( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ).

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحرث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد( يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ) قال: عيسى ابن مريم وعُزير والملائكة.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: كان ابن عباس يقول في قوله( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ) قال: هو عُزير والمسيح والشمس والقمر.

وأولى الأقوال بتأويل هذه الآية قول عبد الله بن مسعود الذي رويناه. عن أبي معمر عنه، وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عن الذين يدعوهم المشركون آلهة أنهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ ومعلوم أن عُزيرا لم يكن موجودا على عهد نبينا عليه الصلاة والسلام، فيبتغي إلى ربه الوسيلة وأن عيسى قد كان رُفع، وإنما يبتغي إلى ربه الوسيلة من كان موجودا حيا يعمل بطاعة الله، ويتقرّب إليه بالصالح من الأعمال. فأما من كان لا سبيل له إلى العمل، فبم يبتغي إلى ربه الوسيلة. فإذ كان لا معنى لهذا القول، فلا قول في ذلك إلا قول من قال ما اخترنا فيه من التأويل، أو قول من قال: هم الملائكة، وهما قولان يحتملهما ظاهر التنزيل، وأما الوسيلة، فقد بينا أنها القربة والزلفة.

وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: الوسيلة: القربة.

(17/474)

 

 

وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: الوسيلة، قال: القربة والزلفى.

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58) }

يقول تعالى ذكره: وما من قرية من القرى إلا نحن مهلكو أهلها بالفناء، فمبيدوهم استئصالا قبل يوم القيامة، أو معذّبوها، إما ببلاء من قتل بالسيف، أو غير ذلك من صنوف العذاب عذابا شديدا.

كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحرث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله عزّ وجلّ( وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) فمبيدوها(أوْ مُعَذِّبُوهَا) بالقتل والبلاء، قال: كل قرية في الأرض سيصيبها بعض هذا.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، بنحوه، إلا أنه قال: سيصيبها هذا أو بعضه.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله( وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا ) قضاء من الله كما تسمعون ليس منه بدّ، إما أن يهلكها بموت وإما أن يهلكها بعذاب مستأصل إذا تركوا أمره، وكذّبوا رسله.

حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد( وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا ) قال: مبيدوها.

حدثنا القاسم، قال: ثني الحسين، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك بن حرب، عن عبد الرحمن بن عبد الله، قال: إذا ظهر الزنا والربا في أهل قرية أذن الله في هلاكها.

(17/475)

 

 

وقوله( كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ) يعني في الكتاب الذي كتب فيه كلّ ما هو كائن، وذلك اللوح المحفوظ.

كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله( كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ) قال: في أمّ الكتاب، وقرأ( لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ ) ويعني بقوله(مَسْطُورًا) مكتوبا مبينا، ومنه قول العجاج:

واعْلَمْ بأنَّ ذَا الجَلالِ قَدْ قَدَرْ... في الكُتُبِ الأولى التي كان سَطَرْ

أمْرَكَ هذَا فاحْتَفِظْ فِيهِ النَّهَرْ (1)

__________

(1) هذه أبيات ثلاثة من مشطور الرجز للعجاج بن رؤبة من أرجوزة مطولة عدة أبياتها 229 بيتا يمدح بها عمر بن عبيد الله ابن معمر، (انظر ديوان العجاج صبع ليبسج سنة 1903 ص 15-21). وفيه "الصحف" في موضع: "الكتب". و (فاعلم) في موضع واعلم. وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة (1: 383) وقال: مسطورا أي مبينا مكتوبا وفي روايته النتر بفتح النون والتاء. وقال: النتر: الخديعة. وفي (اللسان: نتر): والنتر بالتحريك: الفساد والضياع، قال العجاج: "واعلم... إلخ" الأبيات




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مدونة قانون الحق مكررة مشمولة

قال الشَّيْخ أَبُو عَمْرو بْن الصَّلَاح رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى فِي الظَّوَاهِر الْوَارِدَة بِدُخُولِ الْجَنَّة بِمُجَرَّدِ الشَّهَادَة ...