تفسير سورة الاسراء الايات من 67.الي75.
وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70) يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72) وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)
===========
الإسراء - تفسير ابن كثير
وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67)
{ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا (67) }
أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)
.
يخبر تعالى أنه إذا مس الناس ضرّ، دعوه منيبين إليه، مخلصين له الدين؛ ولهذا قال: { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ } أي: ذهب عن قلوبكم كل ما تعبدون غير الله، كما اتفق لعكرمة بن أبي جهل لما ذهب فارًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فتح مكة، فذهب هاربًا، فركب في البحر ليدخل الحبشة، فجاءتهم (1) ريح عاصف، فقال القوم بعضهم لبعض: إنه لا يغني عنكم إلا أن تدعو الله وحده. فقال عكرمة في نفسه: والله لئن كان لا ينفع في البحر غيره، فإنه لا ينفع في البر غيره، اللهم لك عليّ عهد، لئن أخرجتني منه لأذهبن فَأضعن (2) يدي في يديه (3) ، فلأجدنه رءوفًا رحيمًا. فخرجوا من البحر، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وحسن (4) إسلامه، رضي الله عنه وأرضاه.
وقوله: { فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ } أي: نسيتم ما عرفتم من توحيده في البحر، وأعرضتم عن دعائه وحده لا شريك له.
{ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا } أي: سَجِيَّتُه هذا، ينسى النعم ويجحدها، إلا من عصم الله.
{ أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلا (68) }
يقول تعالى: أفحسبتم أن نخرجكم (5) إلى البر أمنتم من انتقامه وعذابه!
{ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا } ، وهو: المطر الذي فيه حجارة. قاله مجاهد، وغير واحد، كما قال تعالى: { إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ (6) حَاصِبًا إِلا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ } [ القمر: 34 ] وقد قال في الآية الأخرى: { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ } (7) [ هود: 82 ] وقال: { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } [ الملك: 16 ، 17 ].
وقوله: { ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلا } أي: ناصرًا يرد ذلك عنكم، وينقذكم منه [والله سبحانه وتعالى أعلم] (8) .
{ أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69) } .
يقول تعالى: { أَمْ أَمِنْتُمْ } أيها المعرضون عنا بعدما اعترفوا بتوحيدنا في البحر، وخرجوا إلى البر (9) { أَنْ يُعِيدَكُمْ } في البحر مرة ثانية { فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ } أي: يقصف الصواري
__________
(1) في ف: "فجاءهم".
(2) في ت: "فأضع"، وفي ف: "فلأضعن".
(3) في أ: "يدي محمد".
(4) في ت: " صلى الله عليه وسلم فأحسن".
(5) في ت، "أن يخرجوكم"، وفي ف، أ: "أن يخرجكم".
(6) في ف: "عليكم" وهو خطأ.
(7) في ت، ف، أ: "من طين" وهو خطأ.
(8) زيادة من ف.
(9) في ت: "إلى التراب".
(5/96)
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)
ويغرق المراكب.
قال ابن عباس وغيره: القاصف: ريح البحار (1) التي تكسر المراكب وتغرقها (2) .
وقوله: { فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ } (3) أي: بسبب كفركم وإعراضكم عن الله تعالى.
وقوله: { ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا } قال ابن عباس: نصيرًا.
وقال مجاهد: نصيرًا ثائرًا، أي: يأخذ بثأركم بعدكم.
وقال قتادة: ولا نخاف أحدًا يتبعنا بشيء من ذلك.
{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا (70) } .
يخبر تعالى عن تشريفه لبني آدم، وتكريمه إياهم، في خلقه لهم على أحسن الهيئات وأكملها (4) كما قال: { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [ التين: 4 ] أي: يمشي قائمًا منتصبًا على رجليه، ويأكل بيديه -وغيره من الحيوانات يمشي على أربع ويأكل بفمه -وجعل له سمعًا وبصرًا وفؤادًا، يفقه بذلك كله وينتفع به، ويفرق بين الأشياء، ويعرف منافعها وخواصها ومضارها في الأمور الدنيوية والدينية.
{ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ } (5) أي: على الدواب من الأنعام والخيل والبغال، وفي "البحر" أيضًا على السفن الكبار والصغار.
{ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ } أي: من زروع وثمار، ولحوم وألبان، من سائر أنواع الطعوم (6) والألوان، المشتهاة اللذيذة، والمناظر الحسنة، والملابس الرفيعة (7) من سائر الأنواع، على اختلاف أصنافها وألوانها وأشكالها، مما يصنعونه لأنفسهم، ويجلبه إليهم غيرهم من أقطار الأقاليم والنواحي.
{ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا } أي: من سائر الحيوانات وأصناف المخلوقات.
وقد استُدل بهذه الآية على أفضلية جنس البشر على جنس الملائكة، قال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن زيد بن أسلم قال: قالت الملائكة: يا ربنا، إنك أعطيت بني آدم الدنيا، يأكلون منها ويتنعمون، ولم تعطنا ذلك فأعطناه في الآخرة. فقال الله: "وعزتي وجلالي لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي، كمن قلت له: كن فكان" (8) .
وهذا الحديث مرسل من هذا الوجه، وقد روي من وجه آخر متصلا.
وقال (9) الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن محمد بن صَدَقَة البغدادي، حدثنا إبراهيم
__________
(1) في ت: "البحارة".
(2) في ف: "يكسر المراكب ويغرقها".
(3) في ت: "فتغرقكم". وفي ف: "فيغرقكم".
(4) في أ: "وأجملها".
(5) في ت، ف: "البر والبحر".
(6) في ت: "الأطعمة".
(7) في ت، ف، أ: "المرتفعة".
(8) تفسير عبد الرزاق (1/325).
(9) في ف: "فقال".
(5/97)
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)
بن عبد الله بن خالد المِصِّيصِيّ، حدثنا حجاج بن محمد، حدثنا أبو غَسَّان محمد بن مطرف، عن صفوان بن سُليم، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الملائكة قالت: يا ربنا، أعطيت بني آدم الدنيا، يأكلون فيها (1) ويشربون ويلبسون، ونحن نسبح بحمدك ولا نأكل ولا نشرب ولا نلهو، فكما جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة. قال: لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي، كمن قلت له: كن، فكان" (2) .
وقد روى ابن عساكر من طريق محمد بن أيوب الرازي، حدثنا الحسن بن علي بن خلف الصيدلاني، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن، حدثني عثمان بن حصن بن عبيدة بن عَلاق، سمعت عروة بن رُوَيْم اللخمي، حدثني أنس بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الملائكة قالوا: ربنا، خلقتنا وخلقت بني آدم، فجعلتهم يأكلون الطعام، ويشربون الشراب، ويلبسون الثياب، ويتزوجون النساء، ويركبون الدواب، ينامون (3) ويستريحون، ولم تجعل لنا من ذلك شيئًا، فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة. فقال الله عز وجل: لا أجعل من خلقته بيدي، ونفخت فيه من روحي، كمن قلت له: كن، فكان" (4) .
وقال الطبراني: حدثنا عبدان بن أحمد، حدثنا عمر (5) بن سهل، حدثنا عبيد الله بن تمام، عن خالد الحذاء، عن بشر بن شِغَاف (6) عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما شيء أكرم على الله يوم القيامة من ابن آدم". قيل: يا رسول الله ولا الملائكة؟ قال: "ولا الملائكة، الملائكة مجبورون بمنزلة الشمس والقمر" (7) . وهذا حديث غريب جدًا.
{ يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا (72) } .
يخبر تبارك وتعالى عن يوم القيامة: أنه يحاسب كل أمة بإمامهم.
وقد اختلفوا في ذلك، فقال مجاهد وقتادة: أي بنبيهم. وهذا كقوله: { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } [ يونس: 47 ].
__________
(1) في ت: "منها".
(2) وفي إسناده إبراهيم بن عبد الله المصيصي وهو كذاب، ورواه في المعجم الأوسط برقم (87) "مجمع البحرين" من طريق طلحة بن زيد عن صفوان بن سليم به، وقال: "لم يروه عن صفوان إلا طلحة، وأبو غسان محمد بن مطرف" وفي إسناده طلحة بن زيد وهو كذاب.
(3) في ت: "وينامون".
(4) وذكره الهندي في كنز العمال (12/191) وعزاه لابن عساكر من حديث أنس، وقد جاء من وجه آخر؛ فرواه الطبراني في مسند الشاميين من طريق أحمد بن يعلى، عن هشام بن عمار، عن عثمان بن علاق قال: سمعت عروة بن رويم يحدث عن جابر فذكره، ورواه البيهقي في الأسماء والصفات من طريق جنيد بن حكيم، عن هشام بن عمار، عن عبد ربه بن صالح قال: سمعت عروة بن رويم يحدث عن جابر فذكره. أ. هـ. مستفادا ذلك الزيلعي في كتابه تخريج الكشاف.
(5) في ت، ف: "معمر".
(6) في ف: "شعاب".
(7) قال الهيثمي في المجمع (1/82): "رواه الطبراني في الكبير، وفيه عبيد الله بن تمام وهو ضعيف".
(5/98)
وقال بعض السلف: هذا أكبر شرف لأصحاب الحديث؛ لأن إمامهم النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن زيد: بكتابهم الذي أنزل على نبيهم، من التشريع.
واختاره ابن جرير، وروي عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد أنه قال: بكتبهم. فيحتمل أن يكون أراد هذا، وأن يكون أراد ما رواه العوفي عن ابن عباس في قوله: { يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } أي: بكتاب أعمالهم، وكذا قال أبو العالية، والحسن، والضحاك. وهذا القول هو الأرجح؛ لقوله تعالى: { وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ } [يس : 12] . وقال تعالى: { وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [الكهف : 49] .
وقال تعالى: { وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [الجاثية : 28 ، 29] .
وهذا لا ينافي (1) أن يجاء بالنبي إذا حكم الله بين أمته، فإنه لا بد أن يكون شاهدا عليها بأعمالها، كما قال: { وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ } [الزمر : 69] ، وقال { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا } [النساء : 41] ..
ولكن المراد هاهنا بالإمام (2) هو كتاب الأعمال؛ ولهذا قال تعالى: { يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ } أي: من فرحته وسروره بما فيه من العمل الصالح، يقرؤه ويحب قراءته، كما قال تعالى: { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ } إلى أن قال: { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ } [الحاقة : 19 -26] ..
وقوله: { وَلا يُظْلَمُونَ (3) فَتِيلا } قد تقدم أن "الفتيل" هو الخيط المستطيل في شق النواة.
وقد روى الحافظ أبو بكر البزار حديثًا في هذا فقال: حدثنا محمد بن يَعْمَر (4) ومحمد بن عثمان بن كرامة قالا حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن السُّدِّيّ، عن أبيه، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله: { يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } قال: "يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه، ويمد له في جسمه، ويُبَيَّض وجهه، ويجعل على رأسه تاج من لؤْلؤة تَتَلألأ فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد، فيقولون: اللهم ائتنا (5) بهذا، وبارك لنا في هذا. فيأتيهم فيقول لهم: أبشروا، فإن لكل رجل منكم مثل هذا. وأما الكافر فَيُسْود وجهه، ويمدّ له في جسمه، ويراه أصحابه فيقولون: نعوذ بالله من هذا -أو: من شر هذا -اللهم لا تأتنا به. فيأتيهم فيقولون: اللهم اخزه (6) فيقول: أبعدكم الله، فإن لكل رجل منكم مثل هذا".
__________
(1) في ت، ف: "لا ينفي".
(2) في ف: "بالإمام هاهنا".
(3) في ف: "تظلمون".
(4) في ت، ف، أ: "معمر".
(5) في هـ، ت: "اعترينا"، والمثبت من ف.
(6) في ت: "أجرنا".
(5/99)
وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)
ثم قال البزار: لا يروى إلا من هذا الوجه (1) .
وقوله: { وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا } قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وابن زيد: { وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ } أي: في الحياة الدنيا { أَعْمَى } عن حجج الله وآياته وبيناته { فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى } أي: كذلك يكون { وَأَضَلُّ سَبِيلا } أي: وأضل منه كما كان في الدنيا، عياذًا بالله من ذلك.
{ وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلا (73) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا (74) إِذًا لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) } .
يخبر تعالى عن تأييد (2) رسوله، صلوات الله عليه وسلامه (3) ، وتثبيته، وعصمته وسلامته من شر الأشرار وكيد الفجار، وأنه تعالى هو المتولي أمره ونصره، وأنه لا يكله إلى أحد من خلقه، بل هو وليه وحافظه وناصره ومؤيده ومظفره، ومظهر (4) دينه على من عاداه وخالفه وناوأه، في مشارق الأرض ومغاربها، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرًا إلى يوم الدين.
__________
(1) ورواه الترمذي في السنن برقم (3136) من طريق عبد الله بن عبد الرحمن، عن عبيد الله بن موسى به، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب".
(2) في ف: "تأييده".
(3) في ت: "صلوات الله وسلامه عليه".
(4) في ت: "فيظهر".
============
الإسراء - تفسير القرطبي
الآية: 67 {وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا}
قوله تعالى: "وإذا مسكم الضر في البحر" "الضر" لفظ يعم خوف الغرق والإمساك عن الجري. وأهوال حالاته اضطرابه وتموجه. "ضل من تدعون إلا إياه" "ضل" معناه تلف وفقد؛ وهي عبارة تحقير لمن يدعي إلها من دون الله. المعنى في هذه الآية: أن الكفار إنما يعتقدون في أصنامهم أنها شافعة، وأن لها فضلا. وكل واحد منهم بالفطرة يعلم علما لا يقدر على مدافعته أن الأصنام لا فعل لها في الشدائد العظام، فوقفهم الله من ذلك على حالة البحر حيث تنقطع الحيل. "فلما نجاكم إلى البر أعرضتم" أي عن الإخلاص. "وكان الإنسان كفورا" الإنسان هنا الكافر. وقيل: وطبع الإنسان كفورا للنعم إلا من عصمه الله؛ فالإنسان لفظ الجنس.
الآية: 68 {أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا}
قوله تعالى: "أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر" بين أنه قادر على هلاكهم في البر وإن سلموا من البحر. والخسف: أن تنهار الأرض بالشيء؛ يقال: بئر خسيف إذا انهدم أصلها. وعين خاسف أي غارت حدقتها في الرأس. وعين من الماء خاسفو أي غاز ماؤها. وخسفت الشمس أي غابت عن الأرض. وقال أبو عمرو: والخسيف البئر التي تحفر في الحجارة فلا ينقطع ماؤها كثرة. والجمع خسف. وجانب البر: ناحية الأرض؛ وسماه جانبا لأنه يصير بعد الخسف جانبا. وأيضا فإن البحر جانب والبر جانب. وقيل: إنهم كانوا على ساحل البحر، وساحله جانب البر، وكانوا فيه آمنين من أهوال البحر، فحذرهم ما أمنوه من البر كما حذرهم ما خافوه من البحر. "أو يرسل عليكم حاصبا" يعني ريحا شديدة، وهي التي ترمي بالحصباء، وهي الحصى الصغار؛ قاله أبو عبيدة والقتبي. وقال قتادة: يعني حجارة من السماء تحصبهم، كما فعل بقوم لوط. ويقال للسحابة التي ترمي بالبرد: صاحب، وللريح التي تحمل التراب والحصباء حاصب وحصبة أيضا. قال لبيد:
جرت عليها أن خوت من أهلها أذيالها كل عصوف حصبه
وقال الفرزدق:
مستقبلين شمال الشام يضربنا بحاصب كنديف القطن منثور
"ثم لا تجدوا لكم وكيلا" أي حافظا ونصيرا يمنعكم من بأس الله.
الآية: 69 {أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا}
قوله تعالى: "أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى" يعني في البحر. "فيرسل عليكم قاصفا من الريح" القاصف: الريح الشديدة التي تكسر بشدة؛ من قصف الشيء يقصفه؛ أي كسره بشدة. والقصف: الكسر؛ يقال: قصفت الريح السفينة. وريح قاصف: شديدة. ورعد قاصف: شديد الصوت. يقال: قصف الرعد وغيره قصيفا. والقصيف: هشيم الشجر. والتقصف التكسر. والقصف أيضا: اللهو واللعب؛ يقال: إنها مولدة. "فيغرقكم بما كفرتم" أي بكفركم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو "نخسف بكم" "أو نرسل عليكم" "أن نعيدكم" "فنرسل عليكم" "فنغرقكم" بالنون في الخمسة على التعظيم، لقوله: "علينا" الباقون بالياء؛ لقوله في الآية قبل: "إياه". وقرأ أبو جعفر وشيبة ورويس ومجاهد "فتغرقكم" بالتاء نعتا للريح. وعن الحسن وقتادة "فيغرقكم" بالياء مع التشديد في الراء. وقرأ أبو جعفر "الرياح" هنا وفي كل القرآن. وقيل: إن القاصف المهلكة في البر، والعاصف المغرقة في البحر؛ حكاه الماوردي. "ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا" قال مجاهد: ثائرا. النحاس: وهو من الثأر. وكذلك يقال لكل من طلب بثأر أو غيره: تبيع وتابع؛ ومنه "فاتباع بالمعروف" [البقرة: 178] أي مطالبة.
الآية: 70 {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا}
قوله تعالى: "ولقد كرمنا بني آدم" الآية. لما ذكر من الترهيب ما ذكر بين النعمة عليهم أيضا. "كرمنا" تضعيف كرم؛ أي جعلنا لهم كرما أي شرفا وفضلا. وهذا هو كرم نفي النقصان لا كرم المال. وهذه الكرامة يدخل فيها خلقهم على هذه الهيئة في امتداد القامة وحسن الصورة، وحملهم في البر والبحر مما لا يصح لحيوان سوى بني آدم أن يكون يتحمل بإرادته وقصده وتدبيره. وتخصيصهم بما خصهم به من المطاعم والمشارب والملابس، وهذا لا يتسع فيه حيوان اتساع بني آدم؛ لأنهم يكسبون المال خاصة دون الحيوان، ويلبسون الثياب ويأكلون المركبات من الأطعمة. وغاية كل حيوان يأكل لحما نيئا أو طعاما غير مركب. وحكى الطبري عن جماعة أن التفضيل هو أن يأكل بيده وسائر الحيوان بالفم. وروي عن ابن عباس؛ ذكره المهدوي والنحاس؛ وهو قول الكلبي ومقاتل؛ ذكره الماوردي. وقال الضحاك: كرمهم بالنطق والتمييز. عطاء: كرمهم بتعديل القامة وامتدادها. يمان: بحسن الصورة. محمد بن كعب: بأن جعل محمدا صلى الله عليه وسلم منهم. وقيل أكرم الرجال باللحى والنساء بالذوائب. وقال محمد بن جرير الطبري: بتسليطهم على سائر الخلق، وتسخير سائر الخلق لهم. وقيل: بالكلام والخط. وقيل: بالفهم والتمييز. والصحيح الذي يعول عليه أن التفضيل إنما كان بالعقل الذي هو عمدة التكليف، وبه يعرف الله ويفهم كلامه، ويوصل إلى نعيمه وتصديق رسله؛ إلا أنه لما لم ينهض بكل المراد من العبد بعثت الرسل وأنزلت الكتب. فمثال الشرع الشمس، ومثال العقل العين؛ فإذا فتحت وكانت سليمة رأت الشمس وأدركت تفاصيل الأشياء. وما تقدم من الأقوال بعضه أقوى من بعض. وقد جعل الله في بعض الحيوان خصالا يفضل بها ابن آدم أيضا؛ كجري الفرس وسمعه وإبصاره، وقوة الفيل وشجاعة الأسد وكرم الديك. وإنما التكريم والتفضيل بالعقل كما بيناه. والله اعلم.
قالت فرقة: هذه الآية تقتضي تفضيل الملائكة على الإنس والجن من حيث إنهم المستثنون في قوله تعالى: "ولا الملائكة المقربون" [النساء: 171]. وهذا غير لازم من الآية، بل التفضيل فيها بين الإنس والجن؛ فإن هذه الآية إنما عدد الله فيها على بني آدم ما خصهم به من سائر الحيوان، والجن هو الكثير المفضول، والملائكة هم الخارجون عن الكثير المفضول، ولم تتعرض الآية لذكرهم، بل يحتمل أن الملائكة أفضل، ويحتمل العكس، ويحتمل التساوي، وعلى الجملة فالكلام لا ينتهي في هذه المسألة إلى القطع. وقد تحاشى قوم من الكلام في هذا كما تحاشوا من الكلام في تفضيل بعض الأنبياء على بعض؛ إذ في الخبر (لا تخايروا بين الأنبياء ولا تفضلوني على يونس بن متى). وهذا ليس بشيء؛ لوجود النص في القرآن في التفضيل بين الأنبياء. وقد بيناه في "البقرة" ومضى فيها الكلام في تفضيل الملائكة والمؤمن.
قوله تعالى: "ورزقناهم من الطيبات" يعني لذيذ المطاعم المشارب. قال مقاتل: السمن والعسل والزبد والتمر والحلوى، وجعل رزق غيرهم ما لا يخفى عليكم من التبن والعظام وغيرها. "وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا" أي على البهائم والدواب والوحش والطير بالغلبة والاستيلاء، والثواب والجزاء والحفظ والتمييز وإصابة الفراسة.
هذه الآية ترد ما روي عن عائشة رضي الله عنها، قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (احرموا أنفسكم طيب الطعام فإنما قوى الشيطان أن يجري في العروق منها). وبه يستدل كثير من الصوفية في ترك أكل الطيبات، ولا أصل له؛ لأن القرآن يرده، والسنة الثابتة بخلافه، على ما تقرر في غير موضع. وقد حكى أبو حامد الطوسي قال: كان سهل يقتات من ورق النبق مدة. وأكل دقاق ورق التين ثلاث سنين. وذكر إبراهيم بن البنا قال: صحبت ذا النون من إخميم إلى الإسكندرية، فلما كان وقت إفطاره أخرجت قرصا وملحا كان معي، وقلت: هلم. فقال لي: ملحك مدقوق؟ قلت نعم. قال: لست تفلح! فنظرت إلى مزوده وإذا فيه قليل سويق شعير يسف منه. وقال أبو يزيد: ما أكلت شيئا مما يأكله بنو آدم أربعين سنة. قال علماؤنا: وهذا مما لا يجوز حمل النفس عليه؛ لأن الله تعالى أكرم الآدمي بالحنطة وجعل قشورها لبهائمهم، فلا يصح مزاحمة الدواب في أكل التبن، وأما سويق الشعير فإنه يورث القولنج، وإذا اقتصر الإنسان على خبز الشعير والملح الجريش فإنه ينحرف مزاجه؛ لأن خبز الشعير بارد مجفف، والملح يابس قابض يضر الدماغ والبصر. وإذا مالت النفس إلى ما يصلحها فمنعت فقد قوومت حكمة البارئ سبحانه بردها، ثم يؤثر ذلك في البدن، فكان هذا الفعل مخالفا للشرع والعقل. ومعلوم أن البدن مطية الآدمي، ومتى لم يرفق بالمطية لم تبلغ. وروي عن إبراهيم بن أدهم أنه اشترى زبدا وعسلا وخبز حُوارى، فقيل له: هذا كله؟ فقال: إذا وجدنا أكلنا أكل الرجال، وإذا عدمنا صبرنا صبر الرجال. وكان الثوري يأكل اللحم والعنب والفالوذج ثم يقوم إلى الصلاة. ومثل هذا عن السلف كثير. وقد تقدم منه ما يكفي في المائدة والأعراف وغيرهما. والأول غلو في الدين إن صح عنهم "ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم" [الحديد:27].
الآية: 71 {يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرؤون كتابهم ولا يظلمون فتيلا}
قوله تعالى: "يوم ندعو كل أناس بإمامهم" روى الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: "يوم ندعو كل أناس بإمامهم" قال: (يدعي أحدهم فيعطي كتابه بيمينه، ويمد له في جسمه ستون ذراعا، ويبيض وجهه ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤ يتلألأ فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد فيقولون اللهم ائتنا بهذا وبارك لنا في هذا حتى يأتيهم فيقول أبشروا لكل منكم مثل هذا - قال - وأما الكافر فيسود وجهه ويمد له في جسمه ستون ذرعا على صورة آدم ويلبس تاجا فيراه أصحابه فيقولون نعوذ بالله من شر هذا! اللهم لا تأتنا بهذا. قال: فيأتيهم فيقولون اللهم أخره. فيقول أبعدكم الله فإن لكل رجل منكم مثل هذا). قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. ونظير هذا قوله: "وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعي إلى كتابهم اليوم تجزون ما كنتم تعملون". والكتاب يسمى إماما؛ لأنه يرجع إليه في تعرف أعمالهم. وقال ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك: "بإمامهم" أي بكتابهم، أي بكتاب كل إنسان منهم الذي فيه عمله؛ دليله "فمن أوتي كتابه بيمينه". وقال ابن زيد: بالكتاب المنزل عليهم. أي يدعي كل إنسان بكتابه الذي كان يتلوه؛ فيدعي أهل التوراة بالتوراة، وأهل القرآن بالقرآن؛ فيقال: يأهل القرآن، ماذا عملتم، هل امتثلتم أوامره هل اجتنبتم نواهيه! وهكذا. وقال مجاهد: "بإمامهم" بنبيهم، والإمام من يؤتم به. فيقال: هاتوا متبعي إبراهيم عليه السلام، هاتوا متبعي موسى عليه السلام، هاتوا متبعي الشيطان، هاتوا متبعي الأصنام. فيقوم أهل الحق فيأخذون كتابهم بأيمانهم، ويقوم أهل الباطل فيأخذون كتابهم بشمالهم. وقاله قتادة. وقال على رضى الله عنه: بإمام عصرهم. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "يوم ندعو كل أناس بإمامهم" فقال: (كل يدعي بإمام زمانهم وكتاب ربهم وسنة نبيهم فيقول هاتوا متبعي إبراهيم هاتوا متبعي موسى هاتوا متبعي عيسى هاتوا متبعي محمد - عليهم أفضل الصلوات والسلام - فيقوم أهل الحق فيأخذون كتابهم بأيمانهم، ويقول: هاتوا متبعي الشيطان هاتوا متبعي رؤساء الضلالة إمام هدى وإمام ضلالة). وقال الحسن وأبو العالية: "بإمامهم" أي بأعمالهم. وقاله ابن عباس. فيقال: أين الراضون بالمقدور، أين الصابون عن المحذور. وقيل: بمذاهبهم؛ فيدعون بمن كانوا يأتمون به في الدنيا: يا حنفي، يا شافعي، يا معتزلي، يا قدري، ونحوه؛ فيتبعونه في خير أو شر أو على حق أو باطل، وهذا معنى قوله أبي عبيدة. وقد تقدم. وقال أبو هريرة: يدعي أهل الصداقة من باب الصداقة، وأهل الجهاد من باب الجهاد...، الحديث بطوله. أبو سهل: يقال أين فلان المصلي والصوام، وعكسه الدفاف والنمام. وقال محمد بن كعب: "بإمامهم" بأمهاتهم. وإمام جمع آم. قالت الحكماء: وفي ذلك ثلاثة أوجه من الحكمة؛ أحدها - لأجل عيسى. والثاني - إظهار لشرف الحسن والحسين. والثالث - لئلا يفتضح أولاد الزنى.
قلت: وفي هذا القول نظر؛ فإن في الحديث الصحيح عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيام يرفع لكل غادر لواء فيقال هذه غدرة فلان بن فلان) خرجه مسلم والبخاري. فقوله: "هذه غدرة فلان ابن فلان" دليل على أن الناس يدعون في الآخرة بأسمائهم وأسماء آبائهم، وهذا يرد على من قال: إنما يدعون بأسماء أمهاتهم لأن في ذلك سترا على آبائهم. والله أعلم.
قوله تعالى: "فمن أوتي كتابه بيمينه" هذا يقوي قول من قال: "بإمامهم" بكتابهم ويقويه أيضا قوله: "وكل شيء أحصيناه في إمام مبين" [يس:12]. "فأولئك يقرؤون كتابهم ولا يظلمون فتيلا" الفتيل الذي في شق النواة. وقد مضى في "النساء".
الآية: 72 {ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا}
قوله تعالى: "ومن كان في هذه أعمى" أي في الدنيا عن الاعتبار وإبصار الحق. "فهو في الآخرة" أي في أمر الآخرة "أعمى" وقال عكرمة: جاء نفر من أهل اليمن إلى ابن عباس فسألوه عن هذه الآية فقال: اقرؤوا ما قبلها "ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر - إلى - تفضيلا". قال ابن عباس: من كان في هذه النعم والآيات التي رأى أعمى فهو عن الآخرة التي لم يعاين أعمى وأضل سبيلا. وقيل: المعنى من عمى عن النعم التي أنعم الله بها عليه في الدنيا فهو عن نعم الآخرة أعمى. وقيل: المعنى من كان في الدنيا التي أمهل فيها وفسح له ووعد بقبول التوبة أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا. وقيل: ومن كان في الدنيا أعمى عن حجج الله بعثه الله يوم القيامة أعمى؛ كما قال: "ونحشره يوم القيامة أعمى" الآيات. وقال: "ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم". وقيل: المعنى في قوله "فهو في الآخرة أعمى" في جميع الأقوال: أشد عمى؛ لأنه من عمى القلب، ولا يقال مثله في عمى العين. قال الخليل وسيبويه: لأنه خلقة بمنزلة اليد والرجل، فلم يقل ما أعماه كما لا يقال ما أيداه. الأخفش: لم يقل فيه ذلك لأنه على أكثر من ثلاثة أحرف، وأصله أعمى. وقد أجاز بعض النحويين ما أعماه وما أعشاه؛ لأن فعله عمى وعشى. وقال الفراء: حدثني بالشام شيخ بصرى أنه سمع العرب تقول: ما أسود شعره. قال الشاعر:
ما في المعالي لكم ظل ولا ثمر وفي المخازى لكم أشباح أشياخ
أما الملوك فأنت اليوم ألأمهم لؤما وأبيضهم سربال طباخ
وأمال أبو بكر وحمزة والكسائي وخلف الحرفين "أعمى" و"أعمى" وفتح الباقون. وأمال أبو عمرو الأول وفتح الثاني. "وأضل سبيلا" يعني أنه لا يجد طريقا إلى الهداية.
الآية: 73 {وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا}
قوله تعالى: "وإن كادوا ليفتنونك" قال سعيد بن جبير: كان النبي صلى الله عليه وسلم يستلم الحجر الأسود في طوافه، فمنعته قريش وقالوا: لا ندعك تستلم حتى تُلِم بآلهتنا. فحدث نفسه وقال: (ما علي أن أُلِم بها بعد أن يدعوني أستلم الحجر والله يعلم أني لها كاره) فأبى الله تعالى ذلك وأنزل عليه هذه الآية؛ قال مجاهد وقتادة. وقال ابن عباس في رواية عطاء: نزلت في وفد ثقيف، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه شططا وقالوا: متعنا بآلهتنا سنة حتى نأخذ ما يهدى لها، فإذا أخذناه كسرناها وأسلمنا، وحرم وادينا كما حرمت مكة، حتى تعرف العرب فضلنا عليهم؛ فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم ذلك فنزلت هذه الآية. وقيل: هو قول أكابر قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد عنا هؤلاء السقاط والموالي حتى نجلس معك ونسمع منك؛ فهم بذلك حتى نهي عنه. وقال قتادة ذكر لنا أن قريشا خلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة إلى الصبح يكلمونه ويفخمونه، ويسودونه ويقاربونه؛ فقالوا: إنك تأتي بشيء لا يأتي به أحد من الناس، وأنت سيدنا يا سدنا؛ وما زالوا به حتى كاد يقاربهم في بعض ما يريدون، ثم عصمه الله من ذلك، وأنزل الله تعالى هذه الآية. ومعنى "ليفتنونك" أي يزيلونك. يقال: فتنت الرجل عن رأيه إذا أزلته عما كان عليه؛ قاله الهروي. وقيل يصرفونك، والمعنى واحد. "عن الذي أوحينا إليك" أي حكم القرآن؛ لأن في إعطائهم ما سألوه مخالفة لحكم القرآن. "لتفتري علينا غيره" أي لتختلق علينا غير ما أوحينا إليك، وهو قول ثقيف: وحرم وادينا كما حرمت مكة، شجرها وطيرها ووحشها، فإن سألتك العرب لم خصصتهم فقل الله أمرني بذلك حتى يكون عذرا لك. "وإذا لاتخذوك خليلا" أي لو فعلت ما أرادوا لاتخذوك خليلا، أي والوك وصافوك؛ مأخوذ من النخلة (بالضم) وهي الصداقة لممايلته لهم. وقيل: "لاتخذوك خليلا" أي فقيرا. مأخوذ من الخلة (بفتح الخاء) وهي الفقر لحاجته إليهم.
الآيتان: 74 - 75 {ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا، إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا}
قوله تعالى: "ولولا أن ثبتناك" أي على الحق وعصمناك من موافقتهم. "لقد كدت تركن إليهم" أي تميل. "شيئا قليلا" أي ركونا قليلا. قال قتادة: لما نزلت هذه الآية قال عليه السلام: (اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين). وقيل: ظاهر الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وباطنه إخبار عن ثقيف. والمعنى: وإن كادوا ليركنونك، أي كادوا يخبرون عنك بأنك ملت إلى قولهم؛ فنسب فعلهم إليه مجازا واتساعا؛ كما تقول لرجل: كدت تقتل نفسك، أي كاد الناس يقتلونك بسبب ما فعلت؛ ذكره المهدوي. وقيل ما كان منه هم بالركون إليهم، بل المعنى: ولولا فضل الله عليك لكان منك ميل إلى موافقتهم، ولكن تم فضل الله عليك فلم تفعل؛ ذكره القشيري. وقال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوما، ولكن هذا تعريف للأمة لئلا يركن أحد منهم إلى المشركين في شيء من أحكام الله تعالى وشرائعه.
وقوله: "إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات" أي لو ركنت لأذقناك مثلي عذاب الحياة في الدنيا ومثلي عذاب الممات في الآخرة؛ قاله ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وهذا غاية الوعيد. وكلما كانت الدرجة أعلى كان العذاب عند المخالفة أعظم. قال الله تعالى: "يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين" [الأحزاب: 30] وضعف الشيء مثله مرتين، وقد يكون الضعف النصيب؛ كقوله عز وجل: "لكل ضعف" [الأعراف: 38] أي نصيب. وقد تقدم في الأعراف.
=================
الإسراء - تفسير الطبري
وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا (67) }
يقول تعالى ذكره: وإذا نالتكم الشدّة والجهد في البحر ضلّ من تدعون: يقول: فقدتّم من تدعون من دون الله من الأنداد والآلهة، وجار عن طريقكم فلم يغثكم، ولم تجدوا غير الله مغيثا يغيثكم دعوتموه، فلما دعوتموه وأغاثكم، وأجاب دعاءكم ونجاكم من هول ما كنتم فيه في البحر، أعرضتم عما دعاكم إليه ربكم من خلع الأنداد، والبراءة من الآلهة، وإفراده بالألوهة كفرا منكم بنعمته( وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا ) يقول: وكان الإنسان ذا جحد لنعم ربه.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلا (68) }
(17/497)
يقول تعالى ذكره(أَفَأَمِنْتُمْ) أيها الناس من ربكم، وقد كفرتم نعمته بتنجيته إياكم من هول ما كنتم فيه في البحر، وعظيم ما كنتم قد أشرفتم عليه من الهلاك، فلما نجاكم وصرتم إلى البرّ كفرتم، وأشركتم في عبادته غيره( أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ ) يعني ناحية البر( أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ) يقول: أو يمطركم حجارة من السماء تقتلكم، كما فعل بقوم لوط( ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلا ) يقول: ثم لا تجدوا لكم ما يقوم بالمدافعة عنكم من عذابه وما يمنعكم منه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد ، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله( أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ) يقول: حجارة من السماء( ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلا ) أي منعة ولا ناصرا.
حدثنا القاسم، قال : ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، في قوله( أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ) قال: مطر الحجارة إذا خرجتم من البحر.
وكان بعض أهل العربية يوجه تأويل قوله( أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ) إلى: أو يرسل عليكم ريحا عاصفا تحصب، ويستشهد لقوله ذلك بقول الشاعر:
مُسْتَقْبِلِينَ شَمالَ الشَّامِ تَضْرِبُنَا... بِحاصِبٍ كنَدِيفِ القُطْنِ مَنْثُورِ (1)
وأصل الحاصب: الريح تحصب بالحصباء؛ الأرض فيها الرمل والحصى الصغار. يقال في الكلام: حصب فلان فلانا: إذا رماه بالحصباء، وإنما
__________
(1) البيت للفرزدق من قصيدة يمدح بها يزيد بن عبد الملك، ويهجو يزيد بن المهلب، (ديوانه طبعة الصاوي 262-267). استشهد به المؤلف على أن الحاصب: الريح التي تحمل الحصباء وهي صغار الحصى، والبيت شاهد على أن الحاصب مطر الحجارة، وأن أصل الحاصب الريح تحصب بالحصباء، والحصباء الأرض فيها الرمل والحصى الصغار، كما أوضحه المؤلف.
(17/498)
أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)
وُصفت الريح بأنها تحصب لرميها الناس بذلك، كما قال الأخطل:
ولَقَدْ عَلمْتُ إذَا العِشارُ تَرَوَّحَتْ... هدْجَ الرّئالِ تَكبُّهُنَّ شَمالا... تَرْمي العضَاهُ بِحاصِبٍ مِنْ ثَلْجها... حتى يَبِيتُ عَلى العِضَاهِ جِفالا (1)
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69) }
يقول تعالى ذكره: أم أمنتم أيها القوم من ربكم ، وقد كفرتم به بعد إنعامه عليكم، النعمة التي قد علمتم أن يعيدكم في البحر تارة أخرى: يقول: مرّة أخرى، والهاء التي في قوله "فيه" من ذكر البحر.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى ) : أي في البحر مرّة أخرى( فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ ) وهي التي تقصف ما مرّت به فتحطمه وتدقه، من قولهم: قصف فلان ظهر فلان: إذا كسره( فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ) يقول: فيغرقكم الله بهذه الريح القاصف بما كفرتم، يقول: بكفركم به( ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا ) يقول: ثم لا تجدوا لكم علينا تابعا يتبعنا بما فعلنا بكم، ولا ثائرا يثأرنا بإهلاكنا إياكم، وقيل: تبيعا في موضع التابع، كما قيل: عليم في موضع عالم. والعرب تقول لكل طالب بدم أو دين
__________
(1) البيتان للأخطل (ديوانه طبع بيروت سنة 1891) من قصيدة يهجوا بها جريرا، ويفتخر على قيس.والعشار: جمع عشراء من الإبل، وهي التي قد أتى عليها عشرة أشهر وهي حامل. وتروحت: أي ذهبت في الرواح وهو المشي إلى حظائرها. والرئال: جمع رأل، وهو ولد النعامة. والهدج: عدو متقارب. وتكبهن: تسقطهن، يريد تكبهن الريح وهي هابة شمالا. والحاصب: ما تناثر من دقاق الثلج. والضمير في ترمي: راجع إلى ريح الشمال. والعضاه: كل شجر له شوك، أو كل شجرة واسعة الظل، كثيرة الأفنان، واحدته: عضة. والجفال: ما تراكم من الثلج وتراكب. وهذا الشاهد في معنى الذي قبله.
(17/499)
أو غيره: تبيع. ومنه قول الشاعر:
عَدَوْا وَعَدَتْ غزلانهم فَكأنَّهَا... ضَوَامنُ غُرمٍ لَزّهُنَّ تَبِيعُ (1)
وبنحو الذي قلنا في القاصف والتبيع، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ بن داود، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله( فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ ) يقول: عاصفا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: قاصفا التي تُغْرق.
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله( ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا ) يقول نصيرا.
حدثني محمد بن عمرو ، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحرث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال محمد: ثائرا، وقال الحرث: نصيرا ثائرا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد( ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا ) قال: ثائرا.
حدثنا بشر ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا ) أي لا نخاف أن نتبع بشيء من ذلك.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة( ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا ) يقول: لا يتبعنا أحد بشيء من ذلك، والتارة: جمعه تارات وتير، وأفعلت منه: أترت.
__________
(1) البيت: شاهد على أن معنى التبيع في الآية: كل طالب بدم أو دين أو غيره. قال أبو عبيدة في مجاز القرآن (1: 385) أي من يتبعنا لكم تبيعة، ولا طالبا لنا بها. وفي (اللسان: تبع): والتبيع التابع، وقول القرآن "ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا": قال الفراء: أي ثائرا ولا طالبا بالثأر، لإغراقنا إياكم. وقال الزجاج: معناه: لا تجدوا من يتبعنا بإنكار ما نزل بكم، ولا من يتبعنا بأن يصرفه عنكم. وقيل: تبيعا: مطالبا. ومنه قوله تعالى: "فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان" يقول: على صاحب الدم اتباع بالمعروف، أي المطالبة بالدية، وعلى المطالب أداء إليه بإحسان.
(17/500)
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70) يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا (70) }
يقول تعالى ذكره( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ) بتسليطنا إياهم على غيرهم من الخلق، وتسخيرنا سائر الخلق لهم( وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ ) على ظهور الدوابّ والمراكب( و) في( البَحْرِ) في الفلك التي سخرناها لهم( وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ) يقول: من طيبات المطاعم والمشارب، وهي حلالها ولذيذاتها( وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا ) ذكر لنا أن ذلك تمكنهم من العمل بأيديهم، وأخذ الأطعمة والأشربة بها ورفعها بها إلى أفواههم، وذلك غير متيسر لغيرهم من الخلق.
كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ).... الآية، قال( وَفَضَّلْنَاهُمْ ) في اليدين يأكل بهما، ويعمل بهما، وما سوى الإنس يأكل بغير ذلك.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن زيد بن أسلم، في قوله( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ) قال: قالت الملائكة: يا ربنا إنك أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون منها، ويتنعَّمون، ولم تعطنا ذلك، فأعطناه في الآخرة، فقال: وعزّتي لا أجعل ذرّية من خلقت بيدي، كمن قلت له كن فكان.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا (71) }
(17/501)
اختلفت أهل التأويل في معنى الإمام الذي ذكر الله جلّ ثناؤه أنه يدعو كلّ أناس به، فقال بعضهم: هو نبيّه، ومن كان يقتدى به في الدنيا ويأتمّ به.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: ثنا فضيل، عن ليث، عن مجاهد( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ) قال: نبيهم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزّة، عن مجاهد( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ) قال: نبيهم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد( بِإِمَامِهِمْ ) قال: نبيهم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد مثله.
حدثنا محمد، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة( كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ) قال: نبيهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قالا ثنا سعيد، عن قتادة، مثله.
وقال آخرون: بل معنى ذلك أنه يدعوهم بكتب أعمالهم التي عملوها في الدنيا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ) قال: الإمام: ما عمل وأملى، فكتب عليه، فمن بعث متقيا لله جَعَل كتابه بيمينه، فقرأه واستبشر، ولم يظلم فتيلا وهو مثل قوله( وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ ) والإمام: ما أملى وعمل.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ) قال: بأعمالهم.
حدثنا محمد، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: قال الحسن: بكتابهم الذي فيه أعمالهم.
(17/502)
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ) يقول: بكتابهم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، قال: بأعمالهم.
وقال آخرون: بل معناه: يوم ندعو كلّ أناس بكتابهم الذي أنزلت عليهم فيه أمري ونهيي.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت يحيى بن زيد في قول الله عزّ وجلّ( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ) قال: بكتابهم الذي أنزل عليهم فيه أمر الله ونهيه وفرائضه، والذي عليه يحاسبون، وقرأ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) قال: الشرعة: الدين، والمنهاج: السنة، وقرأ( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا ) قال: فنوح أوّلهم، وأنت آخرهم.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ) بكتابهم.
وأولى هذه الأقوال عندنا بالصواب، قول من قال: معنى ذلك: يوم ندعو كلّ أناس بإمامهم الذي كانوا يقتدون به، ويأتمُّون به في الدنيا، لأن الأغلب من استعمال العرب الإمام فيما ائتمّ واقتدي به، وتوجيه معاني كلام الله إلى الأشهر أولى ما لم تثبت حجة بخلافه يجب التسليم لها.
وقوله( فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ) يقول: فمن أعطي كتاب عمله بيمينه( فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ ) ذلك حتى يعرفوا جميع ما فيه( وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا ) يقول تعالى ذكره: ولا يظلمهم الله من جزاء أعمالهم فتيلا وهو المنفتل الذي في شقّ بطن النواة. وقد مضى البيان عن الفَتيل بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قوله( وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا ) قال: الذي في شقّ النواة.
(17/503)
وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا (72) }
اختلف أهل التأويل في المعنى الذي أشير إليه بقوله هذه ، فقال بعضهم: أشير بذلك إلى النعم التي عدّدها تعالى ذكره بقوله( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا ) فقال( وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا ).
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن محمد بن أبي موسى، قال: سئل عن هذه الآية( وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا ) فقال: قال( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا ) قال: من عمي عن شكر هذه النعم في الدنيا، فهو في الآخرة أعمى وأضلّ سبيلا.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ومن كان في هذه الدنيا أعمى عن قُدرة الله فيها وحججه، فهو في الآخرة أعمى.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ بن داود، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله( وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى ) يقول: من عمي عن قُدرة الله في الدنيا( فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى ) .
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث ، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد( فِي هَذِهِ أَعْمَى ) قال: الدنيا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله( وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى ) يقول: من كان في هذه الدنيا أعمى عما عاين فيها من نعم الله وخلقه وعجائبه( فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا ) فيما يغيب عنه من أمر الآخرة وأعمى.
(17/504)
حدثنا محمد، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة( وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى ) في الدنيا فيما أراه الله من آياته من خلق السماوات والأرض والجبال والنجوم( فَهُوَ فِي الآخِرَةِ ) الغائبة التي لم يرها( أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا ) .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، وسئل عن قول الله تعالى( وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا ) فقرأ( إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ )( وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ) وقرأ( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ) وقرأ حتى بلغ( وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ) قال: كلّ له مطيعون، إلا ابن آدم. قال: فمن كانت في هذه الآيات التي يعرف أنها منا، ويشهد عليها وهو يرى قدرتنا ونعمتنا أعمى، فهو في الآخرة التي لم يرها أعمى وأضلّ سبيلا.
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: معنى ذلك: ومن كان في هذه الدنيا أعمى عن حجج الله على أنه المنفرد بخلقها وتدبيرها، وتصريف ما فيها، فهو في أمر الآخرة التي لم يرها ولم يعاينها، وفيما هو كائن فيها أعمى وأضلّ سبيلا يقول: وأضلّ طريقا منه في أمر الدنيا التي قد عاينها ورآها.
وإنما قلنا: ذلك أولى تأويلاته بالصواب، لأن الله تعالى ذكره لم يخصص في قوله( وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ ) الدنيا( أَعْمَى ) عمى الكافر به عن بعض حججه عليه فيها دون بعض، فيوجه ذلك إلى عماه عن نعمه بما أنعم به عليه من تكريمه بني آدم، وحمله إياهم في البرّ والبحر، وما عدد في الآية التي ذكر فيها نعمه عليهم، بل عمّ بالخبر عن عماه في الدنيا، فهم كما عمّ تعالى ذكره.
واختلف القرّاء في قراءة قوله( فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى ) فكسرت القَرأة جميعا أعني الحرف الأوّل قوله( وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى ) . وأما قوله( فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى ) فإن عامة قرّاء الكوفيين أمالت أيضا قوله( فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى ) وأما بعض قرّاء البصرة فإنه فتحه، وتأوّله بمعنى : فهو في الآخرة أشدّ عمى. واستشهد لصحة قراءته بقوله( وَأَضَلُّ سَبِيلا ) .
(17/505)
وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73)
وهذه القراءة هي أوْلى القراءتين في ذلك بالصواب للشاهد الذي ذكرنا عن قارئه كذلك، وإنما كره من كره قراءته كذلك ظنا منه أن ذلك مقصود به قصد عمى العينين الذي لا يوصف أحد بأنه أعمى من آخر أعمى، إذ كان عمى البصر لا يتفاوت، فيكون أحدهما أزيد عمى من الآخر، إلا بإدخال أشدّ أو أبين، فليس الأمر في ذلك كذلك.
وإنما قلنا: ذلك من عمى القلب الذي يقع فيه التفاوت، فإنما عُنِي به عمى، قلوب الكفار، عن حجج الله التي قد عاينتها أبصارهم، فلذلك جاز ذلك وحسُن.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد( فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى ) قال: أعمى عن حجته في الآخرة.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلا (73) }
اختلف أهل التأويل في الفتنة التي كاد المشركون أن يفتنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بها عن الذي أوحى الله إليه إلى غيره، فقال بعضهم: ذلك الإلمام بالآلهة، لأن المشركين دعوه إلى ذلك، فهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب القُمِّي، عن جعفر، عن سعيد، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم الحجر الأسود، فمنعته قريش، وقالوا: لا ندَعُه حتى يلم بآلهتنا، فحدّث نفسه، وقال: ما عَلَيَّ أنْ أُلِمَّ بِها بَعْدَ أنْ يَدَعُونِي أسْتَلِمُ الحَجَرَ، وَالله يَعْلَمُ أنّي لَهَا كارهٌ، فَأَبى الله، فَأَنزلَ الله( وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ) الآية.
(17/506)
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا ) ذكر لنا أن قريشا خلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة إلى الصبح يكلمونه ويفخمونه ويسوّدونه ويقاربونه، وكان في قولهم أن قالوا: إنك تأتي بشيء لا يأتي به أحد من الناس، وأنت سيدنا وابن سيدنا، فما زالوا يكلِّمونه حتى كاد أن يقارفهم (1) ثم منعه الله وعصمه من ذلك، فقال( وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا ) .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة( لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ) قال: أطافوا به ليلة، فقالوا: أنت سيدنا وابن سيدنا، فأرادوه على بعض ما يريدون فهم أن يقارفهم (2) في بعض ما يريدون، ثم عصمه الله، فذلك قوله( لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا ) الذي أرادوا فهم أن يقارفهم فيه.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسن، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: قالوا له: ائت آلهتنا فامْسَسْها، فذلك قوله( شَيْئًا قَلِيلا ) .
وقال آخرون: إنما كان ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أن ينظر قوما بإسلامهم إلى مدة سألوه الإنظار إليها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ، قوله( وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلا ) وذلك أن ثقيفا كانوا قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أجِّلنا سنة حتى يُهْدَى لآلهتنا، فإذا قبضنا الذي يُهْدى لآلهتنا أخذناه، ثم أسلمنا وكسرنا الآلهة، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم، وأن يؤجِّلهم، فقال الله( وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا ) .
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن نبيّه صلى الله عليه وسلم، أن المشركين كادوا أن يفتنوه عما أوحاه الله إليه
__________
(1) يقارفهم: يقاربهم ويدانيهم (اللسان).
(2) يقارفهم: يقاربهم ويدانيهم (اللسان).
(17/507)
وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)
ليعمل بغيره، وذلك هو الافتراء على الله، وجائز أن يكون ذلك كان ما ذكر عنهم من ذكر أنهم دعوه أن يمسّ آلهتهم، ويلمّ بها، وجائز أن يكون كان ذلك ما ذُكر عن ابن عباس من أمر ثقيف، ومسألتهم إياه ما سألوه مما ذكرنا، وجائز أن يكون غير ذلك، ولا بيان في الكتاب ولا في خبر يقطع العذر أيّ ذلك كان، والاختلاف فيه موجود على ما ذكرنا ، فلا شيء فيه أصوب من الإيمان بظاهره، حتى يأتي خبر يجب التسليم له ببيان ما عُني بذلك منه.
وقوله( وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلا ) يقول تعالى ذكره: ولو فعلت ما دَعَوْك إليه من الفتنة عن الذي أوحينا إليك لاتخذوك إذا لأنفسهم خليلا وكنت لهم وكانوا لك أولياء.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا (74) }
يقول تعالى ذكره: ولولا أن ثبَّتناك يا محمد بعصمتنا إياك عما دعاك إليه هؤلاء المشركون من الفتنة( لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا ) يقول: لقد كدت تميل إليهم وتطمئنّ شيئا قليلا وذلك ما كان صلى الله عليه وسلم همّ به من أن يفعل بعض الذي كانوا سألوه فعله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر حين نزلت هذه الآية، ما حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا سليمان، قال: ثنا أبو هلال، عن قتادة، في قوله(وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تكلني إلى نَفْسي طَرْفَةَ عَيْنٍ .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) }
يقول تعالى ذكره: لو ركنت إلى هؤلاء المشركين يا محمد شيئا قليلا
(17/508)
فيما سألوك إذن لأذقناك ضعف عذاب الحياة، وضعف عذاب الممات.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ، قوله( إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ) يعني: ضعف عذاب الدنيا والآخرة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله( ضِعْفَ الْحَيَاةِ ) قال: عذابها( وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ) قال: عذاب الآخرة.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ) : أي عذاب الدنيا والآخرة.
حدثنا محمد، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة( ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ) قال: عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله( ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ) يعني عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.
وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول في قوله( إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ ) مختصر، كقولك: ضعف عذاب الحياة( وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ) فهما عذابان، عذاب الممات به ضوعف عذاب الحياة. وقوله( ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ) يقول: ثم لا تجد لك يا محمد إن نحن أذقناك لركونك إلى هؤلاء المشركين لو ركنت إليهم، عذاب الحياة وعذاب الممات علينا نصيرا ينصرك علينا، ويمنعك من عذابك، وينقذك مما نالك منا من عقوبة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق