تفسير سورة الإسراء الايات من 97. الي 104.
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)
=========
الإسراء - تفسير ابن كثير
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99)
{ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)} .
يقول تعالى مخبرًا عن تصرفه في خلقه، ونفوذ حكمه، وأنه لا معقب له، بأنه من يهده فلا مضلّ له ( وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ ) أي: يهدونهم، كما قال: { مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا } [ الكهف: 17 ].
وقوله: ( وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ) قال الإمام أحمد:
حدثنا ابن نمير، حدثنا إسماعيل عن نُفَيْع قال (1) : سمعت أنس بن مالك يقول: قيل: يا رسول الله، كيف يحشر (2) الناس على وجوههم؟ قال: "الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم". وأخرجاه في الصحيحين (3) .
وقال الإمام أحمد أيضًا: [حدثنا يزيد] (4) ، حدثنا الوليد بن جُمَيْع القرشي، عن أبيه، حدثنا أبو الطفيل عامر بن واثلة، عن حذيفة بن أسيد قال: قام أبو ذر فقال: يا بني غفار، قولوا ولا تحلفوا، فإن الصادق المصدوق حدثني: أن الناس يحشرون على ثلاثة أفواج: فوج راكبين طاعمين كاسين، وفوج (5) يمشون ويسعون، وفوج تسحبهم الملائكة على وجوههم وتحشرهم إلى النار. فقال قائل منهم: هذان قد عرفناهما، فما بال الذين يمشون ويسعون (6) ؟ قال: يلقي الله، عز وجل، الآفة على (7) الظهر حتى لا يبقى ظهر، حتى إن الرجل لتكون له الحديقة المعجبة، فيعطيها بالشارف ذات القتب، فلا يقدر عليها (8) .
__________
(1) في ت: "نفيع كذا قال".
(2) في ف: "تحشر".
(3) المسند (3/167) وصحيح البخاري برقم (4760) وصحيح مسلم برقم (2806).
(4) زيادة من ت، ف، أ، والمسند.
(5) في ف: "وقوم".
(6) في ت: "ويسقون".
(7) في ت: "الأئمة هل"، وفي ف: "الأئمة على".
(8) المسند (5/164).
(5/122)
وقوله: ( عُمْيًا ) أي: لا يبصرون ( وَبُكْمًا ) يعني: لا ينطقون ( وَصُمًّا ) : لا يسمعون. وهذا يكون في حال دون حال جزاء لهم كما كانوا في الدنيا بكمًا وعميًا وصمًا عن الحق فجوزوا في محشرهم بذلك أحوج ما يحتاجون إليه ( مَأْوَاهُمْ ) أي: منقلبهم (1) ومصيرهم ( جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ ) قال ابن عباس: سكنت (2) . وقال مجاهد: طفئت ( زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ) أي: لهبًا ووهجًا وجمرًا، كما قال: { فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلا عَذَابًا } [ النبأ: 30 ].
{ ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلا لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلا كُفُورًا (99)} .
يقول تعالى: هذا الذي جازيناهم به، من البعث على العمى والبكم والصمم، جزاؤهم الذي يستحقونه؛ لأنهم كذبوا ( بِآيَاتِنَا ) أي بأدلتنا (3) وحججنا، واستبعدوا وقوع البعث ( وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا ) بالية نخرة ( أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ) أي: بعد ما صرنا إلى ما صرنا إليه من البلى والهلاك، والتفرق والذهاب في الأرض نعاد مرة ثانية؟ فاحتج (4) تعالى عليهم، ونبههم على قدرته على ذلك، بأنه خلق السماوات والأرض، فقدرته على إعادتهم أسهل من ذلك كما قال: { لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ } [ غافر: 57 ] وقال { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ الأحقاف: 33 ] وقال{ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ يس: 81 ، 83 ].
وقال هاهنا: ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ) أي: يوم القيامة يعيد أبدانهم وينشئهم نشأة أخرى، ويعيدهم كما بدأهم.
وقوله: ( وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلا لا رَيْبَ فِيهِ ) أي: جعل لإعادتهم وإقامتهم من قبورهم أجلا مضروبًا ومدة مقدرة لا بد من انقضائها، كما قال تعالى: { وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأَجَلٍ مَعْدُودٍ } [ هود: 104 ].
وقوله: ( فَأَبَى الظَّالِمُونَ ) أي: بعد قيام الحجة عليهم ( إِلا كُفُورًا ) إلا تماديًا في باطلهم وضلالهم.
__________
(1) في أ: "مقبلهم".
(2) في ت: "ستكتب".
(3) في ت: "بآياتنا".
(4) في ف: "واحتج".
(5/123)
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101)
{ قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا (100)}
يقول تعالى لرسوله صلوات الله عليه وسلامه (1) قل لهم يا محمد: لو أنكم -أيها الناس -تملكون التصرف في خزائن الله، لأمسكتم خشية الإنفاق.
قال ابن عباس، وقتادة: أي الفقر أي: خشية أن تذهبوها (2) ، مع أنها لا تفرغ ولا تنفد أبدًا؛ لأن هذا من طباعكم وسجاياكم؛ ولهذا قال: ( وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا ) قال ابن عباس، وقتادة (3) : أي بخيلا منوعًا. وقال الله تعالى: { أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا } [ النساء: 53 ] أي: لو أن لهم نصيبًا في ملك الله لما أعطوا أحدًا شيئًا، ولا مقدار نقير، والله تعالى يصف الإنسان من حيث هو، إلا من وفقه الله وهداه؛ فإن البخل والجزع والهلع صفة له، كما قال تعالى: { إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلا الْمُصَلِّينَ } [ المعارج: 19 -22 ]. ولهذا نظائر كثيرة في القرآن العزيز، ويدل هذا على كرمه (4) وجوده وإحسانه، وقد جاء في الصحيحين: "يد الله ملأى لا يَغيضُها نفقة، سَحَّاءُ الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يَغض ما في يمينه" (5) .
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)} .
يخبر تعالى أنه بعث موسى بتسع آيات بينات، وهي الدلائل القاطعة على صحة نبوته وصدقه فيما أخبر به عمن أرسله إلى فرعون، وهي: العصا، واليد، والسنين (6) ، والبحر، والطوفان (7) ، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، آيات مفصلات. قاله ابن عباس.
وقال محمد بن كعب: هي اليد، والعصا، والخمس في الأعراف، والطَّمْسَة والحجر.
وقال: ابن عباس أيضًا، ومجاهد، وعكرمة والشعبي، وقتادة: هي يده، وعصاه، والسنين، ونقص الثمرات، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم.
وهذا القول ظاهر جلي حسن قوي. وجعل الحسن البصري "السنين ونقص الثمرات" واحدة، وعنده أن التاسعة هي: تلقف العصا ما يأفكون. { فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ } [ الأعراف: 133 ]
__________
(1) في ف: "صلى الله عليه وسلم" .
(2) في أ: "تنبوها".
(3) في ف، أ: "ومجاهد".
(4) في ف: "كرم الله".
(5) صحيح البخاري برقم (7419) وصحيح مسلم برقم (993)
(6) في ت، ف، أ: ولسانه".
(7) في ف، أ: "والطوفان والبحر".
(5/124)
قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103)
أي: ومع هذه الآيات ومشاهدتهم لها، كفروا بها وجحدوا بها، واستيقنتها أنفسهم ظلمًا وعلوًا، وما نجعت (1) فيهم، فكذلك لو أجبنا هؤلاء الذين سألوا منك (2) سألوا، وقالوا: { لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا } [ الإسراء: 90 ] إلى آخرها، لما استجابوا ولا آمنوا إلا أن يشاء الله، كما قال فرعون لموسى -وقد شاهد منه ما شاهد من هذه الآيات-: ( إِنِّي لأظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا ) قيل: بمعنى ساحر. والله تعالى أعلم.
فهذه الآيات التسع التي ذكرها هؤلاء الأئمة هي المرادة هاهنا، وهي المعنية في قوله تعالى:{ وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ * إِلا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ } [ النمل: 10 -12 ]. فذكر هاتين الآيتين: العصا واليد، وبين الآيات الباقيات في "سورة الأعراف" وفصلها.
وقد أوتي موسى، عليه السلام، آيات أخرَ كثيرة، منها ضربُه الحجر بالعصا، وخروج الأنهار منه، ومنها تظليلهم بالغمام، وإنزال المنّ والسلوى، وغير ذلك مما أوتوه بنو إسرائيل بعد مفارقتهم بلاد مصر، ولكن ذكر هاهنا التسع الآيات التي شاهدها فرعون وقومه من أهل مصر، وكانت حجة عليهم فخالفوها وعاندوها كفرًا وجحودًا. فأما الحديث الذي رواه الإمام [أحمد] (3) :
حدثنا يزيد، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مُرَّة قال: سمعت عبد الله بن سلمة (4) يحدث، عن صفوان بن عَسّال المرادي، رضي الله عنه، قال: قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي [صلى الله عليه وسلم] (5) حتى نسأله عن هذه الآية: ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) فقال: لا تقل له: نبي فإنه لو سمعك لصارت له أربع أعين. فسألاه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله، ولا تقذفوا محصنة -أو قال: لا تفروا من الزحف -شعبة الشاك -وأنتم يا يهود، عليكم (6) خاصة أن لا تعدوا في السبت". فقبلا يديه ورجليه، وقالا نشهد أنك نبي. [قال: "فما يمنعكما أن تتبعاني؟" قالا لأن داود، عليه السلام، دعا ألا يزال من ذريته نبي] (7) ، وإنا نخشى إن أسلمنا أن تقتلنا يهود.
فهذا الحديث رواه هكذا الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن جرير في تفسيره من طرق عن شعبة بن الحجاج، به (8) وقال الترمذي: حسن صحيح.
وهو حديث مشكل، وعبد الله بن سلمة في حفظه شيء، وقد تكلموا فيه، ولعله اشتبه عليه التسع الآيات بالعشر الكلمات، فإنها، وصايا في التوراة لا تعلق لها بقيام الحجة على فرعون، والله أعلم.
__________
(1) في ت: "وما نجوت".
(2) في ت: "مثل".
(3) زيادة من أ.
(4) في ف: "مسلم".
(5) زيادة من ت.
(6) في ت: "أيكم".
(7) زيادة من ف، أ، والمسند.
(8) المسند (4/239) وسنن الترمذي برقم (3144) وسنن النسائي (7/111) وسنن ابن ماجة برقم (3705) وتفسير الطبري (15/115).
(5/125)
ولهذا قال موسى لفرعون: ( لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزلَ هَؤُلاءِ إِلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ بَصَائِرَ ) أي: حججًا وأدلة على صدق ما جئتك به ( وَإِنِّي لأظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ) أي: هالكًا. قاله مجاهد وقتادة. وقال ابن عباس ملعونًا. وقال: أيضًا هو والضحاك: ( مَثْبُورًا ) أي: مغلوبًا. والهالك -كما قال مجاهد -يشمل (1) هذا كله، قال عبد الله بن الزبعري:
إذْ أجَارِي الشَّيطانَ في سَنن الغـ ... يِّ وَمَنْ مَالَ مَيْلهُ مَثْبُور (2)
[بمعنى هالك] (3) .
وقرأ بعضهم برفع التاء من قوله: "علمت" وروي ذلك عن علي بن أبي طالب. ولكن قراءة الجمهور بفتح التاء على الخطاب (4) لفرعون، كما قال تعالى:{ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } [ النمل: 13 ، 14 ].
فهذا كله مما يدل على (5) أن المراد بالتسع الآيات إنما هي ما تقدّم ذكره (6) من العصا، واليد، والسنين، ونقص من الثمرات، والطوفان، والجراد، والقُمَّل، والضفادع، والدم. التي فيها حجج وبراهين على فرعون وقومه، وخوارق ودلائل على صدق موسى ووجود الفاعل المختار الذي أرسله. وليس المراد منها كما ورد في هذا الحديث، فإن هذه الوصايا ليس فيها حجج على فرعون وقومه، وأي مناسبة بين هذا وبين إقامة البراهين على فرعون؟ وما جاء هذا الوهم إلا من قبل "عبد الله بن سلمة (7) فإن له بعض ما يُنْكر. والله أعلم . ولعل ذينك اليهوديين إنما سألا عن العشر الكلمات، فاشتبه على الراوي بالتسع الآيات، فحصل وَهْم في ذلك. والله أعلم.
وقوله: ( فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الأرْضِ ) أي: يخليهم منها ويزيلهم (8) عنها ( فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا * وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأرْضَ ) وفي هذا بشارة لمحمد صلى الله عليه وسلم بفتح مكة مع أن السورة نزلت قبل الهجرة، وكذلك وقع؛ فإن أهل مكة هموا بإخراج الرسول منها، كما قال تعالى: { وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا * سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلا } [ الإسراء: 76 ، 77 ] ؛ ولهذا أورث الله رسوله (9) مكة، فدخلها عُنْوَة على أشهر القولين، وقهر أهلها، ثم أطلقهم حلمًا وكرمًا، كما أورث الله القوم الذين كانوا يستضعفون من بني إسرائيل مشارق الأرض ومغاربها، وأورثهم بلاد فرعون وأموالهم وزروعهم
__________
(1) في ت: "يشتمل".
(2) البيت في تفسير الطبري (15/117).
(3) زيادة من ت.
(4) في ف: "على الخطاب فتح التاء".
(5) في أ: "عليه".
(6) في ت، ف: "ذكرها".
(7) في ف: "مسلم".
(8) في ت: "ويرسلهم".
(9) في ت: "ورسوله".
(5/126)
وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)
وثمارهم وكنوزهم، كما قال: { كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } [ الشعراء: 59 ] وقال هاهنا ( وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا ) أي: جميعكم أنتم وعدوكم.
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك: ( لَفِيفًا ) أي: جميعًا.
=================
الإسراء - تفسير القرطبي
الآية: 97 {ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا}
قوله تعالى: "ومن يهد الله فهو المهتدي" أي لو هداهم الله لاهتدوا. "ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه" أي لا يهديهم أحد. "ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم" فيه وجهان: أحدهما: أن ذلك عبارة عن الإسراع بهم إلى جهنم؛ من قول العرب: قدم القوم على وجوههم إذا أسرعوا. الثاني: أنهم يسحبون يوم القيامة على وجوههم إلى جهنم كما يفعل في الدنيا بمن يبالغ في هوانه وتعذيبه. وهذا هو الصحيح؛ لحديث أنس أن رجلا قال: يا رسول الله، الذين يحشرون على وجوههم، أيحشر الكافر على وجهه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أليس الذي أمشاه على الرجلين قادرا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة): قال قتادة حين بلغه: بلى وعزة ربنا. أخرجه البخاري ومسلم. وحسبك. "عميا وبكما وصما" قال ابن عباس والحسن: أي عمي عما يسرهم، بكم عن التكلم بحجة، صم عما ينفعهم؛ وعلى هذا القول حواسهم باقية على ما كانت عليه. وقيل: إنهم يحشرون على الصفة التي وصفهم الله بها؛ ليكون ذلك زيادة في عذابهم، ثم يخلق ذلك لهم في النار، فأبصروا؛ لقوله تعالي: "ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها" [الكهف: 53]، وتكلموا، لقوله تعالى: "دعوا هنالك ثبورا" [الفرقان: 13]، وسمعوا؛ لقوله تعالى: "سمعوا لها تغيظا وزفيرا" [الفرقان: 12]. وقال مقاتل بن سليمان: إذا قيل لهم "اخسؤوا فيها ولا تكلمون" [المؤمنون: 108] صاروا عميا لا يبصرون صما لا يسمعون بكما لا يفقهون. وقيل: عموا حين دخلوا النار لشدة سوادها، وانقطع كلامهم حين قيل لهم: اخسؤوا فيها ولا تكلمون. وذهب الزفير والشهيق بسمعهم فلم يسمعوا شيئا. "مأواهم جهنم" أي مستقرهم ومقامهم. "كلما خبت" أي سكنت؛ عن الضحاك وغيره. مجاهد طفئت. يقال: خبت النار تخبو خبوا أي طفئت، وأخبيتها أنا. "زدناهم سعيرا" أي نار تتلهب. وسكون التهابها من غير نقصان في آلامهم ولا تخفيف عنهم من عذابهم. وقيل: إذا أرادت أن تخبو. كقوله: "وإذا قرأت القرآن" [الإسراء: 45].
الآيتان: 98 - 99 {ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا، أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفورا}
قوله تعالى: "ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا" أي ذلك العذاب جزاء كفرهم. "وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا" أي ترابا. "أئنا لمبعوثون خلقا جديدا" فأنكروا البعث فأجابهم الله تعالى فقال: "أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه" قيل: في الكلام تقديم وتأخير، أي أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل لهم أجلا لا ريب فيه قادر على أن يخلق مثلهم. والأجل: مدة قيامهم في الدنيا ثم موتهم، وذلك ما لا شك فيه إذ هو مشاهد. وقيل: هو جواب قولهم: "أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا" [الإسراء: 92]. وقيل: وهو يوم القيامة. "فأبى الظالمون إلا كفورا" أي أبى المشركون إلا جحودا بذلك الأجل وبآيات الله. وقيل: ذلك الأجل هو وقت البعث، ولا ينبغي أن يشك فيه.
الآية: 100 {قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا}
قوله تعالى: "قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي" أي خزائن الأرزاق. وقيل: خزائن النعم، وهذا أعم. "إذا لأمسكتم خشية الإنفاق" من البخل، وهو جواب قولهم: "لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا" [الإسراء: 90] حتى نتوسع في المعيشة. أي لو توسعتم لبخلتم أيضا. وقيل: المعنى لو ملك أحد المخلوقين خزائن الله لما جاد بها كجود الله تعالى؛ لأمرين: أحدهما: أنه لا بد أن يمسك منها لنفقته وما يعود بمنفعته. الثاني: أنه يخاف الفقر ويخشى العدم. والله تعالى يتعالى في جوده عن هاتين الحالتين. والإنفاق في هذه الآية بمعنى الفقر؛ قاله ابن عباس وقتادة. وحكى أهل اللغة أنفق وأصرم وأعدم وأقتر إذا قل ماله. "وكان الإنسان قتورا" أي بخيلا مضيقا. يقال: قتر على عياله يقتر ويقتر قترا وقتورا إذا ضيق عليهم في النفقة، وكذلك التقتير والإقتار، ثلاث لغات. واختلف في هذه الآية على قولين: أحدهما: أنها نزلت في المشركين خاصة؛ قاله الحسن. والثاني: أنها عامة، وهو قول الجمهور؛ وذكره الماوردي.
الآية: 101 {ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا}
قوله تعالى: "ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات" اختلف في هذه الآيات؛ فقيل: هي بمعنى آيات الكتاب؛ كما روى الترمذي والنسائي عن صفوان بن عسال المرادي أن يهوديين قال أحدهما لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي نسأله؛ فقال: لا تقل له نبي فإنه إن سمعنا كان له أربعة أعين؛ فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فسألاه عن قول الله تعالى: "ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تسرقوا ولا تسحروا ولا تمشوا ببريء إلى سلطان فيقتله ولا تأكلوا الربا ولا تقذفوا محصنة ولا تفروا من الزحف - شك شعبة - وعليكم يا معشر اليهود خاصة ألا تعدوا في السبت) فقبلا يديه ورجليه وقالا: نشهد أنك نبي. قال: (فما يمنعكما أن تسلما) قالا: إن داود دعا الله ألا يزال في ذريته نبي وإنا نخاف إن أسلمنا أن تقتلنا اليهود. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وقد مضى في "البقرة". وقيل: الآيات بمعنى المعجزات والدلالات. قال ابن عباس والضحاك: الآيات التسع العصا واليد واللسان والبحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم؛ آيات مفصلات. وقال الحسن والشعبي: الخمس المذكورة في "الأعراف"؛ يعنيان الطوفان وما عطف عليه، واليد والعصا والسنين والنقص من الثمرات. وروي نحوه عن الحسن؛ إلا أنه يجعل السنين والنقص من الثمرات واحدة، وجعل التاسعة تلقف العصا ما يأفكون. وعن مالك كذلك؛ إلا أنه جعل مكان السنين والنقص من الثمرات؛ البحر والجبل. وقال محمد بن كعب: هي الخمس التي في "الأعراف" والبحر والعصا والحجر والطمس على أموالهم. وقد تقدم شرح هذه الآيات مستوفى والحمد لله. "فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم" أي سلهم يا محمد إذ جاءهم موسى بهذه الآيات، حسبما تقدم بيانه في "يونس". وهذا سؤال استفهام ليعرف اليهود صحة ما يقول محمد صلى الله عليه وسلم. "فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا" أي ساحرا بغرائب أفعالك؛ قاله الفراء وأبو عبيدة. فوضع المفعول موضع الفاعل؛ كما تقول: هذا مشؤوم وميمون، أي شائم ويامن. وقيل مخدوعا. وقيل مغلوبا؛ قاله مقاتل. وقيل غير هذا؛ وقد تقدم. وعن ابن عباس وأبي نهيك أنهما قرآ "فسأل بني إسرائيل" على الخبر؛ أي سأل موسى فرعون أن يخلي بني إسرائيل ويطلق سبيلهم ويرسلهم معه.
الآية: 102 {قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا}
قوله تعالى: "قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء" يعني الآيات التسع. و"أنزل" بمعنى أوجد. "إلا رب السماوات والأرض بصائر" أي دلالات يستدل بها على قدرته ووحدانيته. وقراءة العامة "علمت" بفتح التاء، خطابا لفرعون. وقرأ الكسائي بضم التاء، وهي قراءة علي رضي الله عنه؛ وقال: والله ما علم عدو الله ولكن موسى هو الذي يعلم، فبلغت ابن عباس فقال: إنها "لقد علمتَ"، واحتج بقوله تعالى: "وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا" [النمل: 14]. ونسب فرعون إلى العناد. وقال أبو عبيد: والمأخوذ به عندنا فتح التاء، وهو الأصح للمعنى الذي احتج به ابن عباس؛ ولأن موسى لا يحتج بقوله: علمت أنا، وهو الرسول الداعي، ولو كان مع هذا كله تصح به القراءة عن علي لكانت حجة، ولكن لا تثبت عنه، إنما هي عن كلثوم المرادي وهو مجهول لا يعرف، ولا نعلم أحدا قرأ بها غير الكسائي. وقيل: إنما أضاف موسى إلى فرعون العلم بهذه المعجزات؛ لأن فرعون قد علم مقدار ما يتهيأ للسحرة فعله، وأن مثل ما فعل موسى لا يتهيأ لساحر، وأنه لا يقدر على فعله إلا من يفعله، الأجسام ويملك السماوات والأرض. وقال مجاهد: دخل موسى على فرعون في يوم شات وعليه قطيفة له، فألقى موسى عصاه فإذا هي ثعبان، فرأى فرعون جانبي البيت بين فُقميها، ففزع وأحدث في قطيفته. "وإني لأظنك يا فرعون مثبورا" الظن هنا بمعنى التحقيق. والثبور: الهلال والخسران أيضا. قال الكميت:
ورأت قضاعة في الأيا من رأي مثبور وثابر
أي مخسور وخاسر، يعني في انتسابها إلى اليمن. وقيل: ملعونا. رواه المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وقال أبان بن تغلب. وأنشد:
يا قومنا لا تروموا حربنا سقها إن السفاه وإن البغي مثبور
أي ملعون. وقال ميمون بن مهران عن ابن عباس: "مثبورا" ناقص العقل. ونظر المأمون رجلا فقال له: يا مثبور؛ فسأل عنه قال. قال الرشيد قال المنصور لرجل: مثبور؛ فسألته فقال: حدثني ميمون بن مهران... فذكره. وقال قتادة هالكا. وعنه أيضا والحسن ومجاهد. مهلكا. والثبور: الهلاك؛ يقال: ثبر الله العدو ثبورا أهلكه. وقيل: ممنوعا من الخير حكى أهل اللغة: ما ثبرك عن كذا أي ما منعك منه. وثبره الله ثبرا. قال ابن الزبعرى:
إذ أجاري الشيطان في سنن الغـ ـي ومن مال ميله مثبور
الضحاك: "مثبورا" مسحورا. رد عليه مثل ما قال له باختلاف اللفظ. وقال ابن زيد: "مثبورا" مخبولا لا عقل له.
الآيتان: 103 - 104 {فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا، وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا}
قوله تعالى: "فأراد أن يستفزهم من الأرض" أي أراد فرعون أن يخرج موسى وبني إسرائيل من أرض مصر بالقتل أو الإبعاد؛ فأهلكه الله عز وجل. "وقلنا من بعده لبني إسرائيل" أي من بعد إغراقه "اسكنوا الأرض" أي أرض الشام ومصر. "فإذا جاء وعد الآخرة" أي القيامة. "جئنا بكم لفيفا" أي من قبوركم مختلطين من كل موضع، قد اختلط المؤمن بالكافر لا يتعارفون ولا ينحاز أحد منكم إلى قبيلته وحيه. وقال ابن عباس وقتادة: جئنا بكم جميعا من جهات شتى. والمعنى واحد. قال الجوهري: واللفيف ما اجتمع من الناس من قبائل شتى؛ يقال: جاء القوم بلفهم ولفيفهم، أي وأخلاطهم. وقوله تعالى "جئنا بكم لفيفا" أي مجتمعين مختلطين. وطعام لفيف إذا كان مخلوطا من جنسين فصاعدا. وفلان لفيف فلان أي صديقه. قال الأصمعي: اللفيف جمع وليس له واحد، وهو مثل الجميع. والمعنى: أنهم يخرجون وقت الحشر من القبور كالجراد المنتشر، مختلطين لا يتعارفون. وقال الكلبي: "فإذا جاء وعد الآخرة" يعني مجيء عيسى عليه السلام من السماء.
==============
الإسراء - تفسير الطبري
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) }
يقول تعالى ذكره: ومن يهد الله يا محمد للإيمان به، ولتصديقك وتصديق ما جئت به من عند ربك، فوفَّقه لذلك، فهو المهتد الرشيد المصيب الحقّ، لا من هداه غيره، فإن الهداية بيده.( وَمَنْ يُضْلِلِ ) يقول: ومن يضلله الله عن الحقّ، فيخذله عن إصابته، ولم يوفقه للإيمان بالله وتصديق رسوله، فلن تجد لهم يا محمد أولياء ينصرونهم من دون الله، إذا أراد الله عقوبتهم والاستنقاذ منهم.
( وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ) يقول: ونجمعهم بموقف القيامة من بعد تفرقهم في القبور عند قيام الساعة( عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا ) وهو جمع أبكم ، ويعني بالبكم: الخُرْس.
كما حدثنا الحسن بن يحيى، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله( وَبُكْما ) قال: الخرس( وَصُمًّا ) وهو جمع أصم.
فإن قال قائل: وكيف وصف الله هؤلاء بأنهم يحشرون عميا وبكما وسما، وقد قال( وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا ) فأخبر أنهم يرون، وقال( إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا وَإِذَا أُلْقُوا
(17/559)
مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا ) فأخبر أنهم يسمعون وينطقون؟ قيل: جائز أن يكون ما وصفهم الله به من العَمى والبكم والصمم يكون صفتهم في حال حشرهم إلى موقف القيامة، ثم يجعل لهم أسماع وأبصار ومنطق في أحوال أُخَر غير حال الحشر، ويجوز أن يكون ذلك، كما روي عن ابن عباس في الخبر الذي حدثنيه عليّ بن داود، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله( وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا ) ثم قال( وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا ) وقال( سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ) وقال( دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا ) أما قوله( عُمْيا ) فلا يرون شيئا يسرّهم. وقوله( بُكْما ) لا ينطقون بحجة ، وقوله( صُمًّا ) لا يسمعون شيئا يسرّهم ، وقوله( مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ) يقول جلّ ثناؤه: ومصيرهم إلى جهنم، وفيها مساكنهم، وهم وَقُودها.
كما حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال : ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله( مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ) يعني إنهم وقودها.
وقوله( كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ) يعني بقوله خبت : لانت وسكنت، كما قال عديّ بن زيد العبادي في وصف مزنة:
وَسْطُهُ كالْيَرَاعِ أوْ سُرُجِ المِجْدَلِ... حِينًا يَخْبُو وحِينًا يُنِيرُ (1)
يعني بقوله: يخبو السرج: أنها تلين وتضعف أحيانا، وتقوى وتنير أخرى، ومنه قول القطامي:
__________
(1) البيت لعدي بن زيد العبادي (شعراء النصرانية ص 455) وهو مما كتب به إلى النعمان، وهو من غرر قصائده. واليراع: فراشة إذا طارت في الليل لم يشك من يعرفها أنها شرارة طائرة عن نار. قال الجاحظ: نار اليراعة قيل هي نار حباحب، وهي شبيهة بنار البرق. قال: واليراعة طائر صغير إن طار بالليل كان كأنه شهاب قذف، أو مصباح يطير. والمجدل، بكسر الميم: القصر المشرف، لوثاقة بنائه وجمعه مجادل. وخبت النار والحرب والحدة تخبو خبوا (على فعل) وخبوا (على فعول): سكنت وطفئت، وخمد لهبها. وقوله تعالى: (كلما خبت زدناهم سعيرا): قيل معناه: سكن لهبها، وقيل معناه: كلما تمنوا أن تخبو، وأرادوا أن تخبو. (انظر اللسان: يرع، وجدل، وخبا).
(17/560)
فَيَخْبو ساعَةً ويَهُبُّ ساعا (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل على اختلاف منهم في العبارة عن تأويله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ بن داود، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله( كُلَّمَا خَبَتْ ) قال: سكنت.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس،( كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ) يقول: كلما أحرقتهم تسعر بهم حطبا، فإذا أحرقتهم فلم تبق منهم شيئا صارت جمرا تتوهَّج، فذلك خُبُوُّها، فإذا بدّلوا خلقا جديدا عاودتهم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن ، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن مجاهد حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد مثله.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس( كُلَّمَا خَبَتْ ) قال: خبوّها أنها تَسَعَّر بهم حطبا، فإذا أحرقتهم، فلم يبق منهم شيء صارت جمرا تتوهج، فإذا بُدِّلوا خلقا جديدا عاودتهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال : ثنا سعيد، عن قتادة قوله( كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ) يقول: كلما احترقت جلودهم بُدّلوا جلودا غيرها، ليذوقوا العذاب.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله( كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ) قال: كلما لان منها شيء.
__________
(1) هذا عجز بيت للقطامي. وصدره * وكنا كالحريق أصاب غابا *
(انظر ديوانه طبع ليدن سنة 1902 ص 39) قال: يخبو: يسكن. ويهب: يهيج. وساع: جمع ساعة. وفي (اللسان: سرع) الساعة: جزء من الليل والنهار. والجمع: ساعات وساع. قال القطام * وكنا كالحريق لذي كفاح *
... البيت. قال ابن بري: المشهور في صدر هذا البي * كنا كالحريق أصاب غابا *
وفي مجاز القرآن لأبي عبيدة (1: 391) "كلما خبت زدناهم سعيرا" أي تأججا. وخبت سكنت. وأنشد عجز البيت، ثم قال: ولم يذكرها هنا جلودهم، فيكون الخبو لها.
(17/561)
ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99)
حُدثت عن مروان، عن جويبر، عن الضحاك( كُلَّمَا خَبَتْ ) قال : سكنت. وقوله( زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ) يقول: زدنا هؤلاء الكفار سعيرا ، وذلك إسعار النار عليهم والتهابها فيهم وتأججها بعد خبوّها، في أجسامهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) }
يقول تعالى ذكره: هذا الذي وصفنا من فعلنا يوم القيامة بهؤلاء المشركين، ما ذكرت أنا نفعل بهم من حشرهم على وجوههم عميا وبكما وصما، وإصلائنا إياهم النار على ما بيَّنا من حالتهم فيها ثوابهم بكفرهم في الدنيا بآياتنا، يعني بأدلته وحججه، وهم رسله الذين دعوهم إلى عبادته، وإفرادهم إياه بالألوهة دون الأوثان والأصنام، وبقولهم إذا أُمروا بالإيمان بالميعاد، وبثواب الله وعقابه في الآخرة( أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا ) بالية( وَرُفَاتًا ) قد صرنا ترابا( أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ) يقولون: نُبعث بعد ذلك خلقا جديدا . كما ابتدأناه أوّل مرّة في الدنيا استنكارا منهم لذلك، واستعظاما وتعجبا من أن يكون ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلا لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلا كُفُورًا (99) }
يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم: أولم ينظر هؤلاء القائلون من المشركين( أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ) بعيون قلوبهم، فيعلمون أن الله الذي خلق السماوات والأرض، فابتدعها من غير شيء، وأقامها بقُدرته، قادر بتلك القُدرة على أن يخلق مثلهم أشكالهم، وأمثالهم من الخلق بعد فنائهم، وقبل ذلك، وأن من قدر على ذلك فلا يمتنع عليه إعادتهم خلقا جديدا، بعد أن يصيروا عظاما ورُفاتا، وقوله( وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلا لا رَيْبَ فِيهِ ) يقول تعالى ذكره: وجعل الله لهؤلاء المشركين أجلا لهلاكهم، ووقتا
(17/562)
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)
لعذابهم لا ريب فيه. يقول: لا شكّ فيه أنه آتيهم ذلك الأجل( فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلا كُفُورًا ) يقول: فأبى الكافرون إلا جحودا بحقيقة وعيده الذي أوعدهم وتكذيبا به.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنْفَاقِ وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا (100) }
يقول تعالى ذكره لنبيّه: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: لو أنتم أيها الناس تملكون خزائن أملاك ربي من الأموال، وعنى بالرحمة في هذا الموضع: المال( إِذًا لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنْفَاقِ ) يقول: إذن لَبَخِلْتُمْ بِهِ فَلم تجودوا بها على غيركم، خشية من الإنفاق والإقتار.
كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس( إِذًا لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنْفَاقِ ) قال: الفقر.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( خَشْيَةَ الإنْفَاقِ ) أي خشية الفاقة.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله.
وقوله( وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا ) يقول: وكان الإنسان بخيلا ممسكا.
كما حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله( وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا ) يقول: بخيلا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس، في قوله( وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا ) قال : بخيلا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد ، عن قتادة( وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا ) قال: بخيلا ممسكا.
وفي القتور في كلام العرب لغات أربع، يقال: قتر فلان يقْتُر ويقْتِر، وقتر يقتِّر، وأقتر يُقْتر، كما قال أبو دواد:
(17/563)
وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101)
لا أعُدُّ الإقتار عُدْما وَلَكِنْ... فَقْدُ مَنْ قَد رُزِيتُهُ الإعْدَامُ (1)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) }
يقول تعالى ذكره: ولقد آتينا موسى بن عمران تسع آيات بيِّنات تُبَين لمن رآها أنها حجج لموسى شاهدة على صدقه وحقيقة نبوّته.
وقد اختلف أهل التأويل فيهنّ وما هنّ.
فقال بعضهم في ذلك ما حدثني به محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس، قوله( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) قال: التسع الآيات البينات: يده، وعصاه، ولسانه، والبحر، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم آيات مفصلات.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) إلقاء العصا مرّتين عند فرعون، ونزع يده، والعقدة التي كانت بلسانه، وخمس آيات في الأعراف: الطوفان ، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم.
وقال آخرون: نحوا من هذا القول، غير أنهم جعلوا آيتين منهن: إحداهما الطمسة، والأخرى الحجر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن
__________
(1) البيت لأبي دؤاد (بواو غير مهموزة بعد الدال، كما في التاج) وهو جارية بن الحجاج، أو هو حنظلة بن الشرتي الإيادي. والبيت في (الشعر والشعراء لابن قتيبة طبعة ليدن سنة 1902 ص 122). وفي اللسان: قتر يقتر ويقتر قترا وقتورا، فهو قاتر وقتور؛ وأقتر. أي افتقر. وقتر على عياله وأقتر وقتر: أي ضيق عليهم في النفقة. ويقال: إنه لقتور: أي مقتر. فتلخص أن اللغات في هذا أربع: قتر يقتر ويقتر (من بابي نصر وضرب) وقتر (بالتشديد) وأقتر (بالهمز) كما قال المؤلف.
(17/564)
إسحاق، عن بريدة بن سفيان، عن محمد بن كعب القرظي ، قال: سألني عمر بن عبد العزيز، عن قوله( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) فقلت له: هي الطوفان والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والبحر، وعصاه، والطمسة، والحجر، فقال: وما الطمسة؟ فقلت: دعا موسى وأمَّن هارون، فقال: قد أجيبت دعوتكما، وقال عمر: كيف يكون الفقه إلا هكذا. فدعا عمر بن عبد العزيز بخريطة كانت لعبد العزيز بن مروان أصيبت بمصر، فإذا فيها الجوزة والبيضة والعدسة ما تنكر، مسخت حجارة كانت من أموال فرعون أصيبت بمصر.
وقال آخرون: نحوا من ذلك إلا أنهم جعلوا اثنتين منهنّ: إحداهما السنين، والأخرى النقص من الثمرات.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال : ثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة ومطر الورّاق، في قوله( تِسْعَ آياتٍ ) قالا الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والعصا، واليد، والسنون، ونقص من الثمرات.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، عن مغيرة، عن الشعبيّ، في قوله( تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) قال: الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والسنين، ونقص من الثمرات، وعصاه، ويده.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: سُئل عطاء بن أبي رباح عن قوله( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) ما هي؟ قال: الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، وعصى موسى، ويده.
قال: ابن جريج : وقال مجاهد مثل قول عطاء، وزاد( أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ ) قال: هما التاسعتان، ويقولون: التاسعتان: السنين ، وذهاب عجمة لسان موسى.
(17/565)
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، عن ابن عباس، في قوله( تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) وهي متتابعات، وهي في سورة الأعراف( وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ ) قال: السنين في أهل البوادي، ونقص من الثمرات لأهل القرى، فهاتان آيتان، والطوافان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، هذه خمس، ويد موسى إذ أخرجها بيضاء للناظرين من غير سوء: البرص، وعصاه إذ ألقاها، فإذا هي ثعبان مبين.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد ، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن ابن عباس، قوله( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) قال: يد موسى، وعصاه، والطوفان، والجراد ، والقمل، والضفادع، والدم والسنين، ونقص من الثمرات.
وقال آخرون نحوا من ذلك إلا أنهم جعلوا السنين، والنقص من الثمرات آية واحدة، وجعلوا التاسعة: تلقف العصا ما يأفكون.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق ، قال: أخبرنا معمر، قال: قال الحسن، في قوله( تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) ،( وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ ) قال: هذه آية واحدة، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، ويد موسى، وعصاه إذ ألقاها فإذا هي ثعبان مبين، وإذ ألقاها فإذا هي تلقف ما يأفكون.
وقال آخرون في ذلك ما حدثني محمد بن المثنى، قال: ثني محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن مرّة، قال: سمعت عبد الله بن سلمة يحدّث عن صفوان بن عسال، قال: قال يهوديّ لصاحبه: اذهب بنا إلى النبيّ حتى نسأله عن هذه الآية( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) قال: لا تقل له نبيّ، فإنه إن سمعك صارت له أربعة أعين، قال: فسألا فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: لا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا ، وَلا تَسْرِقُوا ، وَلا تَزْنُوا ، وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ، وَلا تَسْحَرُوا ، وَلا تَأْكُلُوا الرِّبَا ، وَلا تَمْشُوا بِبَرِيءٍ إِلَى ذِي سُلْطَانٍ لِيَقْتُلَهُ ، وَلا تَقْذِفُوا مُحْصَنَةً ،أو قال: لا تَفرُّوا مِنَ
(17/566)
الزَّحْفِ" . شعبة الشاكّ وأنْتُمْ يا يَهُودُ عليكم خَاصّ لا تَعْدُوا فِي السَّبْت ، فقبَّلا يده ورجله، وقالا نشهد أنك نبيّ، قال: فما يمنعكما أن تسلما؟ قالا إن داود دعا أن لا يزال من ذرّيته نبيّ، وإنا نخشى أن تقتلنا يهود".
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا سهل بن يوسف وأبو داود وعبد الرحمن بن مهدي، عن سعيد، عن عمرو، قال: سمعت عبد الله بن سلمة يحدث عن صفوان بن عسال المرادي، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحوه، إلا أن ابن مهديّ قال: "لا تمشوا إلى ذي سُلْطان" وقال ابن مهدي: أراه قال: "ببريء".
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عبد الله بن إدريس وأبو أسامة بنحوه، عن شعبة بن الحجاج، عن عمرو بن مرّة، عن عبد الله بن سلمة ، عن صفوان بن عسال، قال: قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبيّ، فقال صاحبه: لا تقل نبيّ، إنه لو سمعك كان له أربع أعين، قال: فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يسألانه عن تسع آيات بينات، فقال: "هنَّ : ولا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا ، وَلا تَسْرِقُوا ، وَلا تَزْنُوا ، وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ، وَلا تَمْشُوا بِبَرِيءٍ إِلَى ذِي سُلْطَانٍ لِيَقْتُلَهُ ، وَلا تَسْحَرُوا ، وَلا تَأْكُلُوا الرِّبَا ، وَلا تَقْذِفُوا مُحْصَنَةً ، وَلا تَوَلَّوا يَوْمَ الزَّحْفِ ، وَعَلَيْكُمْ خَاصَّةً يَهُودُ: أنْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ ، قال: فقبَّلوا يديه ورجليه، وقالوا: نشهد أنك نبيّ، قال: فَمَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تَتَّبِعُونِي؟ قالوا: إن داود دعا أن لا يزال من ذرّيته نبيّ، وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا يهود".
حدثنا مجاهد بن موسى، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا شعبة بن الحجاج، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن صفوان بن عسَّال، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحوه.
وأما قوله( فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ ) فإن عامّة قرّاء الإسلام على قراءته على وجه الأمر بمعنى: فاسأل يا محمد بني إسرائيل إذ جاءهم موسى.
ورُوي عن الحسن البصري في تأويله ما حدثني به الحارث، قال: ثنا
(17/567)
قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102)
القاسم، قال: ثنا حجاج، عن هارون، عن إسماعيل، عن الحسن( فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) قال: سؤالك إياهم: نظرك في القرآن.
ورُوي عن ابن عباس أنه كان يقرأ ذلك: "فسأل" بمعنى: فسأل موسى فرعون بني إسرائيل أن يرسلهم معه على وجه الخبر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا حجاج، عن هارون، عن حنظلة السَّدوسيّ، عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس، أنه قرأ: "فَسأَلَ بَنِي إسْرَائِيلَ إذْ جاءهم" يعني أن موسى سأل فرعونَ بني إسرائيل أن يرسلهم معه.
والقراءة التي لا أستجيز أن يُقرأ بغيرها، هي القراءة التي عليها قرّاء الأمصار، لإجماع الحجة من القرّاء على تصويبها، ورغبتهم عما خالفها.
وقوله( فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا ) يقول: فقال لموسى فرعون: إني لأظنك يا موسى تتعاطى علم السحر، فهذه العجائب التي تفعلها من سحرك، وقد يجوز أن يكون مرادا به إني لأظنك يا موسى ساحرا، فوضع مفعول موضع فاعل، كما قيل: إنك مشئوم علينا وميمون، وإنما هو شائم ويامن ، وقد تأوّل بعضهم حجابا مستورا، بمعنى: حجابا ساترا، والعرب قد تخرج فاعلا بلفظ مفعول كثيرا.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزلَ هَؤُلاءِ إِلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) }
اختلفت القرّاء في قراءة قوله( لَقَدْ عَلِمْتَ ) فقرأ عامة قرّاء الأمصار ذلك( لَقَدْ عَلِمْتَ ) بفتح التاء، على وجه الخطاب من موسى لفرعون ، ورُوي عن عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه في ذلك، أنه قرأ "لَقَدْ عَلِمْتُ" بضمّ التاء، على وجه الخبر من موسى عن نفسه ، ومن قرأ ذلك على هذه القراءة، فإنه ينبغي
(17/568)
أن يكون على مذهبه تأويل قوله( إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا ) إني لأظنك قد سُحِرت، فترى أنك تتكلم بصواب وليس بصواب ، وهذا وجه من التأويل ، غير أن القراءة التي عليها قرّاء الأمصار خلافها، وغير جائز عندنا خلاف الحجة فيما جاءت به من القراءة مجمعة عليه.
وبعد، فإن الله تعالى ذكره قد أخبر عن فرعون وقومه أنهم جحدوا ما جاءهم به موسى من الآيات التسع ، مع علمهم بأنها من عند الله بقوله( وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ) فأخبر جلّ ثناؤه أنهم قالوا: هي سحر، مع علمهم واستيقان أنفسهم بأنها من عند الله، فكذلك قوله( لَقَدْ عَلِمْتَ ) إنما هو خبر من موسى لفرعون بأنه عالم بأنها آيات من عند الله ، وقد ذُكر عن ابن عباس أنه احتجّ في ذلك بمثل الذي ذكرنا من الحجة.
قال: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال : ثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أنه كان يقرأ( لَقَدْ عَلِمْتَ ) يا فرعون بالنصب( مَا أَنزلَ هَؤُلاءِ إِلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) ، ثم تلا( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ). فإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام: قال موسى لفرعون: لقد علمت يا فرعون ما أنزل هؤلاء الآيات التسع البينات التي أريتكها حجة لي على حقيقة ما أدعوك إليه، وشاهدة لي على صدق وصحة قولي، إني لله رسول، ما بعثني إليك إلا ربّ السماوات والأرض، لأن ذلك لا يقدر عليه، ولا على أمثاله أحد سواه ، بصائر: يعني بالبصائر: الآيات، أنهنّ بصائر لمن استبصر بهنّ ، وهدى لمن اهتدى بهنّ ، يعرف بهنّ من رآهنّ أن من جاء بهنّ فمحقّ ، وأنهنّ من عند الله لا من عند غيره، إذ كنّ معجزات لا يقدر عليهنّ ، ولا على شيء منهنّ سوى ربّ السموات والأرض ، وهو جمع بصيرة.
وقوله( وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ) يقول: إني لأظنك يا فرعون ملعونا ممنوعا من الخير ، والعرب تقول: ما ثبرك عن هذا الأمر: أي ما منعك
(17/569)
منه، وما صدّك عنه؟ وثبره الله فهو يُثْبره ويَثبُره لغتان، ورجل مثبور: محبوس عن الخيرات هالك، ومنه قول الشاعر:
إذْ أُجارِي الشَّيطانَ في سَننِ الغَيّ... وَمنْ مالَ مَيْلَهُ مَثْبُورُ (1)
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عبد الله بن عبد الله الكلابي، قال: ثنا أبو خالد الأحمر، قال: ثنا عمر بن عبد الله، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قوله( وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ) قال ملعونا.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا مروان بن معاوية، قال: أخبرنا عمر بن عبد الله الثقفي ، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله.
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنا معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله( وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ) يقول: ملعونا.
وقال آخرون: بل معناه: إني لأظنك يا فرعون مغلوبا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله( وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ) يعني: مغلوبا.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله( وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ) يقول: مغلوبا.
__________
(1) البيت لعبد الله بن الزبعرى من مقطوعة أربعة أبيات، قالها حين جاء إلى النبي مسلما معتذرا عما فرط منه من هجائه، بتحريض قريش على ذلك (انظر سيرة ابن هشام طبعة مصطفى الحلبي وأولاده، بتحقيق مصطفى السقا والإبياري وشلبي، الطبعة الثانية القسم الثاني ص 419) والبيتان الأولان منها: يا رَسُولَ المَلِيكِ إنَّ لساني ... رَاتِقٌ ما فَتَقْتُ إذْ أنا بُورُ
إذْ أُبارِي الشَّيْطَانَ فِي سَننِ الْغَيِّ ... وَمَنْ مَالَ مَيْلَهُ مَثْبُورُ
والراتق: الذي يسد الخرق. تقول: ارتقت الشيء: إذا أصلحته وسددته. وفتقت: يعني في الدين، فكل إثم فتق وتمزيق، وكل توبة رتق. ومن أجل ذلك قيل التوبة نصوح، من نصحت الثوب: إذا خطته والنصاح: الخيط. وبور: هالك. يقال: رجل بور وبائر، وقوم بور. وأباري: أجاري وأعارض، وهي رواية في البيت. والسنن بالتحريك: وسط الطريق. ومثبور هالك. وهنا محل الشاهد عند المؤلف. قال: ثبره الله يثبره ويثبره: (كنصر وضرب) لغتان. ورجل مثبور: محبوس عن الخير هالك.
(17/570)
وقال بعضهم: معنى ذلك: إني لأظنك يا فرعون هالكا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: مثبورا: أي هالكا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ) : أي هالكا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا الحسن، قال : أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، بنحوه.
وقال آخرون: معناه: إني لأظنك مبدِّلا مغيرا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عبد الله بن موسى، عن عيسى بن موسى، عن عطية( وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ) قال: مبدّلا.
وقال آخرون: معناه: مخبولا لا عقل له.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله( وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ) قال: الإنسان إذا لم يكن له عقل فما ينفعه؟ يعني: إذا لم يكن له عقل ينتفع به في دينه ومعاشه دعته العرب مثبورا ، قال: أظنك ليس لك عقل يا فرعون، قال : بينا هو يخافه ولا ينطق لساني أن أقول (1) هذا لفرعون، فلما شرح الله صدره، اجترأ أن يقول له فوق ما أمره الله.
وقد بيَّنا الذي هو أولى بالصواب في ذلك قبل.
__________
(1) كذا في الأصل، والسياق مضطرب.
(17/571)
فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)
القول في تأويل قوله تعالى : { فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104) }
يقول تعالى ذكره: فأراد فرعون أن يستفز موسى وبني إسرائيل من الأرض،( فَأَغْرَقْنَاهُ ) في البحر،( وَمَنْ مَعَهُ ) من جنده( جَمِيعًا ) ، ونجَّينا موسى وبني إسرائيل، وقلنا لهم( مِنْ بَعْدِ ) هلاك فرعون( اسْكُنُوا الأَرْضَ ) أرض الشام( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا ) يقول: فإذا جاءت الساعة، وهي وعد الآخرة، جئنا بكم لفيفا: يقول: حشرناكم من قبوركم إلى موقف القيامة لفيفا: أي مختلطين قد التفّ بعضكم على بعض، لا تتعارفون، ولا ينحاز أحد منكم إلى قبيلته وحيِّه، من قولك: لففت الجيوش: إذا ضربت بعضها ببعض، فاختلط الجميع، وكذلك كلّ شيء خُلط بشيء فقد لُفّ به.
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم نحو الذي قلنا فيه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن ابن أبي رَزين( جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا ) قال: من كلّ قوم.
وقال آخرون: بل معناه: جئنا بكم جميعا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله( جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا ) قال: جميعا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد( جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا ) جميعا.
(17/572)
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا ) : أي جميعا، أولكم وآخركم.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله( جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا ) قال: جميعا.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله( جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا ) يعني جميعا.
ووحَّد
اللفيف، وهو خبر عن الجميع، لأنه بمعنى المصدر كقول القائل: لفقته لفًّا ولفيفا. ==
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق